قراءات في أنثى القص
جريدة الغد العراقية
1/14/2015
شوقي كريم حسن
قد تكون اللحظة التي رأيت فيها تلك الفتاة التي كانت تحادث قاصاً بحجم زقورة أور لا تعني ليّ ألكثير فثمة فتيات يتحدثن الى ذاك الذي يشبه الزقورة بكل فخامتها وتآلقها وعتقها الذي يشبه عتق نبيذ سيدوري، كانت الفتاة التي لا أعرف لها أسماً تصغي اليه بوضوح وحرص، محاولة تدجين كلماته داخل اقفاص روحها الباحثة عن خلاص لا تدري الى أين تستقر به المسافات، حين وجدتنا ندخل بضجيجنا الصحراوي، وبداوتنا الموروثة انسحب بصمت، فرحنا نتابع خطواتها التي شعرت بالإرتباك، تلك لحظة لايمكن أن تنسى، قال القاص الذي انهمر بنبيذ ضحكاته انها ( ميسلون هادي).
ما كان الإسم يعني عندنا كثيراً ، لهذا رحنا نجوب واستأذنا القاص الآتي من قباب الذهب في فيافي القص وهضابه مع كثير من المزح والقصص الخارجة عن المألوف، وطبعاً الكثير من اخبار السياسة والحرب وما يمكن ان نصل اليه، كان يريد ان يمسك بعصا النهاية، فثمة هاجس يدق في عمق ايامه ،ان ثمة شيئاً ما سيحدث ، تلك اللحظة الأولى التي عرفت بها القاصة ميسلون هادي، وتلك اللحظة ،جعلتني اقرأ القصة المكتوبة مناصفة بينها وبين القاص الآتي من اعماق مدينة لا تمل من استقدام الموتى .
الشخص الثالث
لا تزال الفكرة والصورة عالقة في الذهب الرجل الذي يركب باصاً من اجل الذهاب الى ديالى والتداعيات التي مربها، الفرق كان واضحاً بين الأسلوبين ولكن ميسلون سعت بأكثر من جهد كاتبة حديثة العهد الى ان تحاذي القاص وتقيم صرحاً لها الى جانب صرحة ، وان اختلفت المقاسات والتوجهات والمداخل، المهم انها تمكنت من البوح ، والوقوف الى جانب ذلك المازح الماكر، الغريب الأطوار، ولكي نمسك العصى استطعنا ان نتعرف على ميسلون من خلال مجلة الطليعه الأدبية، لكن القاصة تعرف ان للمسافات ضرورة، وان الزمالات لابد لها من وجه ومعارف ومحددات، هكذا راحت تبحث عن أسرار القص، حتى أصدرت عام 1985 مجموعتها القصصية ” الشخص الثالث “، ثمة بدايات تعلن الحقيقة، وتؤكد اللإنتماء وهذا ما كان مع ميسلون هادي، كانت تقدم المجموعة بخجل، وكان المعلم يبتسم، وكنا نريد الإكتشاف ، استثمرت القاصة وجودها الإنساني حتى انها وضعته في غربيل وراحت تمارس دور الجدة الريفية في غربلة قمحها، ثمة نثارات هنا، وابتعادات هناك، ولكن البنيان كان متماسكاً، والفتاة التي صارت تنظر الى الأشياء بأكثر من عين اخرى، راحت تتفحص الأدب العالمي لتعرف ماهو اعمق من أعماق السر، فراحت تترجم قصصاً للأطفال واخرى للكبار وتجرأت فقدمت الدراسات .
التربّع على قمة الأسى
الفسيلة التي استيقظت الآن من سباتها المبكر طرحت برحياً وحاولت ان تنتج ثماراً من دهور العراق، ما كنت أعرفها جيداً، لاننا كنا مسكونين بالحرب، وكانت مسكونة بالحزن والأدب، ولكن يوما آخر جعلها قريبة مني، الباص المنطلق الى مهرجان بابل جعلني الاحق وجودها وعائلتها ثمة فتيات بلون القمح، ومسيرة صوب بابل الأرض ، امتد الحوار، مرتبكاً في مرات، ومستقيماً اذا ما دخلنا عوالم الأدب والفن، برغم تحفظاتها الإنسانية الكثيرة كانت تتحدث عبر منطق اللايقين، تحاول جادة ان تجد معاني فلسفية لوجود الأشياء والأمكنة ، والمكونات، والغرائب، وتمزج كل هذا في طحين افكارها ، محاولة ان تنتج خبزاً من اليقين، ولأنها أنثى والإناث في بلادنا كائنات يحلمن بالحرية وهن يلبسن اسلحة الخوف، قررت بسرية تامة، أن تلاحق هموم كل اناث بلادها، بل أعلنت الحرب على مرابع الحزن والأسى، تقول (العراقيين يتربعون على قمة الأسى والشجن ولا يؤمنون بأن الفرحة ستستمر) ولأنها اعلنت ميثاق القص وهضمت معانية الفكرية والوجدانية، استطاعت ان تؤسس لوجودها اكثر من اثر فاعل بعد مجموعتها القصصية الأولى فقد اوقفت رجلاً خلف الباب عام 1994، ومن خلاله تمكنت ان ترصد تحركات اليوم ومتغيراته في واحدة من مراقباتها تقول زينب، وهي ميسلون هادي، // أنا لا اكتب قصصاً واقعية، وأكتب في النقطة المشتركة بين منطقة الواقع ومنطقة الخيال،// ذلك هو السر الأعظم الذي تحاول القاصة تفكيك طلاسمه وإيجاد مخلوقات استثنائية تنتمي الى الأشياء علنا ولا تنتمي اليها، تلك الحيرة التي توقفنا جميعاً عند منتصف الطريق، لكن توقفنا غير متفحص ، وغير كامل التأملات، اعتقد اننا نحتاج الى قراءات متعددة تبدأ بالإستمتاع والمؤانسة وتنتهي عند تفكيك التأملات وصياغة معانيها ثانية، النص القصصي الذي لا يدفع متلقيه الى التأمل يبدو نصاً ناقصاً غير قادر على التأثير، ولأن الحكائة لا تحب النهايات السعيدة، ولا تريد لأبطالها ان ينغمسوا في اوهام من اكاذيب السعادة، والتي قد تشعر المتلقي بالرضا والأمل، راحت تصمم نهاية تعمها الفواجع، وتمارسها طوفانات تحتاج الى سفن ومئات الأشباه لأوتونابشتم، العبور الى واقع حلمي مغاير لايمكن ان يكون عند ميسلون هادي، لهذا فهي ترمي سهامها بعيدا لتصيد نهايات الفجيعه وتضمها الى قلب القص بل وتجعله السؤال المهم والأكثر رغبة في اثارة طوفان من الأسئلة التي نشعرها مرة وخالية من الأنس ولكم تحلم السيدة التي صارت الآن واحدة من رموز القص العربي بأن تفرك الصدأ عن أيامنا الخوالي، مزيج من الغربة والحنين والود والأصدقاء، والذكريات وعسل التمني، برغم الفتها الآتية من الإبتعاد لكن فكرة الموت تلاحقها، ثمة كل شيء يموت هناك، عند بوابات بغداد، عند بوابات المدن العراقية، تحاول الإمساك ببعض الحياة، لكن الموت لا يريد الفكاك، موت ساخن عذب مسترخ، قوي الشكيمة، يجعلنا نبوح الى فراغ وجودنا ، عن سبب هذا الوجود غير المجدي، حاصرت أفكار الموت،وكم للموت من أفكار؟ لا اعتقد ان للصمت اكثر من معنى… والموت يعتمد داخل المتون القصصية على الصمت ، لهذا يعمل على تدوين النهايات، وينتقل من الهوامش الى المتون، الموت لدى الحكائة الماهرة، لعبة صمت، لابد وان يستنطق يوماً ، ولكن كيف …. ومتى؟ تلك مفاتيح حائرة، لأنها لايمكن ان تؤسس للحظة قص، فهي شاردة مثل ضوء الصباحات لايمكن ان تلاحقه لأكثر من زمنه المحدد والمقرر.
الطريق الموصل الى السر
في قصصها ( لاتنظر الى الساعة) الصادرة عام 1999، يحاول القص ان يستحوذ على كل تلك المسافات التي يتركها الموت الإنساني ، موت لايمكن ان يترك داخل نفس المتلقي غير الفجيعة تلو الفجيعة، والسؤال تلو السؤال، اين يمكن ان نجد الإجابات اذن..؟ هذه حيرة بطرة.. حيرة تزيدنا اصراراً على ان نكتشف المسكوت عنه والواقع ضمن دائرة الفهم لدى ميلسلون هادي، تجد أن انت اكتشفت الطريق الموصل الى السر، ان ثمة أواصر خفية وضعتها الحكائة بين جلجامش السابر الغور في أعماقها وبين دوستويفسكي، وفلوبير، ويوسف ادريس ، و فرجينيا وولف ، ونجيب محفوظ ، وبلزاك، وستندال ، والكثير من اولئك الذين اغرتهم ملامح الموت فراحوا يجسدون وجوده غير المستقرأبداً، قصص تتكفن بالفراغ والإحساس بالإنهزام والإنكسار والتراجعات، تقول الحكائة الماهرة، تأخذ الفلسفة التي ترتدي كم من العباءات السود بتلابيب القص الى حيث ترغب ، شخوص كلهم تبحثون دونما هوادة عن معاني الموت، وقيم الوجود الحي وضروراته الفكرية والإنسانية ،، لهذا يجد المتلقي، انها تكتب عنه ربما، وربما تسللت في عتمة وقت لتسرق حيواتنا البسيطة الآيلة الى الفقر، الخوف يملأ ذواتنا، ولأنه خوف ارثي استغلته ميسلون استغلالاً حكومياً واصدرت ، انها قادرة على تصدير الوجع من آبار الفجيعه، كلنا كنا نشكل منابع مكتشفه ، وكلنا صار ملك تلك اللحظة القصصية التي تعرف الحكائة كيف تقدمها على طبق من معارف جمة،كل شيء هنا ، داخل هذا العالم الذي اسسته ميسلون هادي، ربات بيوت، هن أمهاتنا ، زوجاتنا، حبيبات اضعناهن في منتصف الخنادق، والزنازين، والطرقات التي تسيطر عليها الكواتم الغريبة، وأحلام رجال كانوا مهرة، لكنهم اليوم ، وما ان يخرجوا الى الشارع حتى ترى ان ثمة آلاف من ( طوس) الماء تسكب ورائهم، وتمتمات عجزت الملائكة عن تدوينها، عالم فاق المتخيل، وفاقت أحلامه حدود معانينا الموحلة، كنا نتلفت ، خوف رصاصة خرساء تخترق لب وجودنا الحالم بالمتغير الإنساني ومثل هذا الإلتصاق الأكثر من اخاذ جعل قصص الحكائة الجميلة، تبقى مستمرة، وهنا المعظلة الكبرى، كثير من القصص اليومية، تصدر بين دفتي كتاب، أو تطالعنا في مطبوع يومي، ولكنها لاتترك سوى بعض الدهشة التي ما تلبث ان تتلاشى، وهذا ما يحزن حقاً .
الواحد الذي أنقذ العالم
لايمكن للمتلقي ان ينسى ( زينب) التي اختفت دونما ان تترك اثراً يدل على وجودها فقط، ولايمكن ان ينسى المتلقي ( العالم ناقص واحد) بل ربما اجاب ان هذا العالم لايمكن ان يجد هذا الواحد المنقذ، الذي تبحث عنه ميسلون هادي، وتعلمنا انه موجود، دون ان تعلن المكان، هي باعثة للحيرة ، تقول ميسلون هادي) // ان من المستحيل على المبدع الحقيقي أن لا تهزه فاجعة الإحتلال والخراب وتنعكس اثارها على ابداعه شكلاً ومضوناً // لاتريد ان تمسك بخيط رجاء من وهم.. ولا تريد ان ترسم عوالم قصصية تستند الى الوهم.. كلها تصنع واقعاً معروفاً لدينا جميعاً، لكن ثمة اختلاف واحد .. واحد لا غير، انها ترى بغير العين التي نرى هذا الواقع بها، عين حاسمة، مركبة الإبعاد حيوية، كاشفة، متجاوزة لحدود ألاستقرار ، باحثة عن مخلص هو مخلصها الجمالي، مخلص مصنوع من كلمات لا يجيد صناعتها غير تلك السيدة التي غدت الان واحدة من وجوه القص التي لايمكن ان تتجاوزها التواريخ، او يهملها النقد ، أو يتركها المتلقي دون متابعة حريصة ودقيقة، ومتفاخرة.
قصة (الظل والراحة والماء) التي يتحدث عنها الكاتب، كانت تجربة طريفة في كتابة قصتين مختلفتين بموضوع واحد بين قاصين من جيلين واسلوبين مختلفين هما ميسلون هادي وموسى كريدي.
شاهد أيضاً
ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداء.
ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداءمن الأحداث الفارقة والمائزة في حياتي،هو اللقاء بالروائية المبدعة ميسلون هادي، …