في حذف الزمان
ميسلون هادي
من النادر أن يعيش إنسان في مكان ثم يعود للسكن فيه مرة أخرى بعد ثلاثين عاماً..فتكون هذه المرة الثانية فرصة سحرية لاختبار المشاعر التي تفتحت في المرة الأولى… اخترت صورة لي مع عائلة إنكليزية عشنا معها أنا ورزوجي فترة من الوقت في بداية الثماينينيات، وعندما عدنا بعد ثلاثين عاماً إلى المكان نفسه.. وجدنا البيت كما كان أول مرة وكأن الزمان قد مر عليه مرور الكرام .. تاركاً كل شيء على حاله ما عدا من صاحبيه المستر ديفيد كيلي الساعاتي وزوجته المسز كيلي الجالسين في الصورة معي على مائدة الطعام … يبدوان في الصورة بملابس الخروج (كعادة الغربيين داخل بيوتهم لسبب أعزوه إلى البرد) مضافاً إليها صدرية المطبخ بالنسبة للمسز كيلي، فهي كانت لا تهداً دقيقة واحدة من دقائق الليل والنهار… وتتكتك كما ساعات زوجها في كل مكان.. كل شيء مرتب ونظيف ومحمص بما في ذلك مفارش منضدتها التي تغيرها كل يوم .
لا أحب كثيراً بيت الشعر الذي يقول: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب.. لأن ما فعله المشيب من سكينة الروح يعادل ألف ألف يوم مما يعدون من أيام الشباب.. وعندما دخلت البيت للمرة الثانية بعد ثلاثين عاماً وداهمتني الرائحة نفسها..للسجاد والخشب وورق الحائط.. حاولت استرجاع مشاعر شابة تتهجس المجهول في دخولها إلى بيت يشبه أسطورة من الغموض نتوق إليها ونخاف منها. فوجدت كم كانت مشاعر المرة الأولى هائمة ومليئة بالإضطراب لمن تكون الحياة أمامه عدواً متخفياً بقدر ما هي صديق وفي .. أما دخول المرة الثانية فكان في غاية الوضوح والطمأنينة لمن ترك كل شيء خلف ظهره ولم يعد في رأسه ثمة أوهام ولا مخاوف ..
إذن لا شيء تغير بعد ثلاثين عاماً.. ويبدو أن الأيام قد تداولت ذلك البيت كتفاحة في يد رجل عجوز يقلبها ولا يأكلها أبداً…. حسناً ألهذا اخترت هذه الصورة؟ لأن الزمان كان رحيماً بالمكان فتوقف في هذه الحكاية التي حدثت مرة أولى ثم تواصلت بشكل مطمئن بعد حدوثها للمرة الثانية ؟.. بالتأكيد لا، فلن يكون الزمان سهلاً في التفاهم مع أعتى الموهومين.. والحذف حصل في مكان آخر حيث لا يجب أن يكون .. فصاحب البيت ديفيد الساعاتي لم يعد موجوداً وصاحبة البيت أصبحت محذوفة أيضاً .. ابنتها تريشا كانت في نهاية العشرينيات من عمرها عند التقاط الصورة وهي الآن سيدة البيت وفي الخمسين من العمر، وأمها التي تظهر في الصورة أمامي، مشلولة الآن في دار موحشة هي دار المسنين..لا تغير المفارش كل يوم، ولا تُزيّن شجرة الكريسماس نهاية العام ولا تتحرك فيه كالنحلة… قبل ثلاثين عاماً كنت أتفرس معها في الصور القديمة.. وفي واحدة من تلك الصور كان ثمة شباب وشابات التقطوا صورة في زمن قديم جداً.. العروس الميتة ترتدي بدلة بيضاء محتشمة وكذلك كل الميتات من فتيات العائلة.. أما الشعور فمرفوعة إلى أعلى بإحكام فوق وجوه تبدو عابسة بعض الشيء بسبب كثافة المكياج وغرابة التسريحات.. العروس ماتت بالتأكيد.. نعم تجيبني المسز كيلي.. وزوجها مات طبعاً.. أوف كورس.. أو كي، ماذا عن هذا الطفل؟.. لعله حي لحد الآن.. نو ماي دير هي إز ديد تو…. فليرقدوا جميعا في سلام..
المسز كيلي أيضاً رقدت أخيراً بسلام ولم يتبق منها أثر سوى صورة جمعتني أنا وأياها وزوجها على مائدة الطعام في الوقت الذي يسمونه بالتي تايم. كنت لا ازال في العشرينيات من عمري وشعري فاحم اللون وقد التقطَتْها لنا حفيدتهما المتبناة ماندي التي كان عمرها حينها تسع سنوات وأصبح عمرها الآن تسعا وثلاثين.. شعري أيضاً تغير لونه من الأسود إلى الكستنائي المتوسط هو الرقم خمسة المفضل لتغطية الشيب من أصباغ الكولستون.. هذه الصورة على مائدة الطعام ستجد يوماً من ينظر إليها ويقول.. من هذه السمراء التي تجلس على مائدة الطعام؟..هل هي على قيد الحياة؟ وسيجيب أحدهم: نو ماي دير شي إز ديد………. ويكتمل الحذف.
(مشاركتي في كتاب تحولات الصور للدكتور لؤي حمزة عباس)
شاهد أيضاً
الأحلام لا تتقاعد
لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …