(العابرة مكسورة الجناح… شهرزاد ترحل الى الغرب)
فاطمة المرنيسي :حريم الغرب أكثر استبدادية من حريم الشرق
ميسلون هادي
في كتابها (العابرة المكسورة الجناح ..شهرزاد ترحل الى الغرب) تناقش الباحثة المغربية المعروفة فاطمة المرنيسي فكرة أن شهرزاد (القصاصة) التي روت لشهريار حكاياتها الألف وأنقذت نفسها وبنات جنسها من القتل، قد عبرت بهذه الحيلة عن ذكائها المفرط وقدرتها الاستثنائية على استخدام عقلها في محاورة الرجل والحد من طغيانه الذكوري. كما أن المرنيسي المنبهرة بهذه المرأة القوية،لاتجدها قد مثلت نفسها حسب بهذه القدرة العقلية وإنما هي قد عبرت عن ذكاء المرأة الشرقية بشكل عام والذي تجد الباحثة اعترافاً به من قبل الشرق عبر شفوياته وأدبياته ومنمنماته ومجمل ثرائه الفكري والديني والفلسفي. ومن واقع انبهارها وهذا الاعتراف تنطلق المرنيسي بسؤالها المحير: كيف لم يجد الغرب في تلك الحكايات سوى لغة الجنس والإثارة الإباحية ولماذا نسجوا حولها صوراً شهوانية عن الحريم؟ عبرت عنها لوحات استشراقية لرسامين مثل ماتيس وآنجر ولوتريك وأدكار داكاس وبيكاسو لاتظهر فيها النساء كما في المنمنمات الاسلامية وهن يمتطين الخيول ويرمين السهام ويرتدين الملابس الثقيلة، وإنما تظهرهن تلك اللوحات كمحظيات أو مستحمات في حمام تركي أو وصيفات ممتلئات الأجسام يرتدين الملابس الشفافة في قصور السلاطين.
في البداية تتبع المرنيسي أثر حكايات ألف ليلة وليلة كيف نشأت وكيف انتقلت إلى الغرب ومتى نشرت باللغة العربية لأول مرة ولماذا بقيت تقليدا شفوياً لعدة قرون ولم تنتقل إلى المكتوب إلا في بداية القرن التاسع عشر على يد ناشر هندي مسلم يدعى (الشيخ الشرواني) عام 1814 وهو أستاذ للعربية في (كولج دي فور ويليام) في كلكتا لتصدر بعد ذلك بعشرين سنة النسخة المصرية التي طبعت بالعربية لأول مرة في بولاق بالقاهرة عام 1834، وهي تكاد تكون أشهر طبعات الحكايات الصادرة منذ ذلك الحين. ثم تروي كيف عارضت النخب الرجالية تلك الحكايات وكان الموقف الذي يقدمونه يبدو أدبيا صرفا وخال من أي دلالة سياسية أو دينية إذ أن النصوص، في رأيهم، كانت ضعيفة وبالتالي عدوها مجرد خرافات. ولكن الكاتبة تعرض رأياً مغايراً اختارته من أحد أهم دارسي هذه الحكايات (حسب المرنيسي) جمال الدين ابن الشيخ الذي فسر هذا الرفض بكون هذه الحكايات غالبا ماتصور النساء أمهر من الرجال. ثم يأتي طه حسين في كتابه (أحلام شهرزاد) الذي أصدره عام 1943 ليجعل من شهرزاد ناطقة باسم الأبرياء الذي ذهبوا ضحية الحرب العالمية الثانية في مقابل غريزة الموت الغامضة والمأساوية لدى الرجال، جاعلا الخلاص يبدأ حين يتم الحوار بين المضهِد والمضطَد وبين القوي والضعيف وبالتالي لايمكن للحضارة أن تزدهر حقا إلا إذا تعلم الرجال نسج العلاقات مع الكائنات الأقرب إليهم، النساء.
حريم المرنيسي
ــــــــــ
أما رحلة شهرزاد إلى الغرب فبدأت على يد (أنطوان كالان) الذي كان أول من ترجم حكايات ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية عام 1704 وقد تم نشر إثني عشر مجلدا من ترجماته التي أولع بها حد الهوس، وعندما عبرت شهرزاد إلى الغرب تجاهل الغربيون عقلها وجردوها من ذكائها وانتبهوا فقط إلى لغة الجسد في حكاياتها بشكل تقول عنه الباحثة انه باعث على الوحشة والاستغراب. ومن طريف ماتلاحظه المرنيسي في هذا الشأن أن بعض النسخ المترجمة من ألف ليلة وليلة تصور شهرزاد على أغلفتها وهي شبه عارية سمينة الأرداف ظفائرها تتدلى على صدرها كالأفاعي فيما تعتقد المرنيسي أن واحدة مهددة بالقتل كل ليلة يجب أن يصيبها النحول ويعلو وجهها الضعف والهزاال. ان شهرزاد التي سجنها (كالان) في حدائق فرساي وقصور فرنسا الارستقراطية، وكرست نساء تلك القصور سمعتها الحسية، سيجردها الغرب لاحقا من الحس العقلي الذي توفرت عليه كحاكية، ومن الرسالة السياسية التي تضمنتها حكاياتها. وخلال تجوال المرنيسي في مدن غربية متعددة في أوروبا وأمريكا ،تعاملت مع دور النشر فيها وحاضرت في أروقة جامعاتها ،ستكتشف ، من خلال هذه المعرفة الحية والحوار المباشر مع الأجنبي، أفكارا راسخة لدى الرجل الغربي تعدها أوهاما عن الوضع الخانع المستسلم أو الآيروسي المنحرف للنساء الحريم، والذي يتعارض برأيها مع صورة شهرزاد الشرق الذي انتصرت بعقلها وذكائها على العنف والاستبداد. إن الصورة الغربية التي كرست سمعتها نسخة (كالان) من ألف ليلة وليلة وعززتها أفلام هوليوود ولوحات المستشرقين وآراء بعض الفلاسفة السلبية تجاه النساء، ستجعل الصحفيين يبتسمون باحراج أو بمرح كلما نطقت المرنيسي في محاضراتها باسم (الحريم)… وبهذا الصدد نجد جديراً بالذكر أن فاطمة المرنيسي وكما قرأنا في كتاب آخر لها هو (نساء على أجنحة الحلم)، قد نشأت في حريم مغربي في فاس، مما قد يعطي إشارة خاطئة للمتلقي الصحفي عندما يسمع أن الباحثة المحاضرة قد نشأت في (حريم) فالحريم الذي نشأت فيه المرنيسي، على ما قرأت في كتابها المذكور، هو البيت الريفي الكبير الذي تعيش فيه الجدة والجد وزوجة الجد والأولاد وزوجاتهم والأحفاد والحفيدات وهو مختلف تمام الاختلاف عن ذلك الذي يستحضره الصحفيون في أذهانهم عندما تقول لهم المرنيسي أنها نشأت في (حريم) وهو غير (حريم) المرنيسي الذي تظهر فيه النساء قويات وذكيات ومتفوقات ومن بينهم جدتها (الياسمين) التي تذكرها الباحثة كثيراً في كتابها ذلك بوافر من الإعجاب وتقتبس الكثير من مواقفها الحكيمة في الحياة عندما تسافر، مما يعطينا فكرة عن سبب تعاطف المرنيسي مع (الحريم) وتحمسها للدفاع عنه .
تعقد المرنيسي دراسة مقارنة بين الصورة الشرقية لشهرزاد وبين الصورة الغربية عنها، متوصلة إلى أن اظهار المرأة لذكائها هو جريمة في نظر كثيرين من رجال الغرب كما فعل (أدغار الآن بو) عندما قتل شهرزاد في نهاية قصة له كما انها حسب (كانت) يجب أن تتنازل عن ذكائها وتحجب عقلها اذا شاءت اغراء الرجل أو الفوز بانوثتها أي أن الفلاسفة الغربيين مثل (كانت) كانوا يحلمون بنساء جاهلات خلال عصر الأنوار في أروبا، في حين كان المستبدون في الشرق كهارون الرشيد يبحثون عن الجواري العالمات أو الشاعرات خلال العصور الوسطى. وبرأينا فإن شهرزاد التي تعتد بها فاطمة المرنيسي وتستميت للدفاع عنها هي من وجهة نظرها شخصية نسوية أو أنها تعاملها كشخصية حقيقية وتحمل قضيتها من المضامين السياسية والاجتماعية مما لايمكن أن تتحمله امرأة افتراضية، لم توجد فعلا على أرض الواقع، انما هي شخصية وهمية ابتدعها خيال رجل أو (مجموعة من الرجال) ليحاكي بحكاياتها أجواء الحريم التي كانت سائدة في قصور الخلفاء والسلاطين. وبالرجوع إلى الدكتورعبدالفتاح كيليطو في كتابه (الأدب والأرتياب) فأن هذا نمط من الإنشاء مبني على الكتمان والإخفاء لاسم المؤلف.. ويردّ كيليطو هذه الحيلة إلى الاحتراس والخوف من المضايقة والاضطهاد، ويقول إنها تعمل، سواء في نطاق الأدب المكتوب حيث المصدر محدد ومسمى، كما في مقامات الهمذاني التي تبدأ كلها بعبارة (حدثنا عيسى بن هشام)، أو في نطاق الأدب الشعبي حيث أن المصدر غير مسمى، كألف ليلة وليلة التي تُستهل بعبارة (بلغني أنّ) أو (يُحكى أنّ)، رغم أن هذا الأدب الشعبي هو في الغالب خالٍ من أسماء المؤلفين.
صورة عصر
ــــــــ
أن تلك الحكايات في واقع الحال، تعطي صورة عصر بأكمله بكل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أي بعبارة أخرى أن المضامين السياسية والفكرية والاجتماعية موجودة في الحكايات نفسها أكثر من وجودها في شخصية الحاكية الوهمية التي ماهي الا صنيعة الرجل المستبد وواحدة من بنات أفكاره. صحيح أن وجودها في الحكايات يعكس قوة المرأة في المجتمع ابان تلك الحقبة من الزمان، الا أنها في النهاية وهي تدافع عن نفسها ضد الملك الظالم، استجابت أيضا لشروط عصرها ومتطلبات سلطته الذكورية القائمة على القمع والتنكيل ،وسواء كان هارون الرشيد يبحث عن الجواري العالمات أو الغبيات ليضمهن إلى فراشه ،فان الحريم بشكله الحالي الذي تعارف عليه الغرب يتحمل مسؤوليته الرجل الشرقي وليس غيره وأن المرنيسي تبذل جهداً كبيراً من أجل إزالة التشويه عن وضع هو أصلا قابل للتشوه والفساد.
إلا أن الأهم برأينا فيما توصلت اليه الباحثة في (العابرة مكسورة الجناح… شهرزاد ترحل الى الغرب)هو خلوصها إلى وجود (حريم) في ذهن الرجل الغربي أكثر استبدادية من (حريم) الشرق كونه لايستعمل الحجاب وسيلة للإفصاح عن نفسه وأنما وسائل أخر أكثر خفاء وقمعاً وتسلطية .حيث تذكر (كريستيان) ناشرة المرنيسي أن الحريم الغربي يمكن أن يوجد في شركة ذات مقر في ناطحات سحاب موجودة في الشانزليزيه لأنها مكان يحيط الرئيس فيه نفسه بعشرات النساء اللاتي يتوقف أجرهن على رأيه فيهن ،وبالتالي فأن القهر سيوازي في فظاعته ذلك الموجود في الشرق ولكنه ذا طبيعة خفية أكثر.