أزمة الفرد .. أزمة الوجود في
رواية “خاتم الرمل” لفؤاد التكرلي
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
كلية التربية بصحار – سلطنة عمان
( 1 )
حين يكتب ناقد عن فؤاد التكرلي ، وتحديداً عن أي من أعماله الروائية أو القصصية ، فإنه واجد نفسه عادة في عالم ذي حيّز مكاني – وإلى حد ما زماني – محدود وربما واضح ، وتبعاً لذلك يُفترض بهذا العالم أن يكون محدوداً في غناه وتجاربه ، ليبدو في النتيجة سهلاً اختراقه والدخول والتجوال وتأمل أركانه ونواحيه . لكن المفاجأة ، وأحياناً الهزة تأتي قوية هادرة جارفة ، حين يجد الناقد نفسه فجأة وبضربة عصا سحرية غارقاً ، ولا أقول تائهاً في مفردات لا نبالغ إذا ما قلنا إن الواحدة منها قد تكون أوسع وأكثر غنى وإثارة وتحفيزاً وتحدياً واستفزازاً من مفردات فن كاتب غيره كاملة ، الأمر الذي يصعب فيه علينا ، في الوقت الذي تبدو لنا فيه إمكانية أن نعبر عن تلك المحدودية والضيق بعبارة أو بضعة أسطر ، التعبير عما يقدمه التكرلي أو فنه أو أي عمل من أعماله بمثل هذه البضعة الأسطر أو حتى بصفحات ونحن راضون . وإذا لم يبدُ هذا الأمر واضحاً أو مقنعاً ، فلعله يكون كذلك عبر مقاربته ببعض التجارب العالمية في الكتابة القصصية والروائية والفنية عموماً ، فنستذكر على سبيل المثال قصة تشيخوف الشهيرة ” كآبة ” التي قد تبدو ابتداءً محدودة في ما تقدمه من تجربة إنسانية بسيطة ، وإلى حد ما يومية يمكن أن يمر بها أي إنسان . ولكننا حين نفتح عالمها موضوعاً وفناً وتعبيراً إنسانياً أيضاً ، فإننا تجد أنفسنا في ما يشبه البئر العميق الذي يبدو الناظر محدود المياه ، لكنه في حقيقته لا ينفد مهما غرفنا منه ومهما وزعنا من مائه على ملتمسيه – نعني مهما أعدنا قراءتها واستقراءها ودرسناها . إن ذلك هو شأن قصص وروايات عالمية كثيرة ، مثل قصة “وردة لأميلي” لوليم فوكنر ، ورواية “المسخ” القصيرة لكافكا ، ورواية “الليالي البيضاء” لدستويقسكي ” ورواية “الشيخ والبحر” القصيرة لهمنغوي وقصة “الحفلة” لكاترين مانسفيلد … وغيرها ، وبثقة نستطيع القول بتأكيد : هكذا هو شأن كل أعمال التكرلي ، التي لعل أبرزها “العيون الخضر” و”موعد النار” و “الوجه الآخر” وأخيراً رواية “خاتم الرمل”(1) . من هنا كان ناولنا للرواية الأخيرة لينصب على جانب بعينه ، وهو أزمة الإنسان الوجودية ، ومن خلال الجانب الذي انعكس منها على بطل الرواية لتكون أزمة البطل الفرد .
أردنا بهذه المقدمة تفسير ما يمكن أن يحسه القارئ ، وتحديداً الخاص ، أو لنقل غير العادي ، القارئ الذي يبحث عما هو أكثر من القراءة لذاتها مما يقرأه من أعمال فؤاد التكرلي ومنها رواية “خاتم الرمل” ، التي تأتي بعد مجموعة من القصص القصيرة جمع معضمها في مجموعة سماها “الوجه الآخر” ، وضمن ما ضمته رواية “الوجه الآخر” القصيرة الجميلة والرائدة ، وروايته العظيمة ، وأحد إنجازات الرواية العربية ، “الرجع البعيد”(2) . والواقع أن هذه الرواية تبدو في كثير من الوضوح امتداداً لتجربة الكاتب كلها ، وخاصة لرواية “الرجع البعيد” نفساً وأسلوباً وفكراً وشخصيات … أي لنقل من الناحية الفكرية أم من الناحية الفنية الخالصة . فإضافة إلى طبيعة أحداثها غير العادية ، ومكانها بغداد وزمانها تقريباً – سبعينيات القرن الماضي – تبدو لنا بعض شخصيات الرواية فعلاً امتداداً لشخصيات الرواية السابقة ، فيبرز بطل الرواية (هاشم) وكأنه في ما يتملكه من أحاسيس وجودية تركها فيه غالباً موت أمه ، ومن قبل ذلك علاقته بها كما نتعرف عليها من خلال تداعياته واسترجاعاته ، امتداد لشخصيات عديدة عرفناها في أعمال الكاتب السابقة وخاصة “الرجع البعيد” ، مثل الأخوين (مدحت) و(عبدالكريم) ، عدا أنه أكثر حزناً وتأزماً ومأسوية منهما . أما (رؤوف) خال بطل الرواية فهو في الكثير من خصوصية شخصيته امتداد لشخصية (حسين) ، بينما تبدو الأم (سناء) ، ومن خلال وعي البطل واستذكاراته لها ، امتداداً لشخصية (منيرة) في الرواية السابقة . فالواقع أن شخصيات الرواية وخاصة بطلها هو أكثر ما يربطها بسابقتها ، وهذا أمر ليس غريباً ولا جديداً في أعمال التكرلي عموماً .. فطالما وجدنا شخصياته وأبطاله وكأنهم ينتمون إلى فئة بعينها من البشر المتفردين في خصائصهم .. الحساسين ، وذوي الإيقاعات الإنسانيات الخاصة .. والأهم من ذلك كله المأزومين بأزمات خاصة (3) ، ونعود في هذا الخصوص إلى الأهم ، نعني البطل وما رأيناه فيه من شخصيات “الرجع البعيد” لتلمس بعض ذلك . فهو حين يعبر في أحد المقاطع عن أحاسيسه بعد وفاة أمه مثلاً يقول :
“نمت حتى الظهر ، ونمت بعد الظهر ، دون أحلام . أردت ألاّ أجيب أي نداء . أردت ألاّ أسمع أية تعزية . أردت ألاّ أحيا . وكنت غير عارف بالضبط أي أمر خفي عميق بسبب لي هذا الو ضع اللامألوف . ثم أني ، مع صراع مميت ، جلست عصراً حوالي الخامسة في فراشي أريد أن أنقذ ذاتي أخيراً … وتذكرت بأني الجائع الحزين المتألم المعزول المستوحش ، لم أبك دمعة واحدة” – الرواية / ص90 .
فهو في صراعه وحزنه ومأسوية وضعه النابع من دواخله استجابة لما هو في الخارج مما لا يرضاه أو يتأقلم معه ، والذي يتمركز فيما نجده مركز هذه الفقرة “أردت ألاّ أحيا” التي تمثل قمة ما يمكن لإنسان مأزوم أن يصله ، يذكرنا فعلاً بشخصية (مدحت) أولاً ، ثم وبشكل أشد بشخصية “عبدالكريم” ، الذي يلفه الحزن والإحساس باليأس بدءاً باللحظة التي يفقد فيها صديقه (فؤاد) في حادث :
“… وعلمت بعد ذلك بأني قد هويت إثر اتكائي على الباب الثقيلة في نهاية المجاز المظلم . لم أكن دائخاً ولكني أتذكر جيداً بأني لم أكن راغباً في معاودة العيش كما كنت” – الرواية / ص 38.
فمع ما قد يقال من أن مثل هذا التشابه بين الشخصيتين وما يتملكهما من أحاسيس الحزن واليأس وشبه الانهيار إنما هو شيء من الطبيعي أن نجده مع أي شخص في مثل ظرفي (هاشم) و(عبدالكريم) ، وهو ما لا يمكن أن نقول إنه افتراض غير صحيح عموماً ، فأننا نجد أن ذلك كله تعلقاً بهاتين الشخصيتين إنما يتعدى هذا الأمر المظهري إلى جوهر كل منهما ولا يشكل العامل الخارجي إلا المحرك الذي أفاض ما موجود في دواخلهما أصلاً ليبين عليهما ، بل يشكل سلوكهما . ويعزز ذلك أمثلة عديدة يتمثل فيها تفكير (هاشم) وسلوكه وانقياده إلى حد كبير وراء ما يسهم بالدور الأساس في تشكيل فكر الرواية ، وهو بعض ما دفعنا إلى القول بأن الرواية تشكل امتداداً لروايات الكاتب السابقة . ويعزز ذلك كله أمثلة عديدة أخرى ، وإذا كان غالبها يتعلق بـ (هاشم) فإنه يمتد إلى سخيات أخرى ، كما ينعكس ذلك بشكل خاص في نقاشاته مع (د. سلمى) :
“كان وجهها ، وهي تنصت إليَّ ، شاحباً مثل وجوه الموتى ، وألوان الزينة في خديها وشفتيها تحولت إلى كتل فاقعة منفصلة عن ملامحها . خيل لي أنها ترتجف بشدة ، وخين تكلمت تقطعت أوصال جملها :
“- أنا .. لا أفهمك أبداً .. لن أفهمك . ما هذا الذي تقوله؟ ولماذا تكلمني بهذه اللهجة المهينة ؟ لماذا ؟ مع ذلك ، مع ذلك ، يجب أن .. أن أشرح لك قسماً من .. من .. يالله!
” أخفت وجهها بين يديها ودفنته في حجرها ، وحين رفعته بعد هنيهات كانت عيناها مبللتي الأطراف يائستين :
“يجب أن أبين لك ما أعتقده .. ما نعتقده . اسمع مني . دعني أتكلم أرجوك . يابه ! ما دخلي أنا بكل هذه المشاكل ؟ أنت تعرض حياتك للخطر . أفهم هذا جيداً ، وأنت تفعله عن عمد . لا تقاطعني .
” كانت تصرخ كأني سأهاجمها .
” – أنت .. لا تقاطعني ودعني أكمل حديثي . أنت في مثل موقف .. نعم .. في مثل موقف والدتك . لا تقاطعني . لديّ …” – الرواية / ص 130 .
فإذ ترسخ مثل هذه الحوارات ما قلناه عن شخصية (هاشم) ، فإنها تذكرنا مرة أخرى بنقاشات (عبدالكريم) مع (منيرة) في “الرجع البعيد” ، كما في المقطع الآتي :
“كانت باردة النظرات ، منقبضة الملامح :
“- آني كنت أعرف هالشي ، كنت أعرف كلش زين ، ورِدِتْ أعيش منعزلة ، على الهامش . ما خليتوني … إنت تخاف منه {تعني أخاه مدحت الذي هو زوجها} ، لاكت آني ما أخاف من أحد . آني أعرف هسّه حقيقتكم .. جبناء …
“- لا تحجين هالشكل منيرة . الله يخليك ، لا تحجين هالشكل .
“- شكو جاي واكف فوك راسي لعد ؟ شتريد مني ؟ إذا حجي ما تريد أحجي . شتريد أسوي لعد ؟ شتريد مني ؟ كول .. شتريد ؟ ..
“- آني ما أريد منّج شي منيرة .. ما أريد أعيش .. بس انطيني فرصة لخ .. انطيني فرصة أعيش .. لا تحطين حياتنا دون سبب .
“- يا حياة ؟! حياة من أحطم ؟ إنت مجنون ؟ ” – الرواية / ص 349-350 .
أردنا بهذا الربط كله بين الروايتين وشخصياتهما أن نقول إننا إذ نتكلم عن رواية “خاتم الرمل” وخاصة عن بطلها ، فإنما نتكلم في الوقت نفسه وإلى حد بعيد عن أدب التكرلي بشكل عام ، وعليه فإننا إذ نتكلم عن رواية ” خاتم الرمل” وخاصة عن بطلها ، ومن خلاله عن أزمة الإنسان الوجودية ، فإنما نتكلم في الوقت نفسه وإلى حد بعيد عن أدب الكاتب الروائي والقصصي ، وعن أفكاره خاصة عبر تجسدها في أبطاله ومنها أبطال هذه الرواية . إذن فإن هذا الذي قد يبدو للقارئ لأول وهلة عادياً أو محدوداً هو أعمق من حقيقته . فالمنطوى الذي هو ظاهرياً محدود هو في الواقع فكر الرواية ، وفكر أعمال التكرلي عامة ، بل هو يمتد ليكوّن أو يشترك في تكوين الفكر الذي يعتمل في التكرلي ذاته كاتباً ومفكراً والذي يعبر عن نفسه فنياً في رواياته . وربما نجيز لأنفسنا أن نقول إنه يعبر في رواياته وقصصه ، وكما تشترك في ذلك رواية “خاتم الرمل” ، عما يشبه الأزمة يعيشها هو ، وما هي في الحقيقة ، كما نرى ، إلا بعض من أزمة الإنسان في معناه المطلق ، التي نسميها أزمة الوجود . وعليه فإن كل عمل من أعماله يعبر عن جزء من هذه الأزمة بحيث علينا أن ننتظر (اكتمال) تجربته عبر مجموعة أعمال لنتعرف على كامل الأزمة – الموضوع والفكر . ومن جميل ما يفعله التكرلي فنياً من خلال فنه أنه يقدم في كل عمل جديد ما يشبه الأزمة الجديدة مع أنه يتعامل مع نفس الأزمة والفكر الذي وراءها ، لأنه في الواقع يقدم جزءاً من هذه الأزمة ، ولكن منظوراً إليها من زاوية جديدة تمكننا بالضرورة من أن نراها بشكل جديد ووضوح جديد لتترسخ شيئاً فشيئاَ أمامنا أو في وعينا ، وكأنه في ذلك يفعل ما يسميه جبرا إبراهيم جبرا في أعماله وأعمال أي كاتب بالجوهر المتكرر حين يقول : “إني أحكي عن الجوهر المتكرر للإنسان أو الشاعر أو الكاتب ، فِكَرٌ أساسية يحاول ، كلما يكتب ، أن ينميها أو يضيف إليها جوانب أخرى”(4) ، ليعزز ذلك رسم هذا الجوهر والذي هو في حقيقته فكر الكاتب أو جزء حيوي ومهم منه . ولأننا مع جوهر التكرلي المتكرر نواجه هذه الأزمات أو الأزمة التكرلية المتكررة في ظهورها وفي أشكالها وتفصيلاتها وأوجهها المختلفة عبر أحاسيس وعواطف وانفعالات عادة ما تتسم بالحدة والعنف والتطرف ، وربما والانفعالات من جهة ، والمعبرة بإصرار عن مواقف ومثل وقيم متباينة من جهة ثانية ، فإننا نحس كأنه يمارس شيئاً من (تطهير) المسرحية الذي “يراد به في المأساة عند أرسطو : تنقية نفوس النظارة بوساطة فزعهم مما يحدث للبطل وشفقتهم عليه”(5) . إن هذه الأزمات أو الأزمة بما يلازمها من هذه الأحاسيس والانفعالات والعواطف هي بحق موضوعة “خاتم الرمل” ، أو ربما كانت بتعبير أدق الوجه الذي تعبر الرواية من خلاله عن موضوعها وأفكارها ، أي كأن موضوعة الرواية تكمن خلفها . فالرواية بشكل أو بآخر هي أزمة بطلها أو تأزمه ، وإذ هي أزمة داخلية نابعة من الداخل الإنساني والفردي فإنها ترتبط بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى بالخارج ، كما هي مع كل أبطال وشخصيات التكرلي الأخرى التي رأيناها في أعماله السابقة ، خاصة عندما تدفع إلى ذلك مقتضيات أن يتشكل الخط الروائي وأن يكون مقنعاً في سرديته . وهنا نتساءل فيما يخص الرواية التي ندرسها هل الخارج الذي يتفاعل أو يفاعل الأزمة الداخلية للبطل هو الأم ، أو الأب ، أم المجتمع ؟ لعله ذلك كله . فإنسان مثل (هاشم) ، ومثل معظم أبطال التكرلي وشخصياته الروائية والقصصية الأخرى الغارقة في أزماتها ، من الطبيعي أن يكون تربة خصبة للاهتياج والحركة الداخلية والتسارع في انفعالاته حين يتعرض لأي مثير خارجي ، حدث أو شخص أو منظر ، قد لا يهيج أو يثير غيره ، بتعبير آخر إن هذا المثير ، مثل الأم والأب والمحاورة مع د. سلمى وموت الأم بل ربما المجتمع المحيط كله الذي يجد نفسه مفيه مجبراً لا مخيراً ، يعني ملقىً فيه . إذن أن هذا الكل – المثيرات والعوامل الخارجية – لم يكن ليكون كلياً أو جزئياً سببا ًللأزمة لو لم تكن بذرة هذه الأزمة موجودة مع مسببات أخرى بالطبع في داخل البطل بصفته الإنسانية بشكل عام وبصفته الفردية بموروثات وعوامل تربوية معينة من جهة ثانية . نريد أن نقول إنها أزمة هذا المخلوق الذي نسميه إنساناً في وجوده . ونظن أن القارئ يستطيع أن يدرك أننا هنا نقود إلى أن أقول إنها ما نسميه أزمة الوجود التي هي أزمة وجود الإنسان متى ما وجد وأينما وجد .
المثير أن أزمة هاشم ، حتى إذا ما اتفقنا على تشخيصنا الأخير ، تبدو غريبة وغامضة حينما نتأملها في علاقاتها بمسبباتها الواضحة إلى حد ما ، أو المفترضة على الأقل ، في الرواية من أم أو أب أو أناس ومجتمع أو بيئة ، لأننا لا نكاد نضع اليد فعلاً على الطريق التي صار بها هذا كله أو بعضه ، حسب اتفاقنا واختلافنا ، أزمة للبطل . لكن المفارقة تكون حين نجد أنفسنا نفهما ونفهم غموضها حين نراها في تكرارها أمامنا في أعمال التكرلي وفق ما عرفناه جوهراً متكرراً ، في جل تلك الأعمال ، وخاصة الروائية بدءاً بـ “الوجه الآخر” ببطلها محمد جعفر ، ومروراً بـ “الرجع البعيد” بجل أبطالها ، وخاصة مدحت وعبدالكريم وإلى حد ما حسين ، ووصولاً إلى “خاتم الرمل” ببطلها هاشم ، ونظنها مستمرة في رواياته التالية التي صدرت وستصدر .
والآن ما أهمية أن نتناول رواية مثل “خاتم الرمل” ؟ وما الذي تريد أن تقوله ، وخاصة فيما يتعلق بهذه الأزمة –الفكرة – الموضوعة ؟ وبعبارة أخرى ما دور التكرلي كمؤلف صاحب موقف ورأي وفكر في ذلك ؟ وإلى ماذا يقود تناولها ؟
( 2 )
في الحقيقة ، وكما لنا أن نتوقع من القارئ أن يرى غالباً ، أن ذلك يتوقف إلى حد بعيد على ما يمكن لهذا القارئ أن يخرج به من خلال تفاعله هو مع ما يقرأه . فنحن مثلاً نرى ذلك في أقل تقدير محاولة لإلقاء نظرة على واحدة من الحالات التي كثيراً ما نعيشها بدرجة أو بأخرى ، وتمثل هذا في الرواية بشكل خاص في بعض أشكال هذه الحالة التي يمر بها الإنسان ، كل إنسان ، وقد تقوده أحياناً ودون أن يعرف لماذا إلى سلوك أو فعل جلل كالعزلة عن العالم ن أو الهجرة عن وطنه أو مجتمعه ، أو إلى الإجرام ، وربما إلى الانتحار ، كما في حالة بطل الرواية . قد يستنكر البعض هذا التناول ، أو يستغرب على الأقل ويتساءل : ولماذا نشغل أنفسنا بهذا ؟ بظننا أن مثل هذا الاستنكار أو الاستغراب إنما يأتي غالباً ممن يتهرب من الاعتراف أصلاً بوجود مثل هذه الحالة (الإنسانية) ، وهو بظننا تهرب ينبع من الحالة نفسها ، بمعنى هي كحالة المصاب بمرض نفسي ويتهرب من الاعتراف به . إذن هي حالة ، أو إحساس ، أو تأزم عاطفي أو انفعالي ، أو أزمة فينا أناساً طبيعيين ، ولكننا إذ نكون طبيعيين نكون قادرين على التعامل ، وربما التعايش معها ، وأحياناً الانفلات منها بعقلنة النظر إليها ، أو بالإيمان ، أو بغير ذلك . ولكنها فينا أفراداً مرضى أو متأزمين كثيراً ما تغلبنا وتقودنا إلى إحد أحد الأوضاع أو النتائج التي ذكرنا : العزلة ، أو الهجرة ، أو الإجرام ، أو الانتحار … الخ . وواضح أن الحالة الأولى إذ تكاد تبدو طبيعية فإنها من الممكن أن تتطور إلى الحالة الثانية التي يتعرض لها الإنسان حين تتهيأ لها الظروف النفسية أو البايولوجية أوالبيئية المناسبة ، كما هو شأن كل الأمراض والتأزمات النفسية الأخرى ، كما يبدو لنا أن بطل الرواية مصاب بها . إذن أن نقتحم هذه الحالة ، نظرياً وفكرياً بالطبع ، هو أفضل من انتظارها وبذرتها فينا ، كما هي بذرات كل الأمراض والتأزمات النفسية ، أو التهرب من الاعتراف بها مع البقاء ، من حيث ندري أو لا ندري متعرضين للسقوط ضحايا لها في أية لحظة إذ لا نكون مهيئين لمواجهتها ، إذ عندها لن يكون من هرب أو خلاص بغير العلاج الطبي أو النفسي ، خاصة حين يخلو العالم ممن أو مما كنا نهرب إليهم أو إليها من أهل أو وطن أو أحبة أو أشياء وهوايات وممارسات وأنشطة أو مال … إلخ . كما أن مثل هذا الاقتحام للحالة هو خير أيضاً من مواجهة بعضنا لها بالسخرية والتهريج وتكلف اللامبالاة في وقت قد لا نجد أمامنا ونحن ننعزل عن الناس في خلوة نفسية أو مادية وقد انفلتت سخريتنا ولامبالاتنا إلا أن ننهار وربما ننخرط في البكاء أو ننهار تماماً . إذن مهما قال من قال بشأن الموقف الفكري للتكرلي متفقاً أو مختلفاً معه ، ومهما كان تحديدنا أو توصيفنا لتعامل الكاتب مع الأزمة الإنسانية ممثَّلة هنا بحالة بعينها ، فإن شيئاً لا يمكن إلا أن نتفق فيه حوله ، ذلك هو أن التكرلي رفض الهرب وفضل الواجهة ، وفي المواجهة ما يكفي من إقناع بالتناول حتى وإن لم يُزِل هذا التناول غرابة هذه الحالة . وإذ تحمل هذه الأزمة غرابتها مهما كانت الأوجه التي نواجهها منها ، نتساءل كيف تمثلت كما واجهها الكاتب أو واجهتها الرواية ؟ مقرين هنا أن الأهم من كل الأوجه وضمناً من الوجه الذي تبدو عليه في الرواية هو الاعتراف بوجودها في النتيجة والوعي بخطورتها ، مما قد يبرر هذا بعينه للتكرلي تناولها . ولعل منجميل ما يذكر للكاتب هنا ، قبل السعي للإجابة على هذا التساؤل ، هو أن غرابة هذا الذي يتناوله لا يقلل من أهمية التناول ، خاصة حين يكشف عن الكثير من هويته وأسبابه عبر الكشف عن أوجه عدة للحالة ممثلة في الرواية ، مرة أخرى في أزمة بطلها .
لعل أول أوجه أزمة البطل (هاشم) ، وهو من زاوية أخرى أول سبب من أسبابها أيضاً هو العلاقة التي لا يمكن أن تكون عادية – ولا نريد الاستعجال فنقول إنها غير طبيعية – بين (هاشم) وأمه وبدليل – ضمن أدلة – ظاهر وبسيط وواضح ، ولكنه دال فعلاً ، وهو أن البطل عندما يذكرها فإنه كثيراً ما يذكرها مقرونة باسمها : ” أمي سناء ” على نحو قوله :
” ماذا كان يظن أني سأفعل حين يتحدث عن أمي سناء كمخلوقة مختلة الأعصاب أو مريضة ؟” – الرواية / ص 91 .
و ” – اسمح لي ، أبي العزيز ، هل يمكنك أن تجيب بصراحة .. الآن فقط ؟ أكنت سعيداً مع .. أمي سناء ؟ أكنت سعيداً معها ؟ أجبني . أتوسل إليك” – الرواية / ص 146.
فإضافة إلى أن ورود هذا لوحده بهذا الشكل لا بد أن يعني شيئاً غير عادي فإن ما يرسخ هذا المعنى غير العادي وروده مكرراً تقريباً في كل استذكارات البطل وتداعياته ومنولوغاته وفي أحاديثه مع الآخرين على امتداد الرواية . إلى ماذا يشير ذلك ؟ لربما لا يمتلك السؤال ظاهرياً مشروعية لأن البطل افتراضاً لا يعي أنه يذكرها بشكل غير اعتيادي ، ولا يفعل شيئاً غير عادي ما دام ذلك يخرج منه غالباً وهو في حالة انفعال أو تدفق كلام منه من مستويات غير المستويات التي يتكلم الإنسان فيها عادة وهو في الحالة الطبيعية ، نعني في حياته اليومية وضمن سلوكه العادي اليومي وفي علاقاته ، لكن هذا إذ يجري في لاوعيه فإنه في الواقع يؤكد اللاإعتيادية في ذلك وبالتالي فالسؤال في حقيقة الأمر يكتسب مشروعية . ومع هذا فلا يحضر منا جواب مقنع على ذلك دون الإجابة على سؤال أكبر ربما تنطوي على جواب السؤال الأول ، ذلك هو : ماذا أرادت الرواية من ذلك ، إن اتفقنا على أنه لا يمكن أن يكون مجرداً من الدلالة الخاصة ؟ هل هو شك داخلي لاواع ببنوته لأمه (سناء) ؟ ربما ، ولكننا في الحقيقة لم نستطع أن نجد ما يحسم أمر الإجابة هنا ، ليبرز إزاء هذا ما هو أوسع في دلالته من ذلك بحيث يشتمل عليه ، ذلك هو الشك بالأشياء ، كل الأشياء ، بما في ذلك الناس والعلاقات وحقيقة وقوع الأحداث ، منعكساً في أمور وعلائم نقرأها في ذهن البطل حين ينفتح علينا ، عبر لاوعي تداعياته بشكل خاص .. “… سرني أن يكون بإمكاني معاودة الجولان في شوارع بغداد تحت المطر ، مثلما كان الأمر تلك الأيام ، ثم أخبرتني ، أم أني شعرت فقط ولم يخبرني أحد” – الرواية / ص108. وهنا ربما يفاجأ القارئ إذ يجد هذا الأمر الغريب يعيش في الواقع فيه هو ليعي في النتيجة أنه في الحقيقة مما يمكن أن يتمثل في نفس كل فرد منا وبيئته والحياة من حوله . ومن جميل ما يوصلنا هذا إليه هو أنه يعلل القرب أو الميل الذي يجده القارئ تجاه الرواية ، وهو القرب أو الميل الذي نحسه تجاه كل أعمال الكاتب الطويلة والقصيرة وتبعاً لذلك تجاه أبطال التكرلي المأزمومة حتى حين تكون في أوضاع غير عادية وشبه شاذة مقرنة بالمعروف من الأشخاص والسلوكيات والقيم في الواقع . ونعود إلى مثل هذا الأمر الغريب الذي نجده في ذواتنا كما قلنا ، لنكتشف أن مثل هذا أمور كثيرة في حياتنا وأحاسيسنا وعلاقاتنا ، وقد بصل إلى حد أن نصفها بالأسرار .. هي قد تتكون وتنمو بمعزل عنا لكنها تبدأ ولا شك ، في وقت بعينه ، تعمل عملها في التأثير الفاعل في حياتنا وأقدارنا متى ما وجدت أرضاً خصبة فينا وظروفاً مساعدة ووقتاً ملائماً لها لتفعل ذلك .. وصولاً إلى أن تأخذ بصراحة إلى أن يكون ، لا كما يجب عادة أن تكون توافقاً مع ما تواضع عليه المجتمع والآخرون ، وأحيانا ًإلى أن تضعه في وضع وضعاً مرضي وربما ما يبدو انحرافاً لا نستطيع عمل شيء حياله ، لأننا أما أن لا نراه كما يراه الآخرون انحرافاً ، أو أن تكون كذلك من دون أن ندري أنه حقيقة كذلك ، وأحياناً وصولاً إلى ما هو أكثر من ذلك .. ربما إلى انتحارنا ، والانتحار هو ربما أقصى وأشد المواقف سلبية التي يمكن للإنسان أن يتخذها ، حين يصل ذلك معه إلى درجة عدم القدرة على تجاوزه إهمالاً أو احتقاراً أو تناسياً له ، ليتوافق مع ما تواضع عليه مجتمعنا ، أو إقناع الآخرين به ، أو حتى إقناع أنفسنا به . مثل هذا رأينا الكثير في أعمال التكرلي من قصص قصيرة وروايات ، فكان في محمد جعفر بطل “الوجه الآخر” ، وفي أكثر من شخصية من شخصيات “الرجع البعيد” ، وفي بطل الرواية التي ندرسها . أما أهمية هذا هنا في معالجة الكاتب له فلا يكمن في هذه التأزمات أو في الفكرة التي وراءها ، ولا في أن تكون في الإنسان ، بل في تعبيرها القوي والمتطرف لما قد يكون فينا ويبهض أفكارنا ويهدد وجودنا . الواقع ، بعبارة أخرى ، إن التكرلي لا يقول إن كل إنسان يعيش عادة مثل هذه الحالة وتأزمها تحديداً ، ويكون له مثل هذه الأحاسيس المبهضة ، بل هو يعيش مؤهلاً عادة للتأزم الذي يكون نتيجة أسباب يهرب من التفكير أو التهرب منها ، فيكون وفقاً لذلك معرضاً للوقوع في الأزمة أو الكارثة التي قد تنجم عنها .
في رواية ” خاتم الرمل” يأتي بطلها هاشم بما يبدو أنها أفعال يريد أن يتحرر بها من الارتباط بالمكان والزمان والناس . هل هو سعي الإنسان للتحرر من الارتباط الذي يجد نفسه فيه بالناس أو المكان أو الحالة … وفي النتيجة بالمصير الذي يحسه ينقاد إليه عبر ارتباطه بهذا المكان والزمان والحالة.. ولربما من هنا هو يرفض الارتباط بالآخر أو التسليم بما يفرضه حتى وإن بدا ظاهرياً معقولاً ؟ : “لا رغبة في التحدث أو في حل المشاكل الخاصة بي بناءً على طلب الآخرين . هذا ما أرفضه” – الرواية / ص62 . يبدو لنا هذا هو فعلاً ما تعبر عنه الرواية ومن خلفها التكرلي ، ووفق ما يراه المؤلف هو البطل ، وهو الارتباط الوجودي الذي يعبر عنه فعلاً بطل الرواية (هاشم) ، ولكن دون تسليم تماماً الكاتب في هذا للبطل الوجودي كما نعرفه عند سارتر أو كافكا أو كامو ، وليس هذا بغريب بحدود تعلق الأمر بالتكرلي الذي عرفناه دائماً صاحب خصوصية سواء أكان ذلك ضمن انتمائه للأدب الروائي العراقي أو العربي ، أم ضمن الدائرة الأوسع ، نعني الأدب الروائي والقصصي العالمي . ونعود إلى بطلنا لنجده فعلاً برأينا متلبساً ، كما تفصح عن ذلك شخصيته وأفكاره وكلامه ، بالإحساس بالارتباط والانتماء المفروض عليه ، شأنه في ذلك بالطبع شأن كل إنسان ، إلى مجتمع وأناس ومكان ما اختارها هو وهو ما قاد إلى الإحساس بعدم جوهرية الارتباط بالآخرين وبزيفه ، أو على الأقل هو قاد إلى عدم الاقتناع به ، بفعل خلل منه أو من الآخرين ، الأمر الذي يحول هذه العلاقة افتراضاً إلى علاقة واهية وكأنها “رمليه” كما يبدو لنا أن الرواية قد عبرت عنه ، فإن واحداً من أشدّ وأقوى وأقدس العلاقات افتراضاً الذي يربط البشر ببعضهم هو الزواج فعبرت عنه الرواية انطلاقاً من هذا بخاتم الرمل :
“وبسبب هذه النظرة التي تفسر نظام الأشياء الطبيعية من أجل أن تحشره في نظامها المصطنع ، يتحول خاتم الذهب الخالص إلى خاتم من رمل ، وتفسد العلاقات” – الرواية / ص 93 .
وهذه ليست بعيدة عما عبرت عنها الوجودية بفكرة الارتماء الذي لا يد للإنسان به إذ يجد نفسه في مكان معين وزمان معين ووسط أناس معينين . هو قد يدفع هذا الإنسان إلى أن يسعى للتحرر منه ومما قد يقود إليه من مصير عبر أن يختار هو ، لا أن يستسلم لما يختاره الآخرون .
“… يمكنني ، وأنا ثابت القدمين غير مبال بأحد ، أن أواجههم في الوقت الراهن . لا يهم إن كانوا فهموا أم لا ، فتلك مسألة أخرى . ما يهم حقاً هو أن يعرفوا عن يقين بأني أنا الذي سأختار .. أنا الذي سأختار وقتما أشاء” – الرواية / ص 113 .
ولكن قد لا ينفع للفرد أي شيء إزاء الارتماء اللاإرادي الوجودي ، أو ربما الكوني ، حتى وإن سعى هو إلى التحرر منه :
“كان انطلاقي ، أشق الظلام ، بسرعة تزيد على المئة كيلومتر في الساعة ، يبعث فيَّ راحة وخفّة وتوتراً محبباً ، إنه نوع ، غير مجد ، من أنواع التحرر المكاني ، أو هو ، ربما ، تسريع لدماء الزمان .. لا معنى له أيضاً” – الرواية / ص 134 .
ولعل ما يؤكد هذا أيضاً النهاية التي انتهت بها حياة (هاشم) ، حيث يموت قتلاً ، ليسجل ذلك انسياق الإنسان بقوة وجودية لا يعرفها ولا يفهمها نحو مصير ما ليس له يد في صنعه ، كما لم يكن له يد في مجيئه إلى الحياة ولا في طبيعة هذه الحياة التي يُرمَى إليها . هي إذن المسيرة الوجودية للإنسان في هذه الحياة نحو النهاية . هل هذا كله سوداوية ؟ هل هو تشاؤم ؟ هل هو قتامة في النظر إلى إنسانيتنا وإلى حياتنا وإلى مصيرنا ؟ مرة أخرى ربما ، ولكن فد نختلف في تحليل ذلك والخروج بما نخرج به . ولكن المهم هنا هو ما أشرنا إليه في بداية هذه الدراسة من أن التكرلي إنما يحتم ويتعرض ويتناول ويثير أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة قد تثار فينا ، ولا يهرب كما يفعل الناس كتاباً أو غير كتاب ، عدا أولئك الذين وجدوا علاج ذلك في الدين والإيمان مثلاً . بتعبير آخر أن الكاتب يعبر في كل الأحوال لا بافتعال بل بصدق ، عن حياتنا وتجربتنا ، وكما تنعكس في دواخلنا رؤية وتفكيراً وإحساساً وتجليّاً ، بمعنى أنه يفعل ذلك تجاه أمور موجودة فينا أو من حولنا ، حتى حين ننكر ذلك أو نتظاهر بعدم وجودها ، وتكمن فيها بعض أزمات الوجود الإنساني الخالدة ، مع عدم إنكار بعض النفس السوداوي في اقتحام التكرلي لذلك الذي قد يبالغ البعض برصده ، وهو نَفَسٌ لا نظن يمكن تفاديه لأنه في القضية ذاتها كما هي مثارة في داخل الإنسان أكثر منها في تناول التكرلي لها أي أنه نَفَسٌ لا يحسب بظننا على الكاتب ، بل على ما يرصده أو يتناوله ، وقبل ذلك على ما هو فينا وفي حياتنا ووجودنا . لكن المهم هنا هو أن هذه (السوداوية) ليست تشاؤمية ، إذا ما أدركنا أن الكاتب في تناولها ، وخاصة في الحدة التي يقدما فيه ، يحفز الإنسان على عدم التهرب منها بل على الوعي بها وصولا ً ، أو على الأقل سعياً إلى الخلاص . إذن نحن نعتقد أن التكرلي حين سلم ظاهرياً بذلك كله ليبدو في النتيجة سوداوياً وتشاؤميا ً ، إنما كان يريد في الحقيقة العكس ، بعبارة أخرى إنه يريد في ذلك أن يقول إن استسلام الإنسان إو هربه إلى الاغتراب هو الذي يقوده إلى هذا . إذن فالمطلوب هو أن يكون له موقف فعل يحول بينه وبين أن ينتهي إلى هذه النهاية وهذا ما ترسخه القراءة الواعية للرواية كما هي لكل أعمال الكاتب . الكاتب ومن خلال التجربة التي تمثلتها الرواية بالتأكيد لا يضمن لك أن تكون النهاية غير هذه التي تقدمها حين يطالبك بأن تتخذ موقفاً وتفعل فعلاً ، لكن هذا ليس مهماً بقدر أهمية أن يكون لك فعل ، إذ أنك حين تحاول فإنك تحقق بعض إنسانيتك كما يجب أن تكون وقوة هذه الإنسانية ، وبهذا يكون لك فضل المحاولة مهما كانت النتيجة .
( 3 )
إن أزمة أبطال التكرلي كما ممثلين هنا في بطل الرواية (هاشم) ، وفي العديد من أبطال التكرلي وشخصياته السابقة ، خاصة (محمد جعفر) في “الوجه الآخر” ، وتحديداً من خلال فكرة (الارتماء) وما ينتج عنها من انفصامه عن الآخرين حياةً وفكراً وسلوكاً ، تمثل أزمة البطل الإنسان الفرد في توحده واغترابه وقلقه ليؤكد ذلك كله وجودية هذه الأزمة . أما مظهر البطل الخارجي من خلال أزمته مع العالم والناس ، فهو النتيجة الطبيعية للأزمة الفردية الداخلية أولاً ، وهو تمظهرها بما يناسب عالم الرواية : هو ، هو وأمه ، هو والناس .. وهذا يقودنا مرة أخرى إلى علاقة هاشم بأمه التي هي أكثر من مجرد علاقة ابن بأمه خصوصاً أننا يمكن أن تكون صدفة أن يكون عمر هاشم أثناء وقوع الأحداث هو 31 سنة ، وهو نفس عمر أمه حين ماتت ، حتى وإن لم نتفق على أنها تصل إلى أن يكون لدى هاشم عقدة أوديب .
“… كانت {يقصد أمه} تحتضنني في ظلام الغرفة ، مرتجفة متعرّقة ، وهي تردد ، كمن يهذي ، كلماتها بهمس : (لا عليك .. لا عليك أنت يا حبيبي . لن ينال مني أبداً .. أبداً . أنت ملاكي يابني وأنا مثلك . أنتلي .. أنت لي .. ولن أكون لآخر بعدك) أكانت تلك هي كلماتها حقاً ؟ أم أني أتذكر ، هادياً ، مثلها ؟” – الرواية / ص 134 .
وربما من هنا يكون ميله إلى د. سلمى لبعض الوقت ، إذ فيها شيء مما تشترك فيه مع أمه ، على الأقل في منظوره : شخصيتها ، وطريقة كلامها ، والعطر الذي تستخدمه … إلخ . ومهما كانت هوية هذه العلاقة التي نتفق عليها أو لا نتفق ، فإنها تذكرنا بعلاقة كوينتن وبنجي بأختهما في رواية وليم فوكنر “الصخب والعنف” التي كان لها دلالات فكرية ورمزية ،. في كل الأحوال تحتاج هذه العلاقة وما أثارته وقد تثيره إلى وقفة خاصة ، وربما إلى مقال أو دراسة مستقلة .
بمعزل عن وجودية مجموعة أبطال وشخصيات ، وسوداوية أخرى ليس شرطاً أن تكون وجودية ، وتأزم ثالثة وليس شرطاً أن تكون وجودية ولا سوداية ، يبقى أن المشترك بين جل شخصيات التكرلي في الرواية الحالية والروايات الأخرى وعموم قصصه هو الهوة التي تفصل ما بينهم والآخرين ، فلا نكاد نجد بينها من يعيش بانسجام مع من يحيطون بهم بعد أن رُسمت حيواتها بخصوصية واختطت لها خطوطاً خاصة أو غير معتادة مما يجد الآخرون معها صعوبة أو استحالة أن يتقبلوها ، مع أن توصيف هذه الشخصيات والحكم عليها واعتبار أنها وخطوط حياتها تلك لا تلتقي مع الآخرين ومع خطوط حيوات الآخرين إنما يأتي ، وبالتالي نراها نحن من خلال زوايا الآخرين . أما حين نضع أنفسنا في موقع الشخصيات المعنية نفسها ، أو حين تتمثل من خلال وعيها فأن الأمر عادة ما يختلف ، فما قد يبدو شاذاً أو غير طبيعي أو خاطئاً حين ننظر إليه من خلال عيون الآخرين أو وعيهم ، لا يكون كذلك تماماً ، بل قد يكون صحيحاً ، أو طبيعياً ، أو ضحية . بعبارة أخرى أن الهوة التي نراها ما بين أبطال أو شخصيات التكرلي والآخرين إنما نراها هكذا من خلال زوايا نظر الآخرين ، أو من طبيعة الحياة والوجود والنسق الإنساني غير المفهوم أحياناً ، أو من زاوية ثالثة مفروضة منهم هم حين ينعزلون عن الآخرين بسلبية وبدافع من عدم القناعة برؤى الآخرين او بدافع رؤيتهم لعبثية الحياة بالناس أو بدون الناس . وفي كل الأحوال قد نختلف مع قراءات أخرى لعوالم التكرلي ورؤاه وأفكاره وشخصياته حين نقول إن بطل التكرلي لا يبغي ، بعكس ما قد يبدو ظاهرياً ، إلحاق الأذى بالآخرين حين ينعزل عنهم أو يهاجمهم أو يسلك سلوكاً (سلبياً) بعينه تجاههم ، بل هو حين يفعل ذلك فكأنما الأمر يتم رغماً عن إرادته ، كما كان الأمر مع مدحت ، وحسين في “الرجع البعيد”، وعليه فإن الأذى الذي يلحق الآخرين بسبب أفعاله لا يكون عادة بمنجى هو أيضاً منه ، أو حين لا يجد ، من منظوره ، من جدوى في الوقوف إلى جانب الآخرين في محنهم ما دامت وقفته إذ تسبب له هو الأذى فإنها لا تغير أو تزيل محن أولئك الآخرين ، كما هو حال محمد جعفر في “الوجه الآخر” ، أو حين يجد في بعض الآخرين من يستحق أن يتحمل تبعات أفكاره أو أفعاله أو وضعه أو وجوده في هذا المكان أو الزمان أو الظرف أو ذاك ، كما هو شأن منيرة في “الرجع البعيد” . وفي أحيان أخرى يحدث ما يحدث دون أن يعرف البطل لماذا يحدث هذا ؟ ولكنه يسعى ليعرف فيصل إلى ما يردم الفجوة بينه وبين الآخرين ، كما فعل تقريباً (حسين) – “الرجع البعيد” . أما (هاشم) – “خاتم الرمل” – فيبدو وكأنه يسعى بشكل أو بآخر لتحقيق خلاص ما لكنه على يبدو لا يبذل ما يكفي . بقي لماذا يحدث هذا الذي يحدث في كل هذه الحالات ، خاصة في الحالة الأخيرة ؟ فلا أحد يعرف حتى الشخصية الروائية نفسها ، أو الشخص في حياة الواقع . هو يحدث ويقع خارج إرادتنا وبمعزل عنها وعن قدرة عقولنا على السيطرة عليها واستيعاب مكنوناتها أو فهمها .. ولعله من غير المبرر أن نبدي استغرابنا من ذلك ، ما دام الوجود كله ، بنا وبدوننا ، من الممكن أن يكون موضع استغراب وعدم فهم أصلاً . وهكذا فبطل التكرلي إذ لا يسيء الظن والفهم والتفكير بالآخرين ، فإنه يتألم ويعاني ويشعر بالحزن والأسى حين يجد الآخرين يسيئون فهمه .
ولعل من جميل ما يحققه التكرلي تعلقاً بكل هذا أنه يهيئ بنجاح عادة الفهم والتفهم ، وربما التعاطف لدينا مع شخصياته المأزومة حين يرتكبون أخطاءً ، وحين لا ينسجم تفكيرهم وسلوكهم مع الآخرين ، ومع ما تواضع عليه المجتمع ، وحين لا نجد من يتفهمهم من بين شخصيات العمل الأخرى ، كما أحسسنا ذلك سابقاً تجاه محمد جعفر – “الوجه الآخر” – وحسين – “الرجع البعيد” – ونحسه تجاه هاشم – “خاتم الرمل” . وعلى العكس نجد أنفسنا أحياناً ندين الآخرين على قسوتهم وأفعالهم حتى حين تكون متلائمة مع الواقع .
وفي كل الأحوال نلاحظ أن التكرلي يقدم هذه الشخصيات بما يشبه التشويش المتعمد ، وبظننا أن ذلك إنما يرجع إلى تشوش تفكير هذه الشخصيات نفسها أولاً ، وإلى طبيعة الحياة والوجود حيث يكونون فيه ثانياُ ، وربما ليحفزنا لنتلمس طريقنا نحن إلى فهم هذه الشخصيات الفهم والأكثر عدالة وانتماءً لنا ثالثاُ . والحقيقة أن الكاتب حين يفعل ذلك ليبدع بشكل فريد بحيث لا نحس أنه يفعل ذلك بقدر ما أن الشخصيات وعوالمها هي هكذا ، وهو ما ينعكس بشكل خاص في انفعالاتها عندما تحيا وتفكر وتتكلم وتقيم علاقات مع الآخرين . هنا يجب أن نشير إلى أن من أكثر الأمور التي يتألق الكاتب فيها تعامله مع انفعالات الشخصيات المأزومة وتصعيد تأزماتها وانفعالاتها ، خاصة في تدفق كلامها من أفواهها منسجماً مع تلك الانفعالات ومعبراً عنها لتكون وكأنها مرآة دواخلها من جهة وحبل وصلنا معها بمعزل عن اتفاقنا أو تعاطفنا معها أو عدمه ، وبالتالي مجسداً لتأزماتها التي تهم التكرلي وعمله ، وهو ما يتم غالباً في مجرى فكري أو حدثي أو علائقي – إن صح التعبير – يكون له شأن بدواخل تلك الشخصيات وهي تنطلق أصلاً منها – كما لمحنا ضمناً إلى ذلك – ويعتمل فيها ليوصلها عبر ذلك إلى ما يمكن أن نسميه بحالة التفجر الذي يؤدي بدوره – ظاهريا ًعلى الأقل – انفلاتها من زمام سيطرة المؤلف نفسه عليها ، لتنقاد بالنتيجة لا إلى إرباك أو تخلخل – كما قد يوحي به قولنا بانفلاتها من سيطرة المؤلف ، بل إلى بناء حدث وحديث – هما في الحقيقة حوار داخلي أو تداعيات – يكون برأينا قمة ما يمكن لمبدع أن يبنيه . هل لذلك روائياُ أو قصصياً علاقة بتلك الهوة التي أشرنا إلى وجودها دوماً ما بين الأبطال والآخرين ؟ غالباً نعم ، فحين قلنا إن الانفعالات تفجرها مصادر فكرية أو حدثية أو علائقية ، فإننا نشير ضمناُ إلى أن غالب ذلك يكون من البيئة بمكانها وزمنها وأناسها ، وتحديداً عندما تأتي بما لا يتواءم مع رؤية الشخصية المأزومة وتفكيرها ، ولا شك أن مثل هذا الذي لا يتواءم معها كثير الورود بوجود الهوة بين الشخصية من جهة والعالم والآخرين من جهة أخرى .
من النتائج التي قد لا تكون المنظورة للقارئ العادي والمنظورة والمحسوسة بشدة من القارئ غير العادي لهذا التفجر أو التفجير والانفعال والتأزمات وقبلاً الهوة ، هو التشخيص الذي يحضر الشخصيات وأزماتها وانفعالاتها ومشاكلها … إلخ أمامنا ، خاصة حين نجد فيها ما نلتقي معه حتى مع غرابتها غالباً . ولعل هذا مما نحسه ونحن نتابع أزمة هاشم ، ومن قبل في أزمات منيرة وحسين ، ومدحت وعبدالكريم في “الرجع البعيد” ، بل حتى في محمد جعفر في “الوجه الآخر” المدان عادة من القارئ ن خاصة حين ينطلق هذا القارئ من منطلقات أخلاقية مسلم بها ، ولا تراعي خصوصية أو أزمة أو نفسية أو منطلقاً مخالفاً لما تواضع عليه الآخرون .
وفي كل الأحوال يصح القول أخيراً إن رواية “خاتم الرمل” هي رواية الشخصية المأزومة بوجودها .
najmaldyni@yahoo.com
ـــــــــــــــــــ
(1) صدرت الرواية عن دار الآداب ، بيروت ، دار الآداب ، 1995 .
(2) صدر للكاتب ، بعد “خاتم الرمل” روايتان :
(3) لربما لاحظ القارئ تكرار كلمتي (الخاص) و (الخاصة) توصيفاً للكثير من مفردات فن التكرلي . والحقيقة أن كل ما يخص هذا الكاتب له فعلاً خصوصية ، كاتباً ، وأعمالاً ، وعوالم ، وشخصيات ، واتجاهاً …
(4) كتابنا : الرواية في العراق 1965 – 1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها ، بغداد ، دار الشؤون الثقافية العامة ، 1987، ص 275 .
(5) مجدي وهبة وكامل المهندس : معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، لبنان ، مكتبة لبنان ، ط 1 ، 1984 ، ص 109 .