سؤال اللاجواب وجواب اللاسؤال
قراءة في رواية فؤاد التكرلي “اللاسؤال واللاجواب”
في ضوء مناهج القراءة والتلقي
د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث
كلية الآداب – جامعة بغداد
مقدمة
حين اخترت أن أتوقف عند رواية “اللاسؤال واللأجواب”، في قراءة نقدية، فلأن هذه القراءة تأتي ضمن اهتمامي الدائم بتجربة كاتبها الكبير فؤاد التكرلي، بعد كتابتي عن جل أعماله السابقة، ولاسيما الروائية([1])، ولأنها تشكل، برأيي، ضمن هذه المسيرة، تجربة امتلكت ميزتين يصعب على أي كاتب صاحب مشروع أو تجربة متميزة وطويلة أن يتوفر عليهما في أي عمل يكتبه، وهما أن هذه الرواية تشكل، أولاً، واحدة من مفردات هذه التجربة الطويلة وصورها، وهي تمثّل، ثانياً، تجربة خاصة، في الوقت نفسه، تختلف عن سابقتها ضمن تلك التجربة الفنية والفكرية الطويلة. أما لماذا تأتي قراءتي لهذه الرواية في ضوء مناهج القراءة والتلقّي، فلأن هذه المناهج ضمن أكثر المناهج إقناعاً لي، ولأنها برأيي أكثر عطاءً من غيرها، ولأني أراها تناسب هذه الرواية أكثر من أية رواية أخرى لهذا الكاتب، ولأنها نصية ولكنها تشكل ما يشبه ردة الفعل على التطرف في هذه النصية، وعليه فقد خرجتْ عن بعض حدودها لتعود بنا جزئياً إلى ما قبل النصية مما هو برأيي استفادة حتمية، ضمن مسيرة النقد، من سلطات نقدية سابقة بعد القسر لتجاوزها، الذي مارسته الشكلانية بشكل معقول ومقنع، ومارسته البنيوية بشكل كثيراً ما افتقد المنطق والإقناع، بل روح النقد وديناميكيته اللتين عادةً ما كانتا حاضرتين طوال تاريخه، ليس بوصفه ممارَسةً بل بأصحابه بوصفهم ممارِسين له، ولهذا كان أن صاغت فرضية بحثنا نفسها بأن هذه الرواية قد سارت في مشروع التكرلي وخرجت عليه في الوقت نفسه، مما نرى أنه يجسّد تفرّد الكاتب، اي كاتب، وخصوصيته. بقي أنني أقول (مناهج) القراءة، وليس منهج قراءة بعينه، فلأنني إذ سأركز على أحدها فإنني لن أغادر آخر المغادرة التي أراها غير ممكنة إلا بتكلّف لا أستسيغه في (منهجي) و(رؤيتي) وفي ممارساتي النقدية([2]). وفي كل الأحوال نحتاج هنا إلى مقدمة قصيرة عن مناهج القراءة والتلقي هذه.
**
المبحث الأول
نظريات القراءة والتلقي
( 1 )
“يعرض تيري إيغلتن تاريخ النظرية النقدية الحديثة الذي يتشكّل عنده من ثلاث مراحل رئيسة: مرحلة الاستغراق الرومانتيكي بالمؤلف، ومرحلة التركيز الجديد على النص، ومرحلة تحوّل الاهتمام إلى القارئ. يركّز نقد استجابة القارئ، بوصفه مقترباً نقدياً، على فعل القراءة بوصفه فعالية دينامية لا يكون القارئ فيها مستقبِلاً سلبياً، بل منتجاً فاعلاً للمعنى… أما الطرق التي ينسب القرّاءُ فيها القيمةَ والمعنى للعمل فتصوغها أو تشكّلها الخلفيات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يُحضرونها إلى قراءتهم. وبدلاً من معيار القيمة الأدبية، هناك مراكز قيمة متعددة ينطلقون منها لتقييم النص. ولا يحكم أي قارئٍ على الجودة من خلال تحليل خالص لنص ثابت، بل من خلال أدوات ثقافية تتطور وتختلف باستمرار وفقاً للجندر/ الجنوسة والطبقة والجنس والعرق والجغرافية والزمن… وقد جادل ستانلي فيش بأن جميع النصوص تبقى في القارئ وضمن (جماعات تفسير أو تاويل) بعينها”([3]).
انطلق نقد القراءة والتلقّي، من مفارقةٍ للنقد التقليدي الذي كان يقوم على سلطة المؤلف، ومن قناعة كبيرة، ولكن ليست كلية، بالنقد النصي الذي كان يقوم على سلطة النص ذاته الذي يرون له، في تلقّيه وفهمه، استقلاليةً خاصة عمّا حوله وعن مؤلفه وما حول مؤلّفه. فرأى أصحاب هذا النقد من أن العمل / الكتاب ( النص) يتمتّع بوجودٍ مستقل من جهة، ولكنه لا يجد معناه الكامل إلا عندما يصل إلى الآخرين/ القراء ويجعلهم يتفاعلون معه من جهة أخرى، الأمر الذي يعني حضور سلطة أخرى، غير سلطتي المؤلف والنص، تلك هي سلطنة القارئ. “ومن جراء هذه العملية فإن القراء يحققون أنفسهم كفاعليـن (وليسوا كمنفعلين)، لهم دور يلعبونه في العمل الفني ويغنونه ويطوّرونه”([4])، بل من خلال هذه الصلة بين القارئ فاعلا والنص فاعلاً ومفعولاً به، إنما يتحقق المعنى، ولذا فقد تعددت المعاني بتعدد القراءات. وتبعا لذلك يكون مفهوماً القول: “ليست هناك قراءة واحدة لقطعة أدبية تستطيع أن تنتزع كل ما فيها([5])، وقول نيتشه من قبل: “ليست هناك حقائق، بل تأويل فقط”([6]).
إن هذا الذي صار للكثيرين حقيقة، كان وراء بروز ما نسميها سلطة القارئ في النقد، عبر آراء وطروحات تبلورت أحياناً بشكل نظريات عنيت بالقراءة والتلقي، لتؤدي بدورها إلى انتقال كبير في الهيمنة من سلطة النص إلى سلطة القارئ القديمة في وجودها والجديدة في فاعليتها النقدية. في ضوء هذا نذهب مع من يقول: “قد تستمر النصوص الأدبية بقوانينها العامة ذاتها، وقد تبقى بعض الاستنتاجات، مهما كانت مناهج الوصول إليها، صالحة للكلام على هذه النصوص، أي قد تبقى هذه الاستنتاجات مقبولة زمناً معيناً، ولكن هذا الزمن المعيّن لا يمكنه أن يكون دهراً، لأنه، وبكل بساطه، تاريخي متغيّر ومولّد”([7])، وتسهم في تغيير هذه الاستنتاجات وما تستتبعه من تعدد القراءات تبعاً لتعدد استجابات القراء جماعات وأفراداً. وهذا كله شكل الأطر والماهيات التي ظهرت في داخلها ما يسمى بنظريات القراءة، التي تعدّدت واختلفت، لكنها التقت فيما بينها أيضاً بالطبع.
( 2 )
صار معروفا، في حقل القراءة والتلقي، أن هناك ما يسمى نقد (استجابة القارئ) أو (نظرية استجابة القارئ) Reader-Response Theory، ونظرية (التلقي) أو (الاستقبال) Reception Theory. ولكي نفهم ترابط هاتين النظريتين- كما يبدو وقوعه واضحاً، ومع أنهما مجالان ضمن مجال أو حقل أكبر- يجب أن نعرف “أن نظرية التلقي إنما هي إلى حد بعيد تطبيق لنظرية استجابة القارئ”([8]). والواقع نحن لا نرى بالإمكان، حتى إذا أردنا الفصل بينهما ابتغاء الدقة النقدية، الكلام عن أي منهما دون النظر أو التطرق ضمناً للأخرى. وعليه يكون من الطبيعي أن نبدأ- ولا ننتهي- بإحدى نظريات استجابة القارئ، تلك هــي (القارئ في النص) أو نظرية (التأثير) كما يسميها أصحابها، وعلى رأسهم ولفغانغ إيزر “الذي ينبّه إلى أن نظريته ليست نظرية الاستقبال التي تعنى بها مدرسة أخرى في ألمانيا، بل هي نظرية التأثير المتبادل بين النص والقارئ. فالعمل الأدبي ليس له وجود إلا عندما يتحقق ، وهو لا يتحقق إلا من خلال القارئ، ومن ثم تكون عملية القراءة هي التشكيل الجديد لواقع مشكل من قبل، هو العمل الأدبي نفسه. وهذا الواقع المشكل في النص الأدبي لا وجود له في الواقع ، حيث أنه صَنعة خيالية أولا وأخيرا”([9]). هذه النظرية “لا تهتم إلا بعملية القراءة، دون الاهتمام بمنهج مسبق، وعلى أساس أن النص لا يتم إلا من خلال حركة القراءة الواعية التي تتفاعل مع لغة النص تفاعلا كليا، وتتحرك معها ، ولا تحيد عنـها من البداية إلى النهاية”([10]).
واضح من كلَّ ما سبق أن إيزر، وكما هو إلى حد كبير حـال أصحاب نظريات القراءة عموماً، يركز، في القراءة، على ما يراه أخذاً وعطاءً أو تبادلاً، أو قد يعبرّ عنه بأنه تفاعل يتمّ خلال هذه القراءة بين القارئ والنص. تعلقاً بهذا ترى نظرية إيزر “أن عملية القراءة تسير في اتجاهين متبادلين، من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص، فبقدر ما يُقدَّم النص إلى القارئ يضفي القارئ على النص أبعاداً جديدة قد لا يكون لها وجود في النص”([11])، مع أننا نتحفظ قليلا هنا على تعبير “قد لا يكون لها وجود في النص” لما قد يوحي به من أن ما تخرج به قراءة النص لا علاقة فعلية له به، في وقت لا نرى فيه إمكانية مثل هذا. بعبارة أخرى لا نرى إمكانية أنْ نقول، قُرّاءً أو نقاداً، عن النص ما ليس فيه أو يوحي به أو، على الأقل، يشترك في تحقيقه وهو ما ينطوي عليه رأي إيزر هذا، بغض النظر عما إذا كان قد عناه فعلاً أم لم يعنيه.
لعل تعبير رامـان سلـدن عن هذا أقرب إلى الدقة والقبول إذ يقول: “من منظور النقد المتجه إلى القارئ… أنّ المعنى في النص لا يصوغ ذاته أبداً، بل على القارئ أن يحفر في المادة النصية لكي ينتج المعنى”([12])، مع ملاحظة أهمية كلمة (ينتج) هنا التي لا تساوي تعبير “يضفي القارئ على النص أبعادا جديدة قد لا يكون لها وجود في النص” ، كما لا تساوي تعبير “يستخرج من النص” التي قد يقول فيها النقاد الحداثيون السابقون على نقاد القراءة. “ويزعم ولفغانغ إيزر أن النصوص الأدبية تحتوى دائما على (فراغات) يمكن أن يملأها القارئ وحده”([13])، لتسير القراءة بذلك في اتجاهيها، من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص، “ومن ثم تكون عملية القراءة هي التشكيل الجديد لواقع مشكل من قبل، هو العمل الأدبي نفسه”([14]). ومهة الإشارة هنا إلى (التشكيل الجديد لواقع مشكّل) إنما يتم بمشاركة فاعلة من القارئ، كما هو واضح في طروحات النظرية، وعليه فمنطقي أن يكون لشخصية القارئ وخلفيته وثقافته وتذوّقه دور في ذلك، وهي أمور تختلف بالطبع من فرد إلى آخر، أي من قارئ إلى آخر. لذا لنا أن نتوقع اختلاف القراءات واختلاف المعاني للنص الواحد.
( 3 )
في ذلك كله، تتجاوز نظرية إيزر طروحات نظرية الاستقبال حول ما يسمى بأفق التوقعات “التي تتحدد بتوقعات القارئ لحظة استقباله للعمل الأدبي، وهي التوقعات الثقافية والفنية والأخلاقية التي تتكون لدى القراء في ظروف تاريخية محددة، فإذا كان القارئ معايشاً لظروف العمل الأدبي، اقترب أفق التوقعات من هذا العمل”([15]). والتجاور يكمن تحديداً في أن نظرية التأثير لا تريد للقارئ أن يبتعد عن النص بكافة الأحوال، وهي تلغي تثبيت المعنى”([16])، كما أن نظرية أيرز تقول بدخول القارئ فاعلاً، وليس بأن لا يبتعد عن النص فقط، والفرق بين القولين دقيق ومهم، وهذا إنما يتم عن طريق ملء ما يسمى بالفراغات أو الفجوات. “وفي نظرية إيزر يسيطر النص الأدبي جزئيا، بوصفه نتاجا لأفعال الكاتب القصدية، على استجابات القارئ، ولكنه يحتوى دائما على عدد من (الفجوات) أو (العناصر غير المحددة)، ويجب على القارئ أن يملأ هذه ذاتيا بطريق المشاركة الخلاقة مع ما هو معطى في النص الذي أمامه”([17])، وبما يعني أن العمل الأدبي إذ يعتمد، في تحقّقه، على النص والقارئ، فإن معناه لا بد أن يتعدد بتعدد القراء، أو بالأحرى بتعدد القراءات، وبما يعني حتى قراءات القارئ الواحد.
أما نظرية التلقي التي طرحها هانس روبرت ياوس، “فإنها تركز على تلقّي النص الأدبي، إلا أن اهتمامها ينصب لا على استجابة قارئ فرد في وقت معين، ولكن على الاستجابات المقيِّمة، للجمهور القارئ عامة للنص أو النصوص نفسها على امتداد زمنه. ويطرح ياوس الرأي بأن النص لا يملك (معنىً موضوعياً)، ولكنه يحتوى فقط على بعض الخصائص التي يمكن وصفها بصورة موضوعية. واستجابة القارئ… هي النتاج المشترك لـ(أفقه) هو الخاص من التوقعات اللغوية والجمالية”([18]). ولما كان هذا الأفق خاصًّا بقارئ مـا، على حد تعبيره، فقد كان من الطبيعي أن تتعدد معاني العمل بتعدد القرّاء اعتماداً علـى تعدد آفاق توقعاتهم، ولكن، وفي رأي ياوس، (فإن من الخطأ أيضاً القول بأن العمل كلـيّ شامل، وأن معناه ثابت أبدا) ومنفتح على كل القراء وفي أي حقبة. ويعني هذا بالطبع أننـا لن نستطيع تتبّع الآفاق المتلاحقة التي قر بها العمل منذ زمن ظهوره حتى الوقـت الحاضر، وبالتالي فلن نستطيع استخلاص قيمة العمل الأخيرة، أو معناه النهائي، لأن ذلك يعنـي تجاهل وضعنا التاريخي الخاص”([19]). وتبعا لذلك فإن معنى العمل وقيمته تبقيان، مـن جهة، موجودتين عند قراء حقبة تاريخية بعينها، وتبقيان، من جهة أخرى، في طور الكشف عنها على يد قرّاء حقبة أو حقب تاريخية أخرى، ذلك أن “كل نوع مختلف من الجمهور أو القرّاء يفرض إستراتيجية مختلفة من التأويل، وهذا بأي حال يُلمّح إلى أن معنى النص يختلف من عصر إلى عصر، أو إلى أن أي شخص يكون قد فعل كل ما يقتضي فهم ذلك المعنى، يفهم معنى مختلفاً عن سابقيه أو عن عصر سابق”([20]).
نفهم مما سبق أن أفق التوقع يتكون من الآتي: أولاً، كل ما في ذهن الإنسان القارئ من ماضٍ وتراث وتجارب الآخرين؛ ثانياً، النصوص السابقة؛ ثالثا، النص ذاته، خصوصاً حين نبدأ فيه بالعنوان وما يوحي به، والبداية؛ رابعاً، التراكمات الشخصية أو الذاتية للقارئ؛ خامساً، القراءات السابقة للقراء السابقين؛ سادساً، الخبرة السابقة أو القديمة للقارئ؛ سابعاً، الوضع النفسي أو الوجداني أو العاطفي للقارئ، قُبيْل القراءة وأثناءها وبعدها مباشرة. ولعلنا نجد في بعض ذلك كثيرَ ارتباط بما يراه غادامير، وتحديداً ما له علاقة بتاريخ العمل وتاريخ الأدب، ذلك “إن عملية القراءة، حسب غادامير، هي نوع من تجسير الفجوة بين الماضي والحاضر”ونحن إذ نمارس فعل القراءة في الحاضر لا نستطيع التخلص من الأفكار الجاهزة والتحيزات المستقرة في ثقافتنا. ولكننا مع ذلك نستطيع في هذا الأفق المحدود تاريخياً أن نتوصل إلى بعض الفهم الذي يمكننا من إلقاء بعض الضوء على النصوص القديمة. وفي أثناء عملية الفهم هذه قد يحصل نوع من الاندماج بين”أفق توقعاتنا”وآفاق كتابة الماضي وقراءته”([21]).
( 4 )
نعتقد أن الانتقال من ياوس، ومن قبله كبير منظري استجابة القارئ إيزر، إلى آخرين، مثل غادامير وفيش وهيرش، لن يضيف الكثير إلى ما يفيدنا في موضوعنا. ولكننا نشير إلى أنه حين يشدد ياوس على ضرورة مراعاة مقاصد ثلاثة في النص، كما توضحه النقاط السابقة، وهي: مقصد الكاتب، ومقصد النص، ومقصد المؤوِّل أو القارئ، فإنه يذهب إلى أبعد مما يذهب إليه هيرش الذي يقول: “لا يهمنا المعنى الذي قصده المؤلف، وإنما الذي يعنينا فحسب هو المعنى الذي يعبر عنه النص”([22]).
وهكذا بتأمل النص وما يعنيه، وفي ضوء مقولات القراءة والاستجابة والتلقي نجد أن لكل نص بعداً فردياً وبعداً اجتماعياً، ولعل لهما كليا أو جزئيا علاقة بما رأيناها ثنائيات في النص: الاستقلالية واللاستقلالية، والمؤلف والنص، والنـص والقارئ، والذاتية والموضوعية. وتعلقاً بذلك “تتكوكب العلاقة بين الفردي والجماعي، وبين الذاتي والكوني، وبين المتخيل والواقعي المادي، بين المستويات على اختلافها، وبين ما هو في هذه المستويات حركة صراعية تنمو مع الزمن”([23]). وعموماً تدخل كل هذه في توجيه القراءة من جهة، وفي منح القارئ سلطة الفعل في النص من جهة ثانية. ولكن كيف يكون للبعد الفردي أو الذاتي والبعد الاجتماعي أو الموضوعي تحديداً دورهما أو أدوارهما في تحقيق النص وصنع معناه مما قد يكون الوجه الآخر للتأويل؟ نعتقد أنْ ينطوي النص على البعد الاجتماعي يعني ضمناً، وبدرجة أو بأخرى، حضور القارئ فيه حتى قبل القراءة، إذا ما اتفقنا على أن القارئ بشكل أو بآخر- وأحيانا حتى حين يختلف زمنا التأليف والقراءة- هو جزء من ذلك البعد، خاصة حين يتصوّره المؤلف قبل الكتابة وأثناءها. أما البعد الفردي فهو ما يفرضه المؤلف على القارئ، وعبره على القراءة من خلال النص أثناء الكتابة. ولعل هذا، إضافة إلى رؤية النص على أنه وجود مستقل، قد قاد النقد النصي إلى التأكيد على ما في النص وليس على ما هو خارجه، وعلى ما يوحي به النص والذي قد يبدو خارجه مما يمارس تأثيره في تأويلة. ولا نظن أن هذا يتناقص مع رأي إيزر- كما قد يبدو في الظاهر- إن لم نقل إنه في الواقع يلتقي معه، حين “يبيّن أن فعل القراءة لا يستطيع أن يقاوم عنصرين رئيسن هما، وإن كانا موجودين في النص، فإن استخلاصهما يتم على نحو أو آخر وفقاً لأيدلوجية القارئ، أو على الأقل تبعا لوجهة نظره، أعني [وفقاً] للخلفية الاجتماعية ولبناء النص، [ويستدرك قائلا:] ولا أعني بذلك أن القارئ يأتي بشيء من الخارج ليضعه في النص .. ولكني أعني أن القارئ لا يستطيع على كل حال أن يقاوم انغماسة، بطريقة أو بأخرى، في اكتشاف الواقع”([24]). وهو ما يتم في أي حال من الأحوال من خلال العلاقة بينه وبن النص.
**
المبحث الثاني
فؤاد التكرلي
( 1 )
لقد مثل التكرلي أحد أقطاب القصة القصيرة في العراق وريادتها وتحولاتها الفنية على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، إلى جانب عبد الملك نوري في الخمسينيات، وعبد الرحمن مجيد الربيعي في الستينيات، ومحمد خضير وجليل القيسي ما بعد الستينيات. وإذا ما اكتسب الكاتب، عن استحقاق، هذه المكانة، فإن مكانته في واقع الرواية العراقية وكل تاريخها لا تقل عن هذا إلا في كونها جاءت متأخرة زمنياً مقارنةً بها في القصة القصيرة. فهو بالتأكيد احد أقطاب هذه الرواية إلى جانب محمود أحمد السيد في مرحلة التأسيس التأريخي بين الحربين العالميتين، وشاكر جابر في مرحلة محاولات التجاوز والتأسيس الفني بين الحرب العالمية الثانية وبداية الستينييات ولاسيما النصف الثاني من الخمسينيات، ، وغائب طعمة فرمان وعبد الرزاق المطلبي في مرحلة التأسيس الفني في الستينيات والسبعينيات وعبد الرحمن مجيد الربيعي وجبرا إبراهيم جبرا في مرحلة النضج واستتباب المسيرة، وعبد الخالق الركابي ومهدي عيسى الصقر وعالية ممدوح وميسلون هادي وعلي بدر في المرحلة الأخيرة، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين([25]).
ما أردناه من هذه المقدمة ليس فقط أن ندل على موقع التكرلي، عبر إسهاماته الفنية، في مسيرة القصة القصيرة والرواية العراقيتين، بل على ثنائية اهتمام الكاتب شبه المتساوي، وبالضرورة المتشابك والمتداخل، بالقصة القصيرة والرواية. وتعلّقاً بما سميناه الاشتباك والتداخل فإنهما أكثر ما يتمثلان في أول عمل قصصي، ولا نقول روائي، طويل نشره الكاتب، ولا نقول كتبه نعني “الوجه الآخر”([26]). فإذا ما انتمى هذا العمل إلى القصة القصيرة بما تَمثّلَه من مقوماتها، ولم يخرج عنها إلا بالحدود التي يسمح بها التجنيس ولم يخترق الرواية بما يكفيه للانتماء الجنسوي إليها، فإننا نجده، في آخر عمل نعني “اللاسؤال واللاجواب”([27]) الذي هو بين أيدينا، أكثر انتماءً إلى الرواية، ولكن دون الخروج نهائياً من القصة القصيرة. فهو بعد نشره مجموعته الأولى “الوجه الآخر” التي ضمّت، إضافة إلى قصة “الوجه ألاخر” الطويلة، بعض أهم قصصه القصيرة التي تسيّد بها القصة القصيرة العراقية، بعشرين سنة نشر روايته الضخمة “الرجع البعيد” التي تسيد بها الرواية العراقية. لكن هذا لا يعني خروج الكاتب من هذا التأرجح بين القصة والرواية، بل هو واصل هذه المسيرة وكما تمثلت في أعماله التالية لـ”الرجع البعيد”، بدءاً برواية “خاتم الرمل” القصيرة، ومروراً بالطبعة الثانية لمجموعة “الوجه الآخر” التي ضم إليها بضع قصص منشورة في الدوريات وأخرى غير منشورة، وروايتَي “المسرات والأوجاع” و”بصقة في وجه الحياة”، وانتهاءً بخاتمة المسيرة، رواية “اللاسؤال واللاجواب” القصيرة التي بين أيدينا.
( 2 )
أول ملمح في هذه الرواية، قد يكون متجسّداً فنراه، أو غير متجسد بشكل مباشر فنحسّه حتى قبل وضع اليد على تفاصيله، هو ما نعرفه في أعمال فؤاد التكرلي جميعاً، نعني ما سماه بعض نقاده من قبل، مثل عبد الإله أحمد ومحسن الموسوي ونجم عبدالله كاظم وغيرهم، بالهمّ الفني. فإضافة إلى ما تحسه أو تراه واضحاً من دقة اختيار الكلمة وصياغة الجملة وحِرفيّة تسيير الحدث أو الأحداث، لعل أكثر ما يتمثل هذا الهم، أو لنقل نتيجته الفنية هو أن “اللاسؤال واللاجواب”، وكما في كل عمل للكاتب، يقوم على نظام دقيق سواء أكان هذا مرسوماً مسبقاً أم خلال عملية الخلق الفني والكتابة والإنجاز. وهذا النظام يستهدف تقديم شيء، فكرةٍ أو موضوعٍ أو سؤال أو إحساسٍ بهمٍّ ما أو لنقل حتى رسالة، وكل هذا لا يكتمل ولا يصل إلا بانتهاء الرواية، ولهذا تأتي أهمية بل ضرورة النظام الذي يقيم الكاتب روايته عليه، لأنه من خلال دقة بنائه يقودنا هو فقط إلى هذا، خصوصاً أن الرواية، ومرة أخرى كما في أعمال عديدة للكاتب، رواية “الوجه الآخر” القصيرة ورواية “خاتم الرمل” ورواية “بصقة في وجه الحياة” القصيرة، تنطوي على ما قد يصعب فهمه بسهولة لأنه لا يُقدم بشكل مباشر، وفوق ذلك هو ليس موضوعاً أو فكرة أو أحداثاً وسلوكيات عادية أو مألوفة، حتى وإن بدتْ لنا، في الحياة، عادية بسبب وجودها الدائم فينا أو في من نلتقيهم أو نعيش بينهم، أو صغيرة وعادية، أو غير ذات أهمية. في هذا يرى الفيلسوف النمساوي/ البريطاني لودويج ودجينستين أن الجوانب أو الأشياء أو مظاهرها الأكثر أهمية لنا مخفية، بسبب بساطتها ومألوفيتها. “فالإنسان لا يستطيع أن يلحظ أشياء معينة لأنها دوماً أمام أعيننا”([28])، وهو ما نعتقد أن كبار الأدب والفن، من قاصين وروائيين وشعراء وتشكيليين وغيرهم، يلتفتون إليه ويلتقطونه، كما فعل تشيخوف وجويس وفرانز كافكا وإرنست همنغوي ورسول حمزاتوف ونزار قباني ويوسف إدريس وفؤاد التكرلي وغيرهم.
ضمن ذلك يُعنى التكرلي عادةً بحالات إنسانية أو وجودية لا تشكل في الكثير من الأحيان ظواهر مهيمنة في مجتمع الرواية، ولا على أرض الواقع، بقدر ما ترتبط بأفراد. بعبارة أخرى هي ظواهر وحالات فردية، وكثيراً ما تكون غير عادية إن لم تكن مَرَضية، أكثر منها ظواهر اجتماعية، لترتبط بالتالي، في الكثير من أعماله، بشخصيات غير طبيعية تماماً أو مريضة، أو على الأقل تمر بأزمات نفسية أو وجودية. ومن هنا يقوم هذا الذي يقدمه أو يريد أن يقدمه، أو على الأقل التعبير عنه، على الإنسان الفرد الذي كان دائماً مركز اهتمامات التكرلي، الذي يكون بالضرورة بطل العمل، وذلك كله من خلال قضية تبدو هي الأخرى عادةً غير طبيعية، أو على الأقل غير عادية. وهنا من الجميل بل المذهل أننا جميعاً عادة ما نحس ما يشبه الرجع لذلك الذي نراه في البطل، في دواخلنا، مهما بدت الحالة أو الأزمة أو القضية التي ينشغل بها هذا البطل بعيدة عنا، بما يعني أنها بالضرورة تمسنا بوصفنا أناساً أو بشراً. وهنا تزول فردية القضية التي تقدمها الرواية أو القصة كما شخصناها ابتداءً وبشكل مذهل وبحرفية غير عادية من المؤلف. ولعل هذا، إضافة إلى الأبعاد الجمالية والأسلوب الآخذ بنا، هو وراء أن نجد أنفسنا مشدودين للعمل كما إلى بطله الإنسان الفرد، وليس مهماً بعد ذلك أن يمثل هذا الفرد المتخيّل الناس أو مجموعة كبيرة منهم، كما يحصل عادة في الأعمال القصصية والروائية، أو حتى فرداً نعرفه أو لا نعرفه على أرض الواقع.
( 3 )
واضح أن هذا كله يرتبط بالفرد، أي فرد، بدواخله وأحاسيسه وتجاربه الحياتية شبه اليومية و(وجوديته)، وبدرجة أو بأخرى بحالته النفسية، في ثباتها النسبي المتعلق بطبيعة كل فرد وفي متغيراتها بفعل الحياة وما يتعرض له فيها. ولهذا فقد كان الوضع النفسي لبطل رواية “اللاسؤال واللاجواب”، كما هو بظننا لأبطال معظم أعمال التكرلي([29])، العنصر الرئيس الذي يضع الرواية ضمن أعماله، كما سنرى. إذ تقوم هذه الشخصيات على ما يمكن أن نصنفه بأنه حيرة الإنسان الأزلية، التي أشرنا إليها ضمناً، ولكنها متنوعة الأسباب والأشكال بتنوع الأبطال والشخصيات ذاتها. والمفارقة عندنا هنا أن أكثر ما يمنح شخصيات التكرلي، وفي هذه الجوانب تحديداً، خصوصية هو أنه يرصد ربما بعض ما هو أكثر خصائص كينونة الإنسان الذي هو مصدر هذه الشخصيات بالطبع شيوعاً، ومع هذا لا ينتبه منّا إلى تمظهراتها إلا ذوو الحس غير العادي من الكتّات كالتكرلي، نعني حيرة هذا الإنسان وغموضه. وعليه، وانتقالاً إلى نموذجنا التحليلي هنا، رواية “الاسؤال واللاجواب”، لا نظن أننا نكون بعيدين عن الدقة، على الأقل من وجهة نظر الاستقراء الذي يستبطن ما يراه أكثر مما يتلقى ظواهره، مما نزعم أو نحاول أن نمارسه، إذا ما قلنا إن ما يبدو من غموض في ما يحدث في الرواية ولبطلها، كما سنرى، وكما هو في الكثير من أعمال التكرلي الأخرى أو غرابته، إنما يأتي من غموض الإنسان وكينونته والوجود. ولهذا لم يكن غريباً أن تهتم العلوم الطبيعية ويهتم علم النفس والأهم من هذا كله، وإزاء هذا الغموض تحديداً، تهتم الفلسفة، منذ بداياتها ولحد الآن، بالإنسان والوجود والكون، في محاولة للإجابة التي يثيرها هذا الثالوث أو أحد مكوناته، ولعل أوضح وأكثر الفلسفات التي تمثّلت هذا هي الفلسفة الوجودية التي تسعى إلى فهم الإنسان ودراسته، وهي الفلسفة التي كانت أحد أكثر المؤثرات في فكر التكرلي وفنه ورؤيته الإنسان والوجود والحياة، بمعزل عن طبيعة إجاباته أو محاولات الإجابة عليها، خصوصاً أنه كان من الطبيعي أن يهتم الإبداع الفني، أو على الأقل عند مبدعين بعينهم، بهذا ، كما فعل كتّاب آخرون مثل فؤاد التكرلي في جل أعماله، إن لم تكن جميعها.
**
المبحث الثالث
اللاسؤال واللاجواب
( 1 )
انتقالاً إلى رواية “اللاسؤال واللاجواب”، يقودنا هذا كله إلى الانتباه إلى أمر قد نغفل عنه، ونحن نحس وكأننا أمام شكل جديد وموضوع جديد ومعالجة جديدة، وما هو كذلك تماماً، مع أن هذا الإحساس تعلّقاً بها لا يخلو من الصحة. هي مفارقة إذن. نعم ولكنها ليست تناقضاً. فإذا لم يرد مثل هذا الحدث الغريب أو الحالة غير العادية لبطل الرواية (عبد الستار)، وما يحدث له، والتقنيات التي تعامل التكرلي معها، في أعماله السابقة، فإن جوهرها غير المفصح عن نفسه على السطح، وما تقود إليه، وتنويعات تقنية متقاطعة مع تقنيات الرواية، كل ذلك موجود في تلك الأعمال السابقة جميعاً: الوجه الآخر، والرجع البعيد، وخاتم الرمل. والتكرلي هنا يجسد المسار الفني الصحي الذي يتمثل في تجربة كل كاتب متمرس، حين تراه متطوراً ومنوعاً دائماً، ولكنه يحافظ على الجوهر المتكرر في كل أعماله أو غالبيتها. فهو، من جهة، لا يتمترس أو يتجمد في الإنجاز أو التجديد أو الريادة المتحققة في تجربة أو عمل بعينه وهو يكتب أعمالاً تالية لـيحرم تجربته من التطور والاستفادة من تجارب أخرى، كما لا يغريه، من جهة ثانية، ما يحققه ذلك الإنجاز أو التجديد أو الريادة للانتقال إلى تجربة أو تجريب أو تجديد كلي آخر في كل ما يكتبه. ولهذا يجب أن لا توهمنا (كابوسية) الرواية التي بين أيدينا، بحدثها أو أحداثها غير المفسّرة آنياً، وقصدية المؤلف الواضحة في قيادة مسارها مغلّفاً بالغموض، أو بطلها، لتقترب أحياناً من قصص الرعب، مما قد يبدو جديداً في تجربة التكرلي، بأنها بعيدة في ذلك كله عن تجربته هذه. فمن الغموض ما رأيناه بدرجة ما في “الوجه الآخر”، ومن الكابوسية ما رأيناها بدرجة معينة في “خاتم الرمل”، ومن الرعب ما رأيناه بدرجة معينة في “الرجع البعيد”.. ولكن كل ذلك الغموض والرعب والكابوسية هو غير هذا الذي نراه في “اللاسؤال والاجواب”، وبما يعني أن الكاتب قد جمع فيها ما بين الجوهر المتكرر في مسيرة تجربته عموماً والجديد والتجديد في عمله الحالي. وحين يفعل الكاتب مثل هذا فإن المعطى في العمل الجديد سيكون، إضافة إلى ما ستلتقي فيه مع الأعمال السابقة، ما تختلف فيه عنها. ولعل أول معالم مثل هذا الإنجاز التي نحسها من الصفحات الأولى لـ”اللاسؤال واللاجواب” ولا تختفي منها حتى النهاية هو أن عنصر الشد الذي يوفّره الأسلوب الأخاذ في كل أعمال الكاتب، يعززه في العمل الحالي الشد القائم على غموض الحدث والحالة التي تعنى بها الرواية، ومسارها الذي يأبى أن يفسر نفسه لنا قبل أن تتوفّر مقومات عديدة في مسيرتها. وهو ما لا نريد أن نتوقف عنده تحديداً هنا، لأنه كما كان معطى ضمنياً في الرواية سيكون، كما نأمل، معطى ضمنياً عبر فقرات دراستنا التالية.
يحرص التكرلي دائماً على اختيار الزمن الملائم لأحداث قصصه ورواياته وأفكارها، وهو دائماً ذو أصل حقيقي يعبر عن القضية أو الفكرة وتعبر عنه القضية أو الفكرة، كما يحرص على اختيار الزمن السردي الذي يساعده في التعبير عن فلسته وأفكاره الخاصة وتحقيق تأثيرهما. فلأنه يقدم، كما قدمنا، ما هو غير اعتيادي للوصول إلى التعبير عما هو غير اعتيادي أو غير مستهلك من المواقف والأفكار، فقد كان غالباً ما يختار مراحل التأزم غير العادية التي مر ويمر بها العراق، الذي تشكل بيئته بالطبع بيئة قصصه وروايته، كما فعل حين اختار أيام الصراع الدامي والموت عام 1963 لروايته “الرجع البعيد”، وفي أحسن الأحوال كان يعمل على أن يصعّد من توتّرات المرحلة أو الفترة التي يختارها، حين لا تكون هي تماماً من هكذا فترات ومراحل تأزم، ليستل منها في النتيجة ما تلائمه، كما فعل مثلاً مع روايته القصيرة “الوجه الآخر” وتحديداً لبطلهه (محمد جعفر). ولعل القليل فقط من أعماله ما يخرج عن هذا، كما هو حال “خاتم الرمل” التي عامت على الزمن والظروف والمراحل التاريخية للمجتمع العراقي أو البغدادي، ربما لأنه عُني فيها بقضية وجودية مطلقة أكثر منها اجتماعية أو نفسيه. مع هذا هو لا يبتعد كلّياً، حتى هنا، عما يمكن أن نسميه من زمن المآسي العراقية. أما أجواء الرواية الحالية وبيئة أحداثها التي هي كما قلنا- بيئة عراق التسعينيات وتحديداً العام 1994- حيث الحصار والجوع والمعاناة الإنسانية الشاملة، وحين صار الإنسان العراقي مستعداً لممارسة أي سلوك، وعمل أي عمل، وفعل أي شيء ليتجاوز، وإن بشكل محدود، ضغوط الحصار وتبعاته من جوع ومعاناة وعذاب وتمزق عائلي واجتماعي.
ومن أجل احتواء تبعات هذه الفترة إنسانياً وفكرياً ونفسياً من جهة، وتلاؤماً مع الهم الفني، الذي تكلمنا عنه سابقاً، والذي يتساوق عند التكرلي مع خصوصية الموضوعات والأفكار التي ينشغل بها من جهة أخرى، عمد المؤلف إلى إقامة نظام بنائي خاص نعتقد أنه نجح في استيعاب كل ذلك. فقد زاوج بين الرواية بضمير المتكلم والرواية بضمير الغائب ليصل في ذلك إلى استيعاب الحالة الداخلية لشخصية البطل وتأزمه غير العادي وهو يضعنا، من جهة، في داخله تماماً، ومن جهة أخرى في المحيط الخارجي الذي يتجنب، بوضعنا فيه، أن تبدو حالة البطل حالة نفسية بحتة منفصلة عما حولها، وكما بدت من قبل جزئياً على الأقل حالة بطل “خاتم الرمل” مثلاً، وهو ما لم يكن الكاتب ليجازف في أن يكون فيقضي على قضيته التي نعتقد أنه أراد أن يعبر عنها من خلال الرواية هذه المرة. وهذا النظام قاد بالضرورة إلى تقنية ملائمة تماماً، وهي التنقل بين الواقع المعيش للشخصية والواقع الآخر الذي لا ندرك هويته إلا تدريجياً حتى ونحن نعرف أنه لا ينفصل كثيراً عن الأول، وفي بعض مراحل الرواية بين حاضر الشخصية- زمن الأحداث- وماضيها الذي يدخل على الأول لا مكملاً بل مفسراً ومساعداً في فك بعض طلاسم الحالة التي تقدمها الرواية للبطل.
( 2 )
السياق العام المنظور والظاهري للرواية، هو أن بطلها (عبد الستار) معلم يعاني وعائلته من شظف العيش بسبب ظروف الحصار حد الجوع تقريباً الأمر الذي يضطره إلى العمل سائق تاكسي ليلاً. زوجته (زكية) هي ابنة عمته، ونعرف أنها كانت قد تزوجت من آخر لسبب ليس واضحاً تماماً، في ظل أنها كانت على علاقة أصلاً بـ(عبد الستار). المهم والذي هو برأينا عامل التحفيز motive الرئيس للرواية، إضافة إلى ظروف الحصار، هو زواج (عبد الستار) و(زكية) بعد أن يموت زوجها فجأة بالرغم من فقدها لجمالها ولمزايا جسدها المثير، وبالرغم من أن لها بنتاً في الخامسة (هيفاء) من زوجها الأول، فيُرزقان بابنة ثانية (كوثر). هنا يبدو لنا، مع تحفّظ في الحسم في رأينا، أن زواج بطل التكرلي من بطلته ولها طفلة في الخامسة وكأنه تهيئة لأحد أهم عوالم أو موضوعات الكاتب الأثيرة، بكل ما يتهيأ له فيها من وسائل وأدوات تعبير عن أكثر أفكاره قوةً وحساسية وموقفاً، وهو علاقات المحارم، بمعنى أن تنشأ فتاة في غير بيت أبيها، بوجود رجل، هو هنا زوج الأم. وتعلّقاً بموضوعات التكرلي وعوالمه وأبطاله هذه، نرى مع أن حالة البطل الغريبة هي مما لم نرها في أعماله السابقة، أن بعض أعراضها النفسية ونتائجها السلوكية والذهنية تضعنا في أجواء الكاتب التي نعرفها إلى حد كبير.
وإزاء خصوصية حالة بطل الرواية مقارنة بحالات أبطاله في الروايات الأخرى، سرعان ما تأتي المشتركات شأن التكرلي في هذا شأنه شأن أي كاتب مترسخة مسيرته وتوجهه ووعيه وربما مشروعه، واهم مشترك هنا هو الجنس الذي يتداخل في حالة البطل النفسية والوجودية. تقول له (زكية)، إزاء عدم تذكره لأي شيء:
“- هذا غريب. ألا تتذكر كيف أيقظتني من النوم وأنت.. وأنت بحالة هياج لم أعهدها منك قبلاً، وفي ظلمة الليل عملتها. صحيح ألا تتذكر؟ قتلتني بعنفك وشدة هياجك. ثم وقعت بجانبي هامداً، ونمت دون كلام، وكنت تلهث، لا أدري، كنت تلهث بشدة”- الرواية، ص13.
وإلى جانب هذه القوة الإنسانية الطبيعية/ اللاطبيعية، ولكنها الكاسرة والمدمرة في أوقات، وكما تعبر الكثير من كتابات التكرلي عنها، يأتي المسبب الآخر المحتمل متأخراً بعض الشيء:
“نظرت إليّ نظرات دهشة واستغراب، ثم أخفضت، بعد لحظات، رأسها ونظرها عني وهمستْ:
“- ليس لدينا ما يكفي للأكل ثلاث وجبات، ألا تعلم ذلك؟ راتبك وعملك في الليل وعملي في الخياطة وكل الأثاث الذي يعناه، لا يكاد يسدّ رمقنا. ألا تعلم؟
“لمعتْ في ذهني هنيهة، صورة المخشلات والخواتم؛ ثم تملكني شعور بالعطف الشديد على هذه المخلوقة البائسة.. زوجتي. أشرتُ لها أن تقترب مني، فتحركت على استحياء، وصعدتْ إلى السرير مندسة بجانبي تحت الغطاء المسيك. لم تهمني رائحة الطعام المنبعثة منها، واحتضنتها ثم قبلتها في فمها. أحاطتني بذراعيها وشدّتني بقوّة إلى جسدها. ارتجفتْ رغبة فيها، ولما أردتُ نزع ثيابها منعني الألم من كفّي، فهوّنتْ عليّ الأمر مبتسمة، وبدأتْ بالتعري وبنزع الثياب عني. كنت خارج حدود الشكوك والاتهامات، غارقاً في شهوة عارمة، أبعدتني عن عالم البؤس والحصار الذي كان يحيط بنا”([30]).
شئنا أم أبينا نؤخذ، ونحن نقرأ الرواية، إلى الواقع وهو، كما قلنا، واقع عراق التسعينيات، نجد أنفسنا نرصد ما قد يكون مأخذاً على التكرلي في روايته، وتحديداً في أن هناك مبالغة في موضوع الجوع بسبب الحصار حد عدم الحصول حتى على الخبز والنوم بدون عشاء.. إلخ، مع وجود أصل ذلك نعني العوز وضعف التغذية. فما دام هو غير مقتصر على عمله معلّماً بل يعمل سائقاً ليلاً، فإذن لم يكن لمن هو مثله في واقع مرحلة الحصار، أن يصل وضعه وعائلته إلى هذه الحدود، بل كان يستطيع الحصول على الأشياء الضرورية من خبز وما أشبه وإنْ بشكل محدود يومياً. لكن المؤلف يبدو وكأنه لم يكن على بينة دقيقة بهذه الأشياء أيام الحصار لأنه قضى معظمه خارج العراق، ولم يعرف أن شخصاً مثل (عبد الستار) بدخله، مهما كان قليلاً، كان يستطيع أن تفادى الوصول إلى الحالة المعاشية التي صوره عليها، فلا تنام العائلة، كما رأيناها في الرواية، بدون عشاء ولا تجد فطوراً في الصباح. لماذا توقفت هنا عند هذه النقطة التي قد يتجاوزها ناقد أو قارئ آخر؟ حسناً، لأقول ما كان هذا ليعني الكثير ما دام التكرلي يصنع مثل هذه البيئة والظروف للتواءم مع ما يريده لوضعه النفسي أن يكون.
( 3 )
تبدأ ترجمة هذا كله، وفي الصفحة الأولى من الرواية، بحدث غريب ربما يلمّح إلى حالة مَرضية يمر بها البطل ويتمثل في استيقاظ (عبد الستار) من النوم، ليجد نفسه مقرفصاً على الأرض ولكنه لا يستطيع النهوض:
الأحد- كانون الأول 1994،
استيقظ من نومه فجراً. أيقظته قشعريرة هزّت جسده كله. كان مغموراً بظلمة ثقيلة انهدت عليه فكادت تكتم أنفاسه؛ وكان يحس بنفسه منكمشاً في زاوية من غرفة نومهم، مفترشاً الأرض الباردة، يرتجف بشدة وهو يعقد ذراعيه على صدره ويطوي ساقيه إلى جسده. لم يغمر النور الحليبي المنصبّ من النافذة، إلا مساحة صغيرة من الغرفة. لم يدرك ما كان يحصل له ومَن رماه هكذا من فراشه على الأرض الثلجية… نادى مرة ثانية: “زكية، أنتِ يا زكية”، فرفعت رأسها المضطرب الشعر، ونظرت إلى الجهة التي كان فيها. لم تره أول الأمر. “ماذا؟ مَن هناك؟” “أنا عبد الستار، تعالي ساعديني، لا أدري ما حصل لي”- الرواية، ص5.
هل في هذا شيء من كافكا، ولاسيما في (القضية)؟ ربما ولكن بدرجة معينة. ولكن سواء أكان هذا صحيحاً أم لا، فإن هذا لا يغير من وضوح أن المشهد أو الحالة غريية أو غير طبيعية بل ربما شاذة، كما يعيها بطلها نفسه حين يعود إلى وعيه:
الأحد:
لا يمر كل شيء في الحياة المعيشة هذه، مروراً عابراً. هناك، على مدى السنين، حالات ومواقف تصهر نفس الإنسان وتختمها بختم لا يُمحى. فجر اليوم، انحفرت في ذهني حالة من الحالات؛ حالة غريبة وشاذة ولا تفسير لها.
استيقظت، قبيل طلوع النهار، لأحد نفسي متكوّماً كالفأر على أرض الغرفة، ارتجف برداً ورعباً.
ماذا يُعمل بي؟ ولماذا؟ ومن هذا الذي انتزعني من نومة الفجر العميقة، من دفء الفراش اللذيذ، ليرمي بي هكذا على التراب.- ص6
ثم ينكشف لنا أنه كان قد أتى إلى البيت بعد الانتهاء من عمله في سياقة تاكسي ليلاً بعد أن يكون قد أنهى عمله نهاراً معلماً، ثم مارس الجنس مع زوجته بعنف غير عادي وربما غريب وغير طبيعي، والأغرب أن (عبد الستار) نفسه لا يعرف سبباً له. ثم يتذكر أنه قد مر بما يشبه الغيبوبة عن العالم، ثم تلا ذلك صعوده إلى غرفة مكتبة أبيه في الطابق العلوي من البيت.
وإذا ما كان كل هذا غريباً، فإن الكاتب كان، أولاً، ولأمرٍ ما، قد غلّفه بالفعل الجنسي. وتعلقاً بالجنس في هذه الرواية، فإنه وعلى ما اعتدناه في كتابات التكرلي، بما في ذلك حين يكون ضمن الجنس المحرّم وحين يكون ذا دلالة غير عادية تتحمل الكثير من أشكال الفهم والتأويل والاجتهاد، ويأتي، وبخلاف ما تعودناه من الكاتب هذه المرة، حيياً ليكون في الكثير من الأحيان خافتاً ظاهرياً وحدثاً، ولكنه يأبى إلا أن يبثّ إيحاءات غير عادية. ولكن، مع أنه يتسلل هنا وهناك بما يشبه الحياء، خصوصاً أن الرواية لا تقوم- ظاهرياً على الأقل- على ثيمة جنسية، فإنه ينطوي على قوة وإشارات وإيحاءات قوية وغير عادية تُحيلنا إلى مفهوم الجنس عند الكاتب وتوظيفه وما يريد منه. والتكرلي يعبّر عن رأيه ورؤيته للجنس، أو كما يريد له أن يكون في أعماله، فيقول: “إن الجنس، منذ البدء، كان رمزاً، أو– أن صح القول– أمراً يمثل قوة عمياء. وأمام هذه القوة تجد بعض شخصياتي القصصية أحياناً نفسها. وسواء أكان عليها التصرف أم كان عليها أن تهرب أم كان عليها أن تخرق القوانين الموضوعة، فإن تصرفها تجاه الجنس هو تصرف رمزي محض. وواضح جداً أن اختيار الجنس اللاشرعي أو اللا مألوف، إنما هو لزيادة شعور القارئ بالتناقض وبما يمثله هذا النشاط من قوة تسحق أحياناً دون رحمة”([31]).
وتعبيراً عن أن هذا الحدث لن يكون عابراً أو عارضاً، وتوافقاً مع البناء الذي أراده الكاتب، تستمر الرواية بهذا الشكل عبر فصولها، أي بتقديم حدث غريب أو حالة مرضية أو شبه مرضية تقع للبطل في الحاضر، حصار تسعينيات القرن الماضي، بدايةَ كل فصل، وتُقدَّم بحرف بولد أسود وبصيغة ضمير الغائب، وكأن صاحبها غير قادر على التعبير عنها ووصفها بحيادية أو بغيرها، وهو ما تبرره حالة هذا البطل المرضية التي تحول ما بينه وبين الوعي بحالته وتقديمها وتقديم نفسه وهو فيها. ولكن، وكأننا غير معنيين بالوصف الخارجي لها والتعمق في خباياها، يكون عرضها دائماً قصيراً (صفحة أو نحوها)، ليتلوها سرد بضمير المتكلم يقدم البطل من خلاله جزءاً من حياته حاضراً وماضياً أيام السبعينيات والثمانينيات. ولنا أن نعرف، من البداية، أن هذا السرد المتشظي أو المقطّع وفق الفصول بقصدية سيقود تدريجياً ومن خلال تكملة كل تال لسابق، لا إلى تفسير قاطع- لأن مثل هذا سيكون قاتلاً فنياً- بل إلى الإيحاء بما قد يقود إلى احتمالات تفسير الحالة التي تقدمها مقدمة كل فصل القصيرة. وكل ذلك يتساوق مع مرور البطل بهذه الحالات الغريبة التي لا المؤلف يفصح عنها، ولا البطل يعرفها، ولا نحن نستطيع فك شفرتها لتشخيصها بشكل حاسم. ولأن هذه الحالة غريبة وغير عادية، فمن الطبيعي أن يكون مسببها أو بعض مسبباتها أموراً غير عادية. ولعل أول شيء محتمل أن يكون مسبباً أو أحد مسبباتها هو التجربة التي مرّ بها العراقيون على أرض الواقع، نعني تجربة الحصار القاسي وغير الإنساني، فيقدمه لنا البطل من خلال وقعه عليه وعليهم وما قادهم إليه، وكأنه يلمّح إلى أنه أحد جذور مشكلته لا الواقعية أو الإنسانية على أرض الواقع بالطبع، بل مشكلته الفردية التي بدأت بها الرواية:
“كنا منذ بداية السنة 1994، وقد وصلنا القاع في عوزنا المادي، مثلنا مثل الجميع، وكنا، قبل ذلك بحوال السنتين، قد بدأنا، بعد أن عجزنا عن الاستدانة، ببيع ما اعتبرناه، في وقته، زائداً عن الحاجة. ضحّت زكية أولاً بالقليل الذي تملكه من القطع الذهبية الصغيرة مُخفية، في أثناء ذلك، حزنها. وعدتها، دون إيمان، بشراء مخشلات لها أثمن وأغلى مما ضحت به. كانت تطيل النظر إليّ متذكرة ربما، مما جرى بيننا قبل أعوام وكأنها تسألني… أتكفي هذه التضحية منها؟
“لم يكن زواجنا مثالياً ولا كانت ظروف هذا البلد مثالية؛ ولكن ذلك موضوع آخر ليس هذا وقت الخوض فيه. ما أريد أن استقصيه، ليس هو هذا الإحباط الذي يلازم كل عراقي هذ الأيام، ولا الانغلاق التام للآفاق أمام شعب بأكمله، ولا، بالأحرى، نوع المستقبل الأسود الذي ينتظرنا، بل هو المعنى المبهم الذي يدفعني دون إرادتي، أنا الإنسان الفرد، نحو مصير مجهول. إذ لا مظهر واضحاً دون سبب يتخفى في باطنه أو خلفه…
“المظهر المخيف [هذا] هو الذي رماني، هذا الفجر، على الأرض وأرجفني وزعزع كياني كله. إنه مظهر واضح وخفي في الوقت نفسه. ما المعنى إذن؟ ما الإشارة إذن؟ أين تكمن الحقيقة؟ ولماذا تكمن، إذا كانت هي الحقيقة؟ لِمَ لا تظهر؟ ولماذا؟- ص8-9.
لتتداعى بعد ذلك تفاصيل (واقع) البطل في ظل هذا الحصار مخترقة (حقائق غير معروفة أو مبهمة!!). ولأن ما فيه البطل من الفردية ما ينفي أن يكون الحصار مسبباً وحيداً لأزمة البطل الشاذ، سرعان ما تأتي أسباب أخرى أهمها:
“زرت، إذن، غرفة المكتبة هذه في وقت عصيب، بعد منتصف الليل، كما خُيّل إلي. لست متاكداً متى، أمس أم قبله أم بعده، ولكني أشعر بأني زرت المكتبة في زمن ما، كان لي وقتاً عصيباً، بعد منتصف الليل. ماذا كنت أروم من تلك الزيارة الليلية الغاضمة؟ لم يكن لدي أي جواب.
“كان أبي يصعد إلى تلك الغرفة حين كانت مهيأة للجلوس فيها براحة. كان يستكن إلى نفسه بعد.. ولكن بعد أي شيء؟ وهل أنا مثله؟ أأكون مثله؟” كان يعتدي على والدتي المخلوقة البالغة الضعف، دون سبب وبشكل لا يحتمل، وكانت تكتم صرخاتها وتتحمل ضرباته باكية بسكون. لم أفهم الأسباب. كنت في الرابعة عشرة من عمري… كنت أرتجف وأنا مختبئ في زاوية نائية من دارنا. كنت أرتجف خوفاً وخزياً، ولم أستطع التدخل.
“أتبقى هذه الذكرى في أعماقي، لتظهر على الشكل الذي عانيته فجر هذا اليوم؟ وما دخلي أنا في ذلك الموضوع؟… حسناً، ماذا كنت أريد، أنا البائس، أن أفعل وأنا أصعد، مثله، إلى غرفة المكتبة؟ لم أقم بأي عمل شنيع مما كان يفعله”- الرواية، ص9-10.
وإذ لا نعرف صراحةً لماذا يعود بنا وعي البطل، أو لا وعيه، إلى الماضي، فأنه يمكن تماماً أن يكون بحثاً عن الجواب على سؤال الحالة التي يمر بها، ولا ينفي هذا، إن لم يؤكده خصوصاً إن كان اللا وعي يشتغل، حين لا يجد البطل نفسه سبباً لـ(زوغانه) عن البحث عما يحدث له:
“كنت آنذاك قد وفرت من راتبي مبلغاً مهماً، كرسته لزواجي، ولكن عمة زكية ووالدتها أحبطتا خطتي للزواج. لم يكلم والدي شقيقته، عمتي، بعد تلك الزيجة وتوفي قبل أن يصالحها. كانت عمتي غبية وحمقاء، في الوقت نفسه.
“إلا أنني أزوغ عن طريقي، طريق البحث عما حدث ويحدث لي. أردتُ أن أبدأ بفكرة بسيطة.. لا يأتي المظهر الذي عشته من فراغ. أبداً، أبداً. ماذا إذن وراء المظهر العجيب الذي تلبسني فجر اليوم؟ هذا هو السؤال، وهذه هي فكرته؛ فهل يرتبط كل هذا بوالدي الذي توفي منذ سنوات؟ أم أني أربطه به قسراً واعتباطاً بسبب زيارتي اللامفهومة لغرفة المكتبة المهجورة؟ كنت، في الحقيقة جباناً في دخيلتي. هذا صحيح. شعرت وقتها بأن علي أن أدافع عن تلك المسكينة الضعيفة والدتي حتى لو أدى ذلك إلى هلاكي. ولكني كنت أخاف منه.. من بطشه بي وأنا ابن الرابعة عشرة. أيجب أن أُعاقب،بعد كل هذه الأعوام، لأني لم أتدخل؟”- الرواية، ص11.
وكل هذه إنْ هي إلا احتمالات: لكن الجواب شبه المؤكد إن كان ليأتي، فإنه يأتي في النهاية، وحتى في هذه الحالة ليس شرطاً أن يقنعنا.
( 4 )
ونعود إلى حالة البطل الغريبة التي تحدث له حين ينام، للنظر إليها هذه المرة، لا من داخل الرواية أو من داخل بطلها نفسه، بل من الخارج بما في ذلك من زاوية نظر ما عادت في النقد الذي نتبعه هنا مهملة أو يُتجاوز عليها، نعني المؤلف من جهة، وقراءتنا نحن وغيرنا له ولتجربته الإبداعية من جهة أخرى. إن حالة البطل هذه لا يمكن إلا أن تكون مقصودة بغرابتها لوجودها فاعلةً أصلاً، كما أشرنا وكما سنعود إلى هذا هنا، وهي مقصودة لأن المطلوب في الرواية وفي عموم كتابات التكرلي- ولا أبالغ إن قلت بدون استثناء- أن تفعل بالقارئ وللقارئ شيئاً ولا تتجاوزه دون أن تُدخله فيها. الحالة هي مثل كابوس حلمي، بحيث يأخذ البطل بالخوف من أن ينام، لتقترب الرواية بها أحياناً من قصص الرعب، ولكن دون الاستسلام لمتطلباتها تماماً التي قد تخلو من القضية، فتتجلى حِرفيّة التكرلي وعبقريته هنا حين يميل بروايته نحو هكذا نوع من الكتابة ولكن دون التضحية بالقضية التي، على العكس، تبقى تثيرنا بأسئلتها وأجوبتها التي أبداً لا يكون منها سؤال صريح، وعليه لا يكون فيها جواب صريح أو جواب أكيد منتظر، بل هي لا تجبرنا على البحث فيها عن جواب، لأننا بكل بساطة لن نحتاجه أو ربما لا يهمنا كثيراً، لتكون الرواية في النهاية، وكما كانت في البداية، اللاسؤال واللاجواب. ومن جميل فن تناول هذه الحالة، هي أن حيرة البطل إذ تبدو، من جهة، وكأنها حَلٌّ للغز حين يعثر (عبد الستار) بين كتبه كيساً مملوءاً بالحلي الذهبية، فإنها، من جهة أخرى، تزيده حيرة ولغزيةً حين تدخله في وساوس وشكوك أحياناً حتى بزوجته وابنتها. ثم تزداد أزمته، بل يظهر على السطح ما يبدو أنه الأزمة الحقيقية، لا تعلقاً بأزمة الإنسان التي يُعنى بها التكرلي، بل تعلقاً بمسار الرواية، فيخترق أسئلة الوجود وأقنيته ليكون عمله وجودياً- بالمعنى الدقيق أحياناً وبالمعنى العام أحياناً أخرى- من جهة، ولا ينسى من جهة أخرى أنك لا تقرأ فلسفة أو بحثاً بل رواية يجب أن تبقى فيه ضمن مسار قصصي صريح. فتبدأ أزمة الإنسان التي يُعنى بها هنا حين يُستدعى (أبو سلمان) صاحب السيارة، التي يعمل فيها (عبد الستار) سائقاً، إلى الشرطة للتحقيق بجريمة سرقةِ ذهبٍ وقتلٍ تلك الليلة التي تبدأ فيها الأزمة ويَدّعي القاتل الذي، وهو سكير، أن صاحب تلك السيارة قد ضربه وأخذ منه الذهب المسروق، ومع هذا تبدأ تتضح أسباب أزمة (عبد الستار). ولكن كيف حدث الذي حدث؟ هذا ما لا نعرفه تماماً، ببساطة لأنه ليس مهماً بقدر أهمية ما يثيره ذلك كله من أزمة إنسانية هي أعمق بكثير من هذا الذي يُحْدِثه حدثٌ مثل السرقة أو الضرب أو المشادة أو ما أشبه ذلك، باستثاء أن هذا يحدث في زمن الموت والحصار وخنق الإنسان العراقي في التسعينيات التي صار انهيار الفرد، اي فرد، في العراق ممكناً في ظل ضغوط العيش والعوز ومتطلبات العائلة وما إلى ذلك من احتياجات الإنسان. ومرة أخرى تبقى قارئاً تتابع الحبكة القائمة على مسار حياة البطل واشتباكها بتداخلات ما يحدث له حديثاً مما يثير كل شيء لتكون الرواية. ففي تلك الليلة يُقل راكباً- آخر راكب- فينتهى إيصاله بتلقيه ما يشبه الصدمة على رأسه، ثم ينقطع تطور الحدث، ويعود هو فيما بعد ويمارس الجنس مع زوجته، وكما في كل ليلة بعد ذلك، بعنف غير عادي، قبل أن ينام ليستيقظ صباحاً فيجد نفسه جالساً على الأرض ضاماً ذراعيه حول جسده وهو عاجز عن النهوض، وحالته النفسية غير طبيعية وغير مفهومة، مع عجز ذاكرته عن لملمة ما حدث أو معرفة ما حدث بالضبط، إضافة إلى صعوده- غير العادي- إلى غرفة مكتبة أبيه التي لم يبق فيها غير عدد قليل جداً من كتبها، بعد أن يكون هو قد باع معظمها بسبب الحاجة.
( 5 )
ربما تكون واحدة من أكثر عوامل نجاح التكرلي فنياً، إلى جانب خصوصية اختياره للموضوعات والشخصيات وتبنيه للرؤى ووجهات النظر والمعالجات الفكرية، هو اختيار ما يتساوق مع ذلك كله وما يلائمه من أدوات وأساليب وتقنيات فنية. وتعلقاً بهذا، هو في كتاباته يبدو وكأنه، باستخدام المناوبة ما بين الرواية بضمير الغائب والرواية بضمير المتكلم مثلاً، يريد- وليس بالضرورة يحقق- أن يقدم الحالة الغريبة منظوراً إليها من الخارج لتبقى غريبة، ثم عرضها بالأنا ليقدم تفسيراً لها، وإن بدرجة معينة. وحتى في هذا لا يعني عدم الفهم أو الغموض بالضرورة عدمَ فهمٍ أو غموضاً، كما أن التفسير ليس بالضرورة يكون مقنعاً، وهذا برأينا واحد من أكثر أسرار نجاحات أعمال التكرلي من حيث المعالجات وإبقاء الحيوية دائمة فيها لا تنتهي وأنت تقرأها ولا حتى بعد قراءتها ولا حين يقرأها غيرك. لكن المهم أن يكون هناك تساؤل، فالتساؤل أو إثارة الأسئلة أحد مقومات النص الإبداعي، وأن تكون هناك محاولات إجابات ليس شرطاً أن تكون من الكاتب نفسه، فالجواب أو محاولات الإجابة ليست أحد مقومات هذا النص، بل هي إحدى فاعليات القارئ.
بقي أن نقول تعلقاً بكل هذا: مهما كان المسار مسار أحداث، والقصة، سواء للتكرلي أو لغيره، قصةَ فكرةٍ أو أفكارٍ، ومهما كان التعبير تعبيراً عن موقف مثلاً، فإن ذلك كله لن يكون إلا من خلال محورها أو إطارها أو حامل فلسفتها والمعبر عنها في القصة الذي هو الشخصية، على الأقل عند كتّاب مثل التكرلي، الأمر الذي قد ينطبق عليه قول باختين عن ديستويفسكي: “إن عالم دوستويفسكي عالم شخصيات إلى حد بعيد. إنه يقوم بتناول وتصوير أي فكرة بوصفها تحسيداً لموقف شخصية ما”([32]). وإذا كانت الشخصية، ومرة أخرى سيراً وراء قول باختين، ولكن ليس رأيه بالأصل هذه المرة، لا تعني أن تكون كما يُعبر عنها لغةً ونقدياً ومصطلحاً غالباً، بل هي شيء أبعد من ذلك. يقول باختين: “والشخصية Personality حسب أسكولدوف غير الطبع المتميز Character، وغير النمط Type، وغير المزاج Temperament، التي تكون مادة للتصوير في الأدب. إن الشخصية تتميز بحريتها الداخلية الاستثنائية وبنزعتها الاستقلالية عن الوسط الخارجي”([33])، نقول إذا كانت هذ هي الشخصية، فإنها لا تتناقض عندنا عنها، عند التكرلي الذي لا يتسلل إليها لتكون القصدية التي أشرناها متمثلةً بما يريده لها أن تكون عليه تمشياً مع الواقع الذي ينطلق دائماً منه أولاً، ومع رؤيته الوجودية المطلقة للإنسان ثانياً، ولكن مع رميه لها ثالثاً في العالم الذي يخلقه لتنطلق ببعض حرية ربما يعنيها باختين ومن قبله أسكولدوف. وفي كل الأحوال البطل عنده، وكما براينا عند كتاب عراقيين آخرين مثل ميسلون هادي ومهدي عيسى الصقر، هو كما يراه باختين عند ديستويفسكي حين يقول:
“فالبطل يهم دوستويفسكي بوصفه وجهة نظر محددة عن العالم وعن نفسه هو بالذات، بوصفه موقفاً فكرياً، وتقويماً يتخذه إنسان تجاه نفسه بالذات وتجاه الواقع الذي يحيطه. بالنسبة لدستويفسكي لا من يكونه بطله في العالم، بل بالدرجة الأولى ما الذي يكونه العالم بالنسبة للبطل وما الذي يكونه هو بالنسبة لنفسه ذاتها… فإن ما يجب الكشف عنه أو وصفه واستخلاصه، لا الواقع الحياتي المحدد الخاص بالبطل، لا صورته القوية، بل المحصلة النهائية لوعيه بالعالم ووعيه بذاته، إنه في نهاية المطاف كلمة البطل الأخيرة حول نفسه بالذات وحول عالمه”([34]).
وإذا ما التقى التكرلي مع دستويفسكي في كون بطل الثاني حسب باختين “حاملاً للكلمة الكاملة القيمة، وليس مجرد عنصر صامت وأبكم من عناصر كلمة المؤلف، فإن خطة المؤلف حول البطل هي خطة حول الكلمة، ولهذا فإن كلمة المؤلف حول البطل هي الأخرى كلمة حول الكلمة”، فإنه يفترق عنه مرة ثانية في أن الكلمة “تسترشد بالبطل استرشادها بالكلمة ولهذا فإنها توجه إليه بطرقة حوارية. المؤلف يقص كل بنية روايته لا حول البطل بل مع البطل”([35]). هنا من المفيد أن نشير، تعلقاً بما يشكله البطل عند الكاتب، من مركزية في اهتمامه وفي التعبير عن وجهة نظره وفلسفته ورؤيته، إلى أنه قد تبتعد بعض أعماله لاسيما قصصه القصيرة ورواياته القصيرة، عن دستويفسكي لتنحسر بالتالي الحوارية، فتكون القصة أو الرواية القصيرة عنده قصة الصوت الواحد إلى حد كبير([36]).
**
الخاتمة
النتيجة التي نراها تتجسد لنا، في الختام، بعد التحليل القرائي لرواية فؤاد التكرلي القصيرة “اللاسؤال واللاجواب”، وملء الفراغات التي امتلأت بها ومثّلت مسكوتاً عنه يكاد يكون جوهرياً، أنها قدّمت حالة ذاتية خاصة، وإنسانية عامة، وقد تكون وجودية فكرية خاصة وعامة في الوقت نفسه، يمكن أن نتحسسها من زوايا مختلفة، وهي في كل الأحوال تعبّر عن شيء أو حالة يمكن لأي قارئ أن يحسّها إذا ما استطاع اختراق فراغات النص ووصل إلى المسكوت عنه. وهذا برأينا، وكما نأمل أن يكون التحليل قد وضّحه، يشكل ما أطلق عليه جبرا إبراهيم جبرا (الجوهر المتكرر) الذي تعبّر عنه مجموعة أعمال أي كاتب متميز، ويتجسد في أعمال التكرلي السابقة ويحضر في روايته التي بين أيدينا بقالب ومعالجة جديدتين يعكسه بطلها، الذي يذكرنا ببعض أبطال الكاتب السابقة ومنها، على سبيل المثال، بطل روايته القصيرة الأولى “بصقة في وجه الحياة” الذي ينتابه هاجس أو إحساس شاذ يتمثل في رغبة جنسية شاذة تجاه بناته، فيقول: “وأحسستُ إحساساً غامضاً أنني أُقاد معصوب العينين إلى هاوية سوداء لا أعرف لها قراراً”([37]). فهذا إلى حد كبير ما نحسه في بطل هذه الرواية التي تبقى لها، مع كل المشتركات بينها وبين أعمال الكاتب السابقة، خصوصيتها الواضحة.
المصادر
د. إبراهيم خليل: في النقد والنقد الألسني، دراسات نقدية، مختارات أردنية، عمّان، منشورات أمانة عمّان الكبرى، 2002.
باختين، م. ب: قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي، ترجمة د. جميل نصيف، مراجعة د. حياة شرارة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986.
د. جمال شحيد: في البنيوية التركيبية دراسة في منهج لوسيان غولدمان، دار ابن رشد، بيروت، 1982.
سعيد الغانمي: الكتابة المسمومة في أساطير إبراهيم الكوني، مجلة )سطور(، القاهرة.
سلدن، رامان: نقد استجابة القارئ نقاده ونظرياته، ترجمة سعيد الغانمي، مجلة (آفاق عربية)، بغداد، ع8، 1994.
د. عبد الإله أحمد: الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية اتجاهاته الفكرية وقيمه الفنية، منشورات وزارة الإعلام، بغداد، 1977.
فؤاد التكرلي: بصقة في وجه الحياة، منشورات الجمل، ألمانيا، 2000.
فؤاد التكرلي: اللاسؤال والاجواب، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، 2007.
نبيلة ابراهيم، القارئ في النص” نظرية التأثير والاتصال”، مجلة (فصول ) القاهرة، ع1، م5، 1984.
نجم عبدالله كاظم: أيقونات الوهم، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمّان.
د. نجم عبدالله كاظم: حوارات في الرواية، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان.
يمنى العيد: في معرفة النص، دار الآفاق الجديدة ودار الثقافة، بيروت والدار البيضاء، 1984.
Abrams, M. H: A Glossary of Literary Terms, USA, 1981.
Guerin, Wilfred L. and others: A Handbook of Approaches to literature, USA, 1979.
E. D. Hirsch, E. D: Validity in Interpretation, New Haven and , London, 1967.
Lundin, Anne: Constructing the Canon of Children’s Literature Beyond Library Walls and Ivory Towers, Rutledge, New York, 2004.
Susan Sontag, Susan: Against Interpretation, in David Lodge (Ed.): 20th Century Literary Criticism, London & New York, 1972.
Wittgenstein, Ludwig: Philosophical Investigations, Third Edition, trans. G. E. M. Anscombe (New York: Basil Blackwell & Mott, Ltd., 1958).
Ibrahim Khalil: Fi al-Naqd wa al-Naqd al-Alsuni, Dirasat Naqdiyya, Mukhtarat Urduniyya, Amman, Manshurat Amana al-Kubra, 2002.
Bakhtin, Mikhail: Qadhaya al-Fann al-Ibda’I Ind Dostoyevsky, Tarjama Jamil Nasif, Dar al-shu’un al-Thaqafiyya al-Amma, Baghdad, 1986.
Jamal shuhayyid: Fi al-Bunyawiyya al-Tarkibiyya, Dirasa fi Manhaj Losian Goldman, Dar ibn Rushd, Beirut, 1982.
Sa’id Al-Ghanami: Al-Kitaba al-Masmuma fi Asatir Ibrahim Al-Kuni, Majalla (Sutur), Cairo.
Raman Selden: Naqd Istijabat al-Rari’, Nuqqaduh wa Nazariyyatuh, Tarjama Sa’id Al-Ghanaki, Majala (Afaq Arabiyya), Baghdad, No8, 1994.
• د. عبد الإله أحمد: الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية اتجاهاته الفكرية وقيمه الفنية، منشورات وزارة الإعلام، بغداد، 1977.
[1]) سبق لنا دراسة أعماله الروائية: “الوجه الآخر”- 1960- و”الرجع البعيد”- 1980- و”خاتم الرمل”- 1995. وللتكرلي، عداها، روايات “المسرات والأوجاع”- 1998- و”بصقة في وجه الحياة”- 2000- و”اللاسؤال واللاجواب”- 2007- التي نقوم بدراستها هنا.
[2]) يُنظر نجم عبدالله كاظم: أيقونات الوهم، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمّان، ص9-15.
[3]) Anne Lundin: Constructing the Canon of Children’s Literature Beyond Library Walls and Ivory Towers, Rutledge, New York, 2004, P. 111.
[4]) د.جمال شحيد: في البنيوية التركيبية دراسة في منهج لوسيان غولدمان، دار ابن رشد، بيروت، 1982، ص87.
[5]) Wilfred L. Guerin and others: A Handbook of Approaches to literature, USA, 1979, P. 242
[6]) Susan Sontag: Against Interpretation, in David Lodge (Ed.): 20th Century Literary Criticism, London & New York, 1972, P. 654; also see P. 660.
[7]) يمنى العيد: في معرفة النص، دار الآفاق الجديدة ودار الثقافة، بيروت والدار البيضاء، 1984، ص17.
[8]) M. H. Abrams: A Glossary of Literary Terms, USA, 1981, P. 155.
[9]) نبيلة ابراهيم، القارئ في النص” نظرية التأثير والاتصال”، مجلة (فصول ) القاهرة، ع1، م5، 1984، ص101.
[10]) المصدر السابق ، ص 102. والواقع أن هذا يرجعنا إلى الأساس الفلسفي الذي انبثقت منه نظرية التأثير والاتصال ، كما يؤكد ايرز نفسه ، وهو الفلسفة الظواهرية، “وخلاصـة القول أن الظواهرية ترفض الافتراض المسبق عند الدخول في علاقات الأشياء ، كما أنها ترفض فرض أي منهج يؤدي إلى تثبيت الشيء، ويعطل الحركة الدينامية للبحث والاكتشاف” . المصدر السابق.
[11]) المصدر السابق، ص101-102.
[12]) رامان سلدن، نقد استجابة القارئ نقاده ونظرياته، ترجمة سعيد الغانمي، مجلة (آفاق عربية)، بغداد، ع8، 1994، ص32.
[13]) المصدر السابق.
[14]) نبيلة إبراهيم، مصدر سابق، ص102.
[15]) المصدر السابق.
[16]) المصدر السابق.
[17]) Abrams, op. cit. P. 47.
[18]) Ibid, P. 151.
[19]) سلدن: مصدر سابق، ص 34.
[20]) E. D. Hirsch: Validity in Interpretation, New Haven and London, 1967, p. 137.
[21] ) فخري صالح: تحولات الذائقة ومعنى القراءة، جريدة (الحياة)، لندن، ع15943، 28/11/2006.
[22]) د. إبراهيم خليل: في النقد والنقد الألسني، دراسات نقدية، مختارات أردنية، ط1، عمّان، منشورات أمانة عمّان الكبرى/2002، ص121.
[23]) يمنى العيد ، مصدر سابق ، ص 14.
[24]) نبيلة ابراهيم ، مصدر سابق، ص 104.
[25]) لأننا كتبنا هذه الدراسة عام 2007، فإن هذه المقدمة والمسح لا يغطيان بالطبع كتّاب وكتابات السنوات التالية.
[26]) قصة “الوجه الآخر” ظهرت ضمن مجموعة التكرلي الأولى التي جاءت بالعنوان نفسه عام 1960. ويجب أن نشير إلى أن الكاتب كان قد كتب قصة طويلة هي “بصقة في وجه الحياة” قبل هذا بسنوات، وكما عرفنا منه ومن كتاب الدكتور عبد الإله أحمد “الأدب القصصي في العراق”، ولكنه لم ينشرها حينها، بل هو لم يفعل هذا إلا عام 2000.
[27] ) فؤاد التكرلي: اللاسؤال والاجواب، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، 2007.
[28]) Ludwig Wittgenstein, Philosophical Investigations, Third Edition, trans. G.E.M. Anscombe (New York: Basil Blackwell & Mott, Ltd., 1958), p. 50.
[29]) لنتذكر هنا (محمد جعفر) في “الوجه الاخر”، و(محيي) في “بصقة في وجه الحياة، و(هاشم) في خاتم الرمل، وجل أبطال أو شخصيات “الرجع البعيد”، (مدحت)، و(منيرة)، و(عبد الكريم)، و(حسين) والاخرين.
[30]) الرواية، ص62.
[31]) د. نجم عبدالله كاظم: حوارات في الرواية، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ص 48-49.
[32]) م. ب. باختين: قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي، ترجمة د. جميل نصيف، مراجعة د. حياة شرارة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986، ص15.
[33]) المصدر السابق، ص18.
[34]) المصدر السابق، ص67.
[35]) المصدر السابق، ص90.
[36]) سعيد الغانمي: الكتابة المسمومة في أساطير إبراهيم الكوني، مجلة سطور، القاهرة، ص70.
[37]) فؤاد التكرلي: بصقة في وجه الحياة، منشورات الجمل، ألمانيا، 2000، ص23. معروف أن هذه الرواية القصيرة أو القصة الطويلة لم تُنشر إلا بعد كتابتها عام 1948- التي عرّفنا بها الدكتور عبد الإله أحمد- بأكثر من نصف قرن.
ينظر د. عبد الإله أحمد: الأدب القصصي في العراق، ج2، ص191، وينظر أيضاً ص301-316.