غائب طعمة فرمان، خمسة أصوات

غائب طعمة فرمان: خمسة أصوات
من كتابي “الرواية في العراق 1965-1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها”
تأتي “خمسة أصوات”– 1967– لتختلف، في بعض جوانبها، عن رواية فرمان الأولى، رغم الاتجاه الواقعي الواضح الذي يجمع العملين، وهو الاتجاه نفسه الذي لن يتخلى عنه الكاتب طيلة مسيرته الأدبية. وأول ملامح الاختلاف التي تلفت النظر في العمل الجديد هو استخدام الكاتب شكلاً مختلفاً تماماً عن الشكل التقليدي لعمله الأول، مصحوباً ببعض الأساليب التقنية الجديدة. فهو يقدم قصة الرواية– أو ربما جاز القول قصصها- من خلال خمس شخصيات تمثل مثقفي عراق الخمسينيات. وهو بذلك يقدم لنا صورة بانورامية للعالم الذي من الوضح أنه يريد نقله فنياً لنا، من خلال تصويره للعوالم الفردية لهذه الشخصيات الخمس الرئيسة وهمومها التي تعكس بالتالي هموم الفئة أو الفئات المثقفة في عراق ذلك الزمن. ونحن نقول فئة او فئات، فلأن عوالم هذه الشخصيات هي، من جهة أخرى، أجزاء عالم واحد، هو عالم عراق ذلك الزمن منظوراً إليه من مثقفيه.
(سعيد)، أول الأشخاص الخمسة، مثقف، خجول ومتردد إلى حد ما، رغم ثقافته ووعيه غير العادي وعمله صحفياً. ويمكن أن نكوّن فكرة عنه، قد تختلف جزئياً من قارئ إلى آخر، من خلال الحوار الآتي الذي يدور بينه وبين صديقه (عبد الخالق) الذي يسأله وهو يتفحص مقاله الأول في الصحيفة:
“- هل استطعت تشخيص المحنة، أم تشدقت بألفاظك الرنانة؟
“- حاولتُ أن أعبر عن همومي.
“- وما هي همومك؟
“- هي أنني مهدد دائماً، وأعيش ثقافياً على ما يرسمه الآخرون لي، وأُحاط بالممنوعات والمحذورات، والحكّام ينظرون إلي كمشبوه.
“قال عبد الخالق بحماس:
“- هذه أول كلمة صادقة أسمعها منك”- الرواية، ص55-56.()
إن (سعيد) يعكس جانباً مهماً وكبيراً من جوانب أزمة المثقفين وسط مجتمع لا يفهمهم أو لا يستوعب وعيهم وثقافتهم، ولا يتيح لهم التحرك وفق ما يمليه عليهم هذا الوعي وهذه الثقافة. إنه وأصدقاءه يشكلون ما يدعوه هو نفسه (الجيل الضائع)، وهو جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي قدم أمثال هؤلاء المثقفين غير المنسجمين مع المجتمع الذي يعيشون فيه، ولا يجدون لهم مكاناً فيه. ويضاف إلى أزمة (سعيد) العامة هذه أنه، على ما يبدو، لا يعرف ماذا يريد بالضبط أو عمّاذا يبحث. هو يبحث عن شيء أو أشياء بالتأكيد، ولكن ما هي هذه الأشياء بالضبط؟ هو نفسه لا يعرف! وذلك ما يعمق أزمته. ولعلها انعكاس للجو السياسي والاجتماعي والثقافي في عراق الخمسينيات على شخصيته ذات الخصائص الفردية، المتجسدة بشكل خاص في خجله وتردده، مما يعود فيعكسها في كثير من الواقف بشكل ردود أفعال سلبية؛ وقد يلجأ إلى النكوص والانزواء أحياناً والشكوى وتزعزع العقيدة والجزع بدلاً من اتخاذ موقف معين والمبادرة إلى القيام بعمل ما. يقول له صديقه (إبراهيم):
“- أنا أشارك في أفكار كثيرة.. ومفتاح المشاركة هو ما قلته عن الأمل والعقيدة. هاتان كلمتان مرتبطتان في ذهني. إذا فقد الإنسان عقيدته، فقد أمله. والعكس صحيح أيضاً.
“- وهل تظنني فقدت أحدهما؟
“- لم أقل ذلك، ولكنك تعبت كثيراً. ثم أنك سريع الجزع دائم الشكوى.
“- أتعرف لماذا؟ لأنني غير راض عن نفسي، بل ناقم عليها. ماذا قمت من عمل جدي حتى الآن؟ ماذا صنعت لجيلي؟”- الرواية، ص210.
لكن ذلك كله لا يعني أن (سعيد) كان استسلامياً وسلبياً وشكّاءً وغير ذي فعل تماماً، بل هو قد قاوم الظروف، وحاول أن يخرج من أزمته، فأصبح رجلاً إيجابياً، ورجل فعل man of action بشكل عملي في مناسبات عدة، كما في مشاركته في تحرير صحيفة وطنية، حيث يعمل. فهو مسؤول فيها عن عمود يُعنى بمشاكل المواطنين، وهو يسهم إيجابياً، من خلال هذا العمود، في حل مشاكل قرائه، أو في الأقل في نشر شكاواهم ومعاناتهم من هذه المشاكل. وهو يكشف أيضاً عن الوجه الآخر لأحد الأصدقاء الخمسة حين يكتشف أن (حميد) متزوج، ولكنه أهمل زوجته وطفيله وهم في حالة مأساوية ومزرية وسلبية. و(سعيد) يبذل، أكثر من ذلك، مساعي إيجابية، وإن لم تنجح في حل مشكلة هذه العائلة. وتضاف إلى ذلك كله إسهاماته في الجهد العام الذي يبذل لصدّ الفيضان الذي يهدد بغداد. لهذا كله أجد مبالغة أو عدم دقة، في فهم هذا النموذج المثقف وفي إضفاء العديد من السمات السلبية عليه، من بعض النقاد مع ما قد يكون في تلك الآراء من جوانب صحة بالطبع، فيقول أحدهم في (سعيد):
“هذا الرجل متداع مثل بناية قديمة.. ضعيف يحاول أن يلوي الحياة فتلويه.. إنسان معرّض للانبعاج في أية لحظة، لكنه لا ينكسر بسبب مرونته، ولأن فيه بذرة طيبة. منذ اللحظة التي نتعرف فيها عليه نراه حائراً تائهاً وسط أزمته.. وتظل هذه الحيرة وذلك التيه يلازمانه إلى نهاية القصة حيث تُلقي به المراسي خارج الوطن. وسعيد هذا نموذج شائع، متوفرة بكثرة، يمكن أن تلاقيه دائماً في أوساط المثقفين.. إلا أنه ليس النموذج الأفضل. بل ربما يكون النموذج الأسوأ، بسبب ضعفه وتردده وعدم ثقته بنفسه”().
فإن هذه النظرة إلى (سعيد) أحادية الجانب، لا تلتفت إلا إلى جانب واحد منها، وهي تتناسى، في هذه الأحادية، العالم والظروف التي تتحرك وسطها الشخصية.
الصوت الثاني هو صوت (إبراهيم)، الذي هو الصديق المقرب جداً لـ(سعيد)، لكنه يختلف عنه في كونه أكثر إيجابية في مواقفه مما حوله ومما يعيشه أو يراه، وبالتالي من أزمته ومعاناته بوصفه مثقفاً، والأهم من ذلك في فعله. هو طموح ويعرف ما يريد، وهذه نقطة مهمة يختلف فيها أيضاً عن (سعيد)– مع أن الاثنين كانا عاجزين عن تحقيق أكثر ما يريدون تحقيقه– فهو يكافح من أجل تحقيق أهدافه الشخصية الخاصة والسياسية، بثقة بالنفس مختلفة تماماً. هو ليس بعيداً بالطبع عن أزمة أصدقائه ولا عن أزمة جيله بشكل عام، لكن الفرق هنا يكمن في وعيه الذي يتميز به وفي محاولاته الجادة للخروج منها، وهو جزئياً ينجح في ذلك، في الأقل بشكل فردي أو في حدود ما يتعلق به، ولذا فكثير من مبادراته تتسم بإيجابية الهدف والتخطيط والفعل الحقيقي ضمن هذا السبيل الذي ربما ينشده أكثر مثقفي جيله، ومنهم الأشخاص الخمسة، ولكن دون أن يعرفوا كيف يسيرون فيه. ومن هنا فنحن نتلمس هذه الإيجابية في التفكير والاتزان والسيطرة على الأفكار والمبادرة والفعل في سلوكه وتفكيره:
“جلس إبراهيم إلى طاولة منزوية. أخرج علبة سيكائره ودخن سيكارة، وترك العلبة على الطاولة، وتابع شريط أفكاره. سيخلّف العزوبة لسعيد الذي لم يجد طريقه حتى الآن، ولبودلير العصر [شريف] الذي لا يؤمن بالعقود الفردية، ولحميد الهائم المتدلّه بشبابه، ولعبد الخالق الذي لم يجد حتى الآن فتاةً تجمع الفضيلتين: الجمال والثقافة. وسيتزوج هو، سيخرج من خط بلقيس، والسهر خارج البيت، ويستعيض عن دفء الخمرة المحموم بدفء جسد إنساني. وأية تجربة جديدة في الزواج! ستكون له في بيته امرأة.. زوجة.. قرينة.. كلمة جديدة تضاف إلى قاموس حياته”- الرواية، ص141-142.
وإذا كان (إبراهيم) يختلف بشكل واضح، في ذلك كله، عن (سعيد) فإن أموراً عديدة أخرى تجمعهما، سواء أكان ذلك في نوعية الهموم والمعاناة، أم في طرق وأساليب التعامل معها، بينما يقف هو، أو بالأحرى يقف الاثنان على طرفي نقيض تماماً من (شريف)– الشخصية الثالثة. إن (شريف) شاعر ضائع، مشرد، لا يملك حتى المكان الصغير الذي يأوي إليه، مثَلُه في الحياة هو الشاعر بودلير في همومه، وهو “… لا يعيش العالم الواقعي المحيط به بقدر ما يعيش العالم الذي شيده في رأسه. وحتى حين يتحدث مع الآخرين يبدو وكأنه يتحدث إلى أفكاره أو بالأحرى يستوحي حواره من عالمه الخاص”()، وهو متوحد، وربما رافض لكل ما هو خارج شخصه وخارج “العالم الذي شيده في رأسه”()، ولا يقر إلا بقدراته وبموهبته الشعرية التي لا يراها قد أخذت المدى الذي تستحقه في العالم المادي الذي يعيش فيه، فأبى، بالتالي، إلا أن يستسلم لهذا العالم الخاص، ليعيش فيه مع تشرده وشعره وحبه الوهمي ولا مبالاته تجاه الآخرين. بعبارة أخرى إن الأشياء لا تكتسب عنده أهمية إلا بمقدار علاقتها بفردوسه. ولذا فهو يحجم عن مشاركة الآخرين همومهم، كما يحدث فعلاً حين تتعرض بغداد للفيضان، فيهرع الناس للمشاركة في عمل جماعي لتقوية السداد؛ فحين يكون (عبد الخالق) و(حميد) في طريقهما إلى السد يريانه:
“كان هو بعينه قرب العمود منتفخ الصدر كالطاووس يتلفت. ناداه عبد الخالق. حرك شريف رأسه ببطء. وكانت على وجهه خيبة.
“- ماذا تعمل هنا؟.. تعال هنا.
“- لن أغادر هذا المكان. أنا في انتظار آنسة.
“- سخيف. أهذا وقت مناسب لانتظار آنسة؟ تعال نكافح الفيضان.
“- كل عضو فيّ مشلول ينتظر.
“- لا تتفلسف– وجره عبد الخالق من يده– ألا تدري ماذا يجري حولك؟ انظر إلى الناس في محنتهم.
“- لماذا أنظر إليهم في محنتهم، وهم لم ينظروا قط في محنتي؟”- الرواية، ص131.
كل ذلك لا يشكل أدنى أهمية لديه، إنه يترك الآخرين بمحنهم ليعيش عالمه الوهمي، وكلما انهار هذا العالم الوهمي، لسبب أو لآخر، يعرج (شريف) على مومس يتخذها صديقة يثق بها لتعوض له عما انهار. ومع سلبية هذه الشخصية، فإنها تمثل ولا شك جزءاً من حقيقة المثقفين في فترات بعينها وفي ظل ظروف معينة، يكون فيها الإحباط في تحقيق ما يريدون أو الإحباط في تشييد بناء العالم المثالي– الذي هو في الأصل في أذهانهم– دافعاً أو سبباً لغرز إحساس شديد من اللامبالاة تجاه كل ما يحدث حولهم. وهذا بالفعل ما نلمسه في نظرة (شريف) إلى ما حوله.
الشخص الرابع هو (عبد الخالق) الذي هو أكثر الخمسة ثقافةً وأنضجهم وأكثرهم وعياً. ولكن يبقى له، مع هذا وربما لهذا، أزمته. هي أزمة نابعة في معظمها من التناقض الشديد بين ثقافته ووعيه ومثله الناتجة عن ذلك من جهة، والعالم أو المجتمع الذي يعيش فيه، والذي لا يجد فيه ما يستوعب شخصيته ووعيه وثقافته، حيث الرتابة والملل اللذان يقتلان كل تطلّع نحو ما يمكن أن يكون قد تكوّن في داخله من مُثلٍ عن هذا العالم، من جهة أخرى. والواقع أن هذه الأزمة في أسسها هي عامة بين المثقفين، ولهذا ليس بعيداً عن الدقة أن نراها أحد الخطوط التي تربط الشخصيات الخمس مع بعضها. ولكنها تصل عند (عبد الخالق) حد التأزم الشديد، كونه واسع الثقافة والوعي وشديد التحسس لهذا التناقض، فهو يقول لنفسه يوماً، كما قد يقول ذلك كل يوم:
“هذا يوم آخر من حياتي، يوم لن يختلف عن يوم أمس، وما قبله، إلا بأنه قطعُ ورقة فارغة من تقويم حياتي، وقربُ أول الشهر يوماً واحداً.. وما عدا ذلك لا جديد فيه. أنا أعرف ماذا سيحدث في هذا اليوم. بعد قليل سأمارس العمليات التي أمارسها كل يوم.
“وانصرفَ عن الحديقة مهموماً بعد أن تسمم بجرعة الصباح من الأفكار القاتلة… كل شيء ليس له، لا يملك شيئاً في الدنيا. حتى الوقت، أجزاء حياته المتساقطة مثل أوراق شجرة ذابلة، ليس ملكه الخاص أيضاً”- الرواية، ص53.
ولكن رغم هذه الظروف القاتلة، وانطلاقاً من وعيه بها، هو لا يقف مكتوف اليدين، بل هو، في محاولات متتالية للانقضاض على ذلك، يتطلع للمشاركة في المحاولات الجارية لكسر هذا الواقع وللتغيير والإصلاح ومساعدة إنسان زمنه ومجتمعه. أما هل يوفق في سعيه؟، فذلك ليس مهماً جداً ضمن المرحلة التي يعيش فيها. فالمهم مرحلياً هو المحاولة والفعل والعمل على الانتفاض والتجاوز للخروج من الأزمة.
الصوت الأخير الذي بقي من الـ”خمسة أصوات” هو صوت (حميد) الذي يعيش، كما فهمنا سابقاً، حياةً مزدوجة وبشخصيتين مختلفتين كلياً، وهو يمثل، ولا شك، قمة السلبية في الرواية. والواقع “كان حميد صوتاً مختلفاً.. كان (أنبوباً تتسرب منه الحياة).. مرتبك في حياته الزوجية، مرتبك في علاقاته الاجتماعية، مرتبك في موقفه من الخمر، فطلق وخاصم وأدمن. كان هامشياً في حياته، سطحياً… لقد أخفى وراء تماسكه المفتعل شخصاً ضعيفاً متردداً لا يقوى على اتخاذ موقف حاسم حتى في شؤونه الأكثر خصوصيةً وشخصيةً.. فهو إذن شخصية سلبية”()، ويقع تأثير سلبيتها عليه وعلى الآخرين. فإذا كانت تبعات سلبية (شريف) تعود عليه هو بالدرجة الأولى، فإن تبعات سلبية (حميد) لا تقف عند حدود ذلك بل تتجاوز شخصيته لتمس الآخرين بشكل مباشر وغير مباشر. إن ما يظهر من هذه (النموذج) لهو غلاف هش سرعان ما ينهار لينكشف العالم الثاني والوجه الآخر لشخصيته. وإذا كان (عبد الخالق) يقف إلى أقصى حدود الإيجابية، ضمن الظروف والزمن والمجتمع الذي يعيش فيه، في صراعه مع مسببات الأزمة والإحباط والسلبية وفي محاولاته للخروج من ذلك، فإن (حميد) يقف، بلا أدنى شك، في أقصى حدود السلبية والاستسلام واللا معقولية في السلوك والتفكير واتخاذ المواقف. إنه بعبارة أخرى عاجز، ولكن بإرادته المريضة إلى حد كبير.
إذن فغائب طعمة فرمان يقدم روايته ممتدة على خمسة خطوط، ومن خلال وجهات النظر لشخصياتها الخمس، التي وزع الفصول عليها، وراوياً الأحداث باستخدام صيغة ضمير الغائب، الذي يتخذ في بعض حالاته ما يمكن تسميته بصيغة ضمير (أنا الغائب). وفي هذه الحالات تكاد الشخصية تكون هي المتكلمة وليس الراوي الحيادي، مع أن الظاهر الشكلي هو هذا الأخير. والكاتب يعكس مواقف كل واحدة من هذه الشخصيات تجاه الأحداث بشكل يذكرنا بتجربة لورنس داريل في “الرباعية الاسكندرانية”، التي “تُروى فيها القصة نفسها من خلال وجهات نظر أو زوايا نظر مختلفة، وتبنى على أساس النظرية النسبية لأنشتاين بأن ليس هناك حقيقة مطلقة”(). ولكن يجب أن نقول هنا جازمين بأنْ ليس هناك، باستثناء ذلك، أي شبه فعلي بين العملين، بل ليس هناك أي مجال لإظهار أي مؤشر للتأثر. ربما كان فرمان قد استعان بهذه الطريقة بعد اطلاعه عليها مستخدمة في أعمال عديدة من ضمنها رواية داريل، فاستخدمها باعتبارها طريقة شائعة وليست طريقة واحد بعينه من الكتّاب أو الأعمال. كما أن النقطة المهمة التي يجب أن يُشار إليها، بهذا الصدد، هي أن الراوي لم يروِ القصة نفسها بالضبط، بل هو روى مجموعة قصص لمجموعة من الشخصيات من خلال فصول مخصصة لها، وبما يشبه النظر إليها من خلال كل شخصية، وروى أثناء ذلك قسماً أو أقساماً من قصة مشتركة، لتكون الخط الرئيس للرواية، وذلك من زاوية نظر كل من هذه الشخصيات تقريباً. إن التفاعل بين هذه الشخصيات وفصولها التي تُروى فيها خطوط القصة، وأدى إلى بناء الرواية بشكل متماسك سمح للمؤلف بالتحرك بين الشخصيات والأحداث. عن هذه النقطة تحديداً يقول روجر الين:
“من الأمور المهمة بشكل خاص في الرواية هو تقنيتها الروائية. إن الغالبية العظمى من الفصول يتعامل كل واحد منها مع واحدة من الشخصيات الخمس، ولكن في مرتين منها يتوسع النسيج ليدمج الخمس مع بعضها. والسرد في ذلك كله يروى بصيغة ضمير الغائب، ولذا فصورة كل فرد تبقى خارجية أكثر مما عليه في (ميرامار) لمحفوظ و(السفينة) لجبرا، على سبيل المثال”().
إن فرمان يمنح كل شخصية من الشخصيات الخمس، من جهة، خطاً أو لنقل هو يترك لكل واحدة منها أن تختط لها خطاً مستقلاً إلى حد ما، وهو من جهة أخرى يلاقي هذا الخطوط، أو يترك لها أن تلتقي في مستوى أو أكثر من المستويات، النفسية أو الفكرية أو الحديثة؛ وحين نقول تلتقي فإننا لا نعني اللقاء بالمعنى اللغوي المجرد للكلمة بل بدلالتها الدرامية. فأن يتصادم خطان أو إرادتان مثلاً يعني درامياً أنهما يلتقيان في بناء الرواية، فالخطوط الخمسة تشيد، في امتدادها وتلاقيها وافتراقها وتصادمها أو تعارضها، معماراً موحّداً هو الرواية، أي أن الرواية بوصفها وحدة واحدة هي نتيجة وحدات أو أجزاء صغيرة. إذن بعبارة أخرى، بنيت (خمسة أصوات) على خمسة أعمدة، كل عمود منها يمثل عالم شخصية من الشخصيات الخمس. وإذا كانت عوالم هذه الشخصيات، كما قلنا، تتعارض وتتقاطع أحياناً، فإن ذلك إنما يساهم في تشييد صرح العمل لا في تهديمه. وفي كل الأحوال تلتقي الأعمدة كلها في اتجاهها نحو القمة، أو الأمام، أي نحو النهاية، وبذلك يقدم فرمان روايته بأسلوب معاصر، وبصياغة لغوية متميزة. ولغة هذا العمل تبدو وصفية أكثر منها في (النخلة والجيران).
أما الحوار فإنه يؤشر في لغته تجربة جديرة بالاهتمام إذا ما نُظر إليها مقارنة بحوار (النخلة والجيران). وأعود إلى الرواية الأولى لأقول، مع أني شخصياً ومن خلال فهمي الخاص للواقعية ولوظيفة اللغة ضمن المنهج الواقعي أولاً وضمن العمل الإبداعي ثانياً، لا أجد في استخدام العامية في الحوار دعماً لهذا الاتجاه الواقعي دائماً، مع أنه لا يشكل تعارضاً معه في كل الأحوال، أقول مع ذلك كله، ومع أني كدارس وقارئ لا أميل عموماً إلى العامية في أي عمل إبداعي مكتوب، أقول أيضاً بأنه ربما يكون من الصعب إلغاء الحوار العامي لرواية (النخلة والجيران) أو استبداله بحوار فصيح دون أن يؤدي ذلك إلى نسف بعض أعمدة العمل إن لم نقل العمل كله. ولكن ربما أن إيجابية الحوار في هذه الرواية لم يتأتَّ من عاميته ذاتها بقدر ما كان ذلك نتيجة الاستخدام الذكي والموفق للغة مهما كان انتماؤها. ولعل ما يدعم هذا الميل أو الاحتمال هو توفيق الكاتب تماماً في حوار روايته الثانية، مع أنه كان فصيحاً. ونحن في ذلك نختلف مع ما يذهب إليه شجاع العاني حين يقول: “عاميتنا أكثر تعبيراً ونبضاً وحياة من اللغة الفصحى. واستخدام هذه اللغة في القصة والمسرحية إنما يخدم الحركة وهي عنصر هام في الفن القصصي”(). كما أننا لا نفترض هنا أن اللغة الفصحى هي أقدر على التعبير من العامية، إنما هي تبع للكاتب الذي يستخدمها، وإلا ما كان لفرمان أن يحقق درجة النجاح نفسها في كلا العملين.
النقطة الأخيرة التي نجد من المفيد إضافتها إلى حديثنا عن روايتي فرمان “النخلة والجيران” و”خمسة أصوات”، هي أنهما تذكراننا بروايات نجيب محفوظ الاجتماعية، من حيث المضامين، والأسلوب، والأجواء العامة. فيمكننا أن نؤشر بسهولة على العديد من الجوانب في روايات “خان الخليلي” و”الثلاثية”، و”زقاق المدق”، والأخيرة تلتقي، في الكثير، مع “النخلة والجيران” بشكل خاص،

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *