غائب طعمة فرمان: النخلة والجيران
من “الرواية في العراق 1965-1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها”
بدأ فرمان مسيرته الروائية، كما عرفنا، بـ”النخلة والجيران”– 1966، التي تعاملت مع واحدة مما يمكن تسميتها الفترات المظلمة من تاريخ العراق الحديث، تلك هي سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها. إنها، في الحقيقة، قصة محلة من محلات بغداد الفقيرة، وهي في الرواية من الممكن أن تكون ممثِّلة لواقع الفقراء العراقيين الذين كانوا الغالبية العظمى في ذلك الوقت، تتناول حياتهم العادية في الغالب، يقول الدكتور عمر الطالب:
“نلاحظ في هذا الحشد الكبير للشخصيات والأحداث أن الأحداث والموضوعات عادية وليست واقعية فحسب، إنها موضوعات الناس العاديين من الطبقات الكادحة والمحرومة يعالجها ببساطة متناهية وجرأة كبيرة”(). والرواية إذ تضمّ عدداً كبيراً من الشخصيات، فإننا نجد من الصعوبة التأشير على أي منها بطلاً لها. فكل من هذه الشخصيات لها تجربتها التي تعيشها بشكل فردي، والتي لا تبتعد في كل الأحوال عن القلق والألم والهم والمعاناة والتطلع إلى شيء. ولكن هذه الشخصيات بمجموعها متأثرة بالتجارب والأحداث المشتركة وبالأشياء وبما تدل عليه هذه الأشياء بالنسبة لشخصيات المحلة نفسها، أو للعراقيين ككل، في فترة أو فترات بعينها، كالفقر والحرب والمحلة نفسها أو بما يدل عليها وعلى الولاء إليها، كـ(الطولة)() التي تعني شيئاً ما لكل فرد من أفراد المحلة من جهة، وتعني هذا الولاء الغامض والعميق إليها من جهة أخرى، وبالتالي فهم موجودون وبكل خير ما دامت هذه (الطولة) موجودة، تقول إحدى الشخصيات “اشو الطوله من آني أتخلقت موجودة. عيني من يذكر على طولة حاج أحمد آغا”- ص30(). وإذا كانت المحلة أو الطولة، بدلالتها على المحلة، تشكل العامل الثابت– إن صح التعبير– في حياة أناس الرواية، فإن الحرب هي العامل الطارئ ولكن الذي يلعب الدور الرئيس في حياة هؤلاء الناس، وفي حياة مجتمع ذلك الزمن. بعبارة أخرى، من الممكن أن يُنظر إلى “النخلة والجيران” على أنها قصة المجتمع العراقي من خلال الحرب وفي ظلها. وإذا لم يكن صحيحاً أن نعد الرواية رواية حرب، بسبب دلالة هذا المصطلح التي لا يخضع لها هذا العمل، فإنها بلا شك من روايات مجتمع متأثر بدرجة ما بالحرب.
إذن فالمحلة تشكل المكان الرئيس أو المركزي الذي تجري فيه أحداث الرواية. ولا تنتقل مسيرة هذه الأحداث، في تفرعاتها وتطوراتها، كما لا تخطو شخصياتها بشكل جدي، إلى أماكن أخرى خارج هذا المسرح إلا مرتين رئيستين تشكلان تفرّعين من تفرعات الحبكة. ومما يلاحظ هنا أن تطور الأحداث في هذين التفرعين، أو الحبكتين الفرعيتين، تنتهيان كلاهما نهاية سلبية، كما تنتهي شخصيتاهما نهايتين تراجيديتين، الأمر الذي يوحي بأن الكاتب قد أراد أن يقول من ذلك شيئاً ما، نراه نحن أنّ لا حياة ولا مستقبل لأناس المحلة خارجها، مما قد يعزز الدلالة (الرمزية) للمحلة، كما نوهنا إليها ضمناً. فلنتعرض لهذيه التفرّعين ونرى كيف يتمثل هذا الذي نقوله.
في التفرع الأول، يحاول (حسين)، وهو أحدى الشخصيات الرئيسة، بناء عالم أو ربما حياة خاصة به بسرعة وبدون انتظار لمستقبل هو غير واثق تماماً من أنه سيستطيع تحقيقه أو سيأتي فعلاً.. “… ما أريد هالمستقبل.. أريد أعيش اليوم”- ص44- فينطلق من المحلة إلى العالم الواسع بعد أن لا يجد بغيته في بيت زوجة أبيه (سليمة) ولا في المحلة كلها. ومع أنه لا يقدم على فعل جدي أو حقيقي في سبيل ذلك، فلا نجده إلا جوالاً هائماً، فإن لقاءه بـ(تماضر)، الفتاة القروية الهاربة من أهلها الذين أرادوا تزويجها برجل عجوز، يرسم أول خطوط هذا العالم الذي يريده. ولكن، لضعفه وقصور وعيه عن أدراك ما يريده بالضبط ولا ما يجب عمله، تتداخل خطوط هذا العالم باتجاهات غير متناسقة بما يوصلها إلى أكمال بناء حلمه، ابتداءً بتأجير غرفة لحبيبته والعيش معها كزوج وزوجة بدون زواج شرعي، ومروراً بسرعة إنفاق مدخراته القليلة من المال المحفوظ لدى صديقه (صاحب)، وعجزه عن الإتيان بأي فعل إيجابي يقود حبيبته إلى حياة طبيعية مستقرة مع زوج يعمل، وانتهاءً بسقوط تماضر، على يد (نشمية)، واختفائها. والنتيجة تكون بعد ذلك بعودته خائباً إلى محلته ليجد أن (محمود ابن الحولة)، وهو شقيٌّ معروف، قد قتل (صاحب) وأشاع الرعب بين الناس. هنا يُقدم (حسين)، وسط إحساسه العميق بالضياع واليأس، على فعله الدال بقتله ابن الحولة، انتقاماً لصاحبه. فعله الأخير هذا يأتي بعد مناقشات ومنلوجات داخلية طويلة تنتهي بالقرار، الذي يقوده بعد ذلك إلى الفعل:
“… واستوفزت كل حواسه وفلتت منه “آني أنتقم” وجعل يفكر فيها، ثم قال في تسويغ “غِير يِراد واحد بايع ومخلّص؟ وآني شنو؟ إشعندي بعد اهتم بيه؟… بالعكس الناس تكوم تحترمني وتخاف مني.. الدورة أعيش سلطان. جم واحد ابغداد يعيش بالخاوه؟ وجم واحد السجّينة توَكْله لِكُمته وأكثر؟ والدنيا تايهة.. وإلا جم واحد قتل محمود؟ صابر وصاحب، وناس كثيرين… وآني أجي على نشمية بالليل.. ولج أم اللي لا صلى ولا صام… طَلْعي تماضر.. وين ضامتها؟ لِج تماضر… وين جنت؟ هي كلكم غنم!
… يراد لهم واحد هيجي. الدنيا ميرادلها خوش آدمي… مَجان صاحب خوش آدمي؟ راح… راح… راح ومشيت بجنازته.. راح وآني ملتهي.. مخنث آني.. صدك مخنث.. لعد مو مخنث…”- ص264.
ويبرز التساؤل عن دلالة نهاية الرواية بشكل عام، وعن دلالة فعل (حسين) الأخير، والذي ربما هو الفعل الوحيد الذي يصمم على تنفيذه ويقدم على ذلك بإيجابية، مع ما قد يكون في طبيعة الفعل نفسه من سلبية. أهو مجرد انتقام للصديق (صاحب)؟ أم هو انتقام للمحلة ولكل الناس؟.. هل هو صرخة على الظروف وعلى جو الضياع والظلم وعلى الذات الذائبة في ذلك؟. يبدو لي أن الإجابة على مثل هذه التساؤلات غير ممكنة دون فهم خاص لشخصية (حسين) حين بدأ يتحسس طبيعة العالم من حوله بعد ضياع (تماضر) ومقتل (صاحب) وإخفاقه هو في تحقيق أي شيء. يتم ذلك كله بما يشبه يقظة النائم الفجائية، فلم يكن وعيه بعد ليتناسب وهذه اليقظة؛ ولما كان لا بد من الفعل هنا، فإن ذلك يجيء متهوراً إلى حد ما، إذ لم يكن ليحقق شيئاً أكثر من الانتقام من ظالم، وهذا بالتأكيد غير كاف لإصلاح ولو جزء صغير من العالم الرديء، هو إن كان ليعني فعلاً إيجابياً يحقق حلاًّ ما فإنه فعل فردي وحل فردي. فلا يكون بعيداً عن الصحة أو عن الدقة القول إن (حسين)، مثلاً، لا يُقدم على أي فعل ايجابي حقيقي من أجل حبيبته (تماضر) رغم حقيقة حبه الصادق وغير المحدود لها(). فتتناقص مدخراته لدى (صاحب) الذي كان يجمّعها له ليحقق بها شيئاً لمستقبله، ويحاول أن يعمل عند الإنكليز، ويخفق حتى في ذلك، بينما لا يستطع إنقاذ (تماضر) من بين يدَي (نشمية) التي تدفع بها إلى الرذيلة. ويفسر ياسين النصير، ضمناً، فعل شخصيات الرواية بقوله: “… كان إنسان (النخلة والجيران) منساقاً لواقعه يستسلم لضغوط الحرب وما تفعله، فهو غير واع تماماً لما يجري أمامه، مرغم على مصاهرته، وقد كان بحث شخوصها منصباً على إيجاد مأوى”().
في التفرع الثاني لتطور الأحداث، تُخدع (سليمة)– أرملة أبي (حسين)– على يد (مصطفى)– صديق زوجها المتوفي– حين يأخذ مدخراتها من النقود التي جمعتها بالعمل المضني خبّازةً، مدّعياً أنه يريد توظيفها واستثمارها في فتح مخبز صمون. وإذ تكون الخطوة الأولى لـ(سليمة) في هذا الطريق خاطئة– وربما مدانة ضمناً من المؤلف– فإنها تستتبع خطوات أخرى خاطئة، وبالتالي كان لا بد أن تنتهي بالفشل والإخفاق. فبعد أن توافق هي على استخدام (مصطفى) لغرفة في بيتها مخزناً لبعض أغراضه، ثم استغلاله لهذه الغرفة مكاناً يقضي فيه بعض أوقاته حد المبيت فيه، تنجر (سليمة) للزواج به. بعد هذا كله ينكشف لها أنه يتعامل مع الجنود الإنكليز في السوق السوداء وأنّ لا وجود للمخبز ولا لاستثمار مالها في ما ظنت أنه سيدرّ عليها المال، فيتبخر مشروعها لتأسيس حياة أفضل تتخلص فيها من عملها المضني، وبذلك يقضى على أي أمل لها في الخروج من واقع (المحلة) دون أن تخسر الكثير كما يحدث فعلاً، فتبيع البيت وتضطر إلى السكن في غرفة صغيرة مع زوجها الجديد. ولا تأتي يقظتها من الحلم الذي تنجر وراءه إلا بعد أن يكون عالمها في محلتها– الذي رفضته– قد تحطم. وهكذا تهتز كلا الشخصيتين هزاً عنيفاً، وتخطو أقدامهما في طريق جديد ربما سيكون عليهما الاستمرار فيه نحو مرحلة أخرى.. نحو نجاح معين أو نجاح جزئي أو ربما نحو مزيد من الإخفاق، وهذا كله بالطبع مما لا يصرح به الكاتب، بل ربما حتى لا يلمّح إلى شيء منه. بعبارة أخرى هو يترك تخيُّل ذلك للقارئ الذي عليه، لتكوين تصوّر حول مصير الشخصيتين، قراءة الرواية كلها وفهم شخصياتها فهماً شاملاً. ونعتقد من هنا يجيء رؤية الناقد باسم عبد الحميد حمودي في هذه الشخصيات وضمنها (حسين) و(سليمة) حين يقول: “سليمة الخبازة تريد أن ترتفع طبقياً، وكذلك مصطفى، ومحمود ابن الحولة، وتماضر المشردة المسحوقة اجتماعياً بإرادتها الرومانسية، وحسين المغامر، وحتى مرهون السائق…”()، مع ما قد يكون في هذا الرأي من تجاوز، كثيراً ما يقع حين ينجر بعض نقادنا وراء محاولة التوسع في التعليل والتنظير وتحميل النص وعناصره أكثر مما فيها أو حتى ما لا يحتمله، خصوصاً إذا ما عرفنا أن “النخلة والجيران” هي مفتوحة في عالمها وطبيعتها بدرجة لا تحتمل معها مثل هكذا تحميل في التأويل.
لطبيعة عالم “النخلة والجيران”، وربما عوالم غائب طعمة فرمان عموماً، ولاتجاهه الواقعي، تبرز المحلة لتكون عنصراً من عناصر الرواية وتسهم في تكوين بعض سماتها، سواء أكان ذلك في طبيعة موضوعها، أم في الأجواء العامة لعالمها، عالم الأحياء البغدادية الفقيرة وخصائصها، والناس، والعادات، واللهجات، والبيوت والأزقة..إلخ. ولأن الرواية، في ذلك، تعكس بصدق حياةَ أناسِ تلك العوالم بكل ما تنطوي عليه من تفاصيل الحياة الشعبية، فإنها قد اصطبغت بصبغة حزينة، كان مبررها هو سمات تلك الحياة التي استفادت منها وطبيعة الزمن الذي دارت الأحداث فيه. ولكن، كما يقول الدكتور عمر الطالب، “من الخطأ النظر إلى الرواية على أنها أدب حزين، إنها مشحونة بسخرية أصيلة. فمَن يؤمن بتفاؤل الإنسان وصموده وبسالته في قهر الصعاب التي تواجهه وبقدرته على التطور وعلى تحسين أحواله المعيشية، يلجأ إلى السخرية ليخفف من حدة المأساة بابتسامة حكيمة مشرقة طبيعية، وبطريقة غير مباشرة”(). والى جانب هذه الصبغة المحلية الواضحة، ومنها جزئياً، يمنح فرمان روايته بعداً إنسانياً أيضاً يجعلنا نحس أن همومها ليست هموم أناس المحلة فحسب، بل هي هموم الإنسان أي إنسان في ظروف يعينها. بعبارة أخرى، من الممكن النظر إلى الرواية، بأناسها وأحداثها وموضوعها على أنها ذات دلالة تتخطى حدود محلة بعينها أو بيئة بالذات أو أفراد محددين.
مع أن فرمان لم يوظف وحدة الزمان بشكل مباشر أو صريح، فمن الواضح أنه قد بنى روايته زمنياً على أسس منطقية وحقيقية كما يظهر ذلك واضحاً من الفصول الأولى، بل هو يبدأ بها من الصفحات الأولى للرواية. فــ”قبل أن تغرب الشمس سمع الجيران صوتها”- الرواية، ص5- لتتحرك الأحداث بعد ذلك وفق تسلسل زمني– تاريخي ومنطقي حتى النهاية. وإذا كان من الطبيعي أن تبدو الرواية بذلك تقليدية البناء والتقنية، ونحن نعرف أنّ البناء والتقنية يرتبطان بالزمن بشكل أساس، فإن الكاتب يستخدم أيضاً تقنيات حديثة مثل الحوار الداخلي والمناجاة، ليمنح روايته بهذا طابعاً معاصراً يلون به أسلوبه. وهو، بحِرَفيّة غير عادية في معالجته لهذه التقليدية، وبهذا الاستخدام البارع للأدوات الحديثة للتقنية الفنية، وبالسماح للعوالم المتعددة والخطوط الرئيسة بالتداخل والتلاقي والتعارض فيما بينها، استطاع من وضع بناء متماسك بشكل لا نحس معه بأي شرخ، قد يسببه أحياناً مثل هذا الجمع ما بين ما تبدو متناقضات، من بداية الرواية حتى نهايتها المفتوحة. وهذه النهاية المفتوحة تحديداً تحركنا، نحن القراء، بعد آخر كلمة من الرواية، حين نجد أنفسنا نتخيّل امتدادات ونهايات لشخصياتها الرئيسة، ولاسيما (حسين). في الواقع نحن نحاول في هذا أن نجيب على أسئلة تنثار فينا عن هذه الشخصيات، لنحاول في النتيجة أن نتصور حيواتها أو نهاياتها ما بعد نهاية الرواية وفق تقييمنا لها ولتطور الأحداث وزمنها، لأن الكاتب لا يجيب عنها وربما لا يمتلك هو نفسه تصوراً لذلك ليقدمه للقارئ، في الأقل وهو يكتب. يقول غائب طعمة فرمان: “فأنا نفسي أتساءل ما هو مصير حسين؟ بل أنا أعمل وأخطط وأضع الخطوط الأولية لأنْ أكتب عملاً أسميه (حسين وتماضر) أصوّر به هاتين الشخصيتين بعد عشر أو عشرين سنة من نهاية (النخلة والجيران)، كيف تصرّفا؟ أين هما الآن في أحشاء المجتمع؟ هل أصبح حسين شقياً أم أصبح واعياً؟ هل أصبحت تماضر بغياً أم أمرأة أخرى؟ أتساءل بمختلف التساؤلات”(). والواقع أن غائب يقدم شخصياته كأشخاص حقيقيين أحياء يعيشون معنا ونحن نقرأ الرواية، وتبقى ذكراهم بعد انتهائنا من القراءة، ولذا فقد تمردت على النهاية التقليدية التي يقررها المؤلف عادةً. وبسبب هذا أيضاً، ولكون الكاتب قد تعامل مع محلة، لم يتح لأي من الشخصيات لتبرز فتكون بطلة العمل. هناك، بالطبع، شخصيات أساسية تحتل مساحات أوسع مما تحتله الشخصيات الأخرى، وهذه الشخصيات على وجه التحديد، هي (حسين) و(سليمة) و(مصطفى) و(تماضر). وفي رسمه لشخصياته، يتجنب فرمان الرسم المباشر والمظهري المجرد، في أغلب الأحيان، دون أن يستغني عن ذلك كلياً، بل كانت وسيلة ضمن وسائل عديدة ولكنها غير مهيمنة، وهي تتوزع ما بين وسائل رسم أو تقديم إخباري ووسائل تقديم إظهاري. فإلى جانب هذه الطريقة المباشرة التي تتجسد في تصوير الكاتب للشخصية بكلماته هو ووصفه المظهري لها، وبغلبة الإخبار على الإظهار، يستخدم أيضاً وبكثرة الحوار لتشارك جميعاً في إكمال رسمها. وإلى جانب هذه الوسائل الفنية التقليدية، هو يلجأ ايضاً إلى بعض الوسائل غير التقليدية، مثل الحوار الداخلي وتداعي الأفكار، ومنها أيضاً المعادل الموضوعي، والذي يظهر بشكل أساس في تعامله مع شخصية (سليمة)، وأحياناً (حسين). فمن ذلك قوله، حين أراد أن يرسم الشخصية الأولى بعواطفها ومعاناتها الداخلية، من خلال حقائق (أشياء) خارجية:
“… وتنهّدتْ، وفتحت عينيها. رأت أمامها نخلتها القميئة تبرك قرب الحائط وسط دائرة سوداء. نخلة مهجورة عاقر مثلها تعيش معها في هذا البيت الكبير خرساء صماء، تتحمل كل المياه القذرة التي تلقى في حوضها، ويمر الصيف والشتاء دون أن تحمل طلعاً، أو تخضر لها سعفة.”- الرواية، ص7.
إن في ذلك من دقة رسم الصورة الداخلية، بل الخارجية أيضاً، لشخصية (سليمة) ومن عمق الدلالة ما يمكن أن يكون وحده مبرراً وإشارةً وتنبؤاً أو تلميحاً لانخداع (سليمة) فيما بعد، وكما سيتم على يد (مصطفى) وانجرارها المتتالي في سلسلة خُدعِه، حتى زواجها منه، ووصول أحلامها إلى الإخفاق الأخير الذي تنتهي إليه. والكاتب إذ يقدم هذه الشخصية بجوهرها ومواصفاتها من خلال هذه الفقرة الصغيرة التي تكفى لأن يرسم القارئ عن طريقها صورة هذه الشخصية في رأسه، فإن هذا القارئ نفسه ليحتاج، من جهة أخرى، إلى أن يقرأ الرواية كلها من أولها حتى آخر سطر منها ليفهم شخصيات أخرى مثل (حسين). والرواية في كل هذا التنويع مقنعة تماماً، حتى حين يبقى (حسين) فيها وبعد انتهائها مثيراً للتساؤلات، كما أشرنا سابقاً. وقد أعان الكاتبَ في ذلك تمكّنٌ واضح واستخدامٌ تلقائي، ويكاد يكون فطرياً إذا جاز لنا القول، للغة التي جاءت منسجمة وموضوع الرواية وعالمها، حتى في حوارها المثير للجدل والخلاف، الذي سنأتي إليه مرة ثانية في مكان آخر. فليس للقارئ أو الناقد، برأينا، أن يجد في لغة السرد ما يتعارض مع متطلباته ومع طبيعة الموضوع أو مستوى الشخصيات. إنها لغة متماسكة ومقعنة، وهي فوق ذلك بسيطة ومناسبة ومتلائمة مع ما تعبر عنه، وهو ما سينسحب على الرواية الثانية للكاتب، حتى مع الاختلاف الجوهري الذي سنلاحظه بين لغة كل من الروايتين.
**
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …