غائب طعمة فرمان، القربان

غائب طعمة فرمان: القربان
في كتابي “الرواية في العراق 1965-1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها”
يدخل فرمان، في روايته الرابعة “القربان”– 1975، أسلوباً جديداً بتبنّيه الترميز، ليكون الاختلاف الرئيس بين هذه الرواية وأعمال الكاتب السابقة في ما كشفته من مظاهر ومضامين رمزية. وهو ما يتمثل لنا في شخصياتها، وفي حبكتها، وفي زمنية أحداثها داخل الرواية نفسها، في علاقة هذه الشخصيات والأحداث بما نستطيع أن نستحضره بسهولة من خارجها دالةً عليه. بل حتى في طريقة القص– السرد– والحوار. وواضح أن الكاتب قد أدار ظهره، في هذا العمل، للتعليقات السياسية المباشرة التي ظهرت بشكل بسيط وربما هامشي في “خمسة أصوات”، وبشكل أكثر صراحة وقصدية في “المخاض”. وكان لرجوعه عن هذه المباشرة وهذا التصريح أن تجنب التأثيرات السلبية المباشرة للسياسة كما تجسدت إلى حد ما في الرواية السابقة. لكن ذلك لا يعني أن “القربان” قد غادرت السياسة، بل أن الرواية، كما أشرنا ضمناً، قد بُنيت على موضوعة رمزية ذات دلالة سياسية لا تخفى على القارئ، مع أنّ لهذا القارئ نفسه أن يقرأ العمل مبعداً عنه أو مهملاً البعد السياسي، دون أن يؤثر هذا سلبياً في الرواية. بعبارة أخرى، “يبتعد غائب طعمة فرمان في روايته الجديدة (القربان) عن التوكؤ على المباشرة السياسية، فيدخل مرحلة جديدة، مرحلة الشخصية المحورية الدالة، الرامزة إلى قضية كبيرة”(). ولكن يبقى أن مما يؤخذ على الرواية، من هذه الناحية نفسها، أنها إذ تخلصت من التأثير السلبي للسياسة والأفكار السياسية، كما ظهرت في “المخاض”، فإنها وقعت تحت تأثير سلبي آخر غير مباشر. فالتزام فرمان ببناء رمزي قد أوقع عمله تحت هذا التأثير، من خلال كونه جاء مفروضاً على الكاتب من معتقده السياسي الذي ألزمه بالتعبير عن واقع معين بتفصيلاته وفي ظل رؤية ذلك المعتقد له. إن هذا العامل نفسه يكمن، بظني، وراء بعض الخلل الذي يتسلل إلى فنية الرواية، حيث يمكن ملاحظته في بنائها وتطور أحداثها أو تقنيتها، وشخصياتها، وأخيراً في تطورها الدرامي العام الذي ولّد عدم إقناع في بعض جوانبها وأجزائها.
تدور “القربان” مضموناً حول الصراع بين عدد من الشخصيات من أجل ضمان الوصاية لهم على الفتاة القاصر (مظلومة) وثروتها، بعد موت أبيها (دبش). وإذا ما كانت (مظلومة) المركز الذي تدور حوله الرواية كلها، فإنها رمز واضح بأبعاد أعمق من أن تكون معها شخصية روائية مجردة. أما إلى ماذا ترمز، فذلك أمر يتحمل الاختلافات الجزئية في وجهات النظر دون أن يخرج عن المحور الذي تلتقي عنده، كما سنأتي إلى ذلك بعد قليل. فكل تلك الشخصيات المتصارعة حول الفتاة وثروتها تدّعي أنها تريد الخير لها، لكن الحقيقة هي أن القليل منها فقط هي التي تكشف عن رغبة حقيقية وصادقة في ذلك. أما البقية، وهي الغالبة، فهي لا تفعل شيئاً ولا تخطو خطوة بأي اتجاه في هذا المجال دون أن تكون مدفوعة باللهفة الشخصية والطمع بالفتاة وثروتها. فبالرغم من أدعاء الجميع بأنهم يعملون لصالح الفتاة، فإن (مظلومة) تبقى حقاً مظلومة، كما كانت في حياة والدها (دبش) الذي تكمن طبيعة شخصيته وبخله وظلمه لابنته وحبسه لها في البيت وراء واقعها المأساوي. المقطع الآتي من حوار يدور بين المضمد (مختار) والشاب (هادي) يعكس الكثير من ذلك:
يقول (مختار):
“- يا ويلي على مظلومة. كل شيء من أجل مظلومة. فعلنا الأفاعيل من أجل مظلومة.
“ودق صدره، وبربر بشيء بينه وبين نفسه. قال هادي:
“- ومظلومة ما تزال مظلومة. محبوسة في البيت.
“- يا إلهي.. كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.”- الرواية، ص149().
إن تطور الأحداث وسلوك الشخصيات، وتحديداً مع (مظلومة) أو تعلقاً بها، تكشف عن المصالح الذاتية المختلفة، وتعزل النوايا والإرادات الصافية، وهي قليلة، عنها؛ ولا أظن أن التعرف على العراق وطناً وشعباً في هذه الشخصية أمر صعب. فلسنا بحاجة إلى أكثر من تأمل سريع لمسارح، أو مسرح أحداث رواية “القربان” ليكشف لنا ذلك ببساطة خطوطاً واضحة لمكان مألوف هو من عالم فرمان المتواتر الحضور، نعني المحلة البغدادية بأزقتها، وبيوتها، ومقاهيها، وأسواقها، بل حتى بأناسها الذين يكتسبون في هذه الرواية، إضافة إلى ذلك، بعض الخصائص الجديدة نسبياً. والواقع أننا إذا وضعنا هذه الخطوط العامة (المألوفة) جانباً، وأعدنا النظر في الرواية ببيئتها نفسها من زاوية أخرى لتلمسنا جواً غير مألوف، في العديد من جوانبه، سواء أكان ذلك في الكثير من شخصياتها أم في العلائق أم في الأحداث.. أم في غيرها من جوانب البيئة الروائية لـ”القربان”. فنجد، في كل مكان من الرواية، الموت والقتل والمعاناة والآلام والعنف والخوف والمطاردة والأسى والعزلة والوحدة.. بل إننا لا نكاد نجد شخصين متقاربين مع بعضهما أو ينتميان– إن صح التعبير– إلى بعضهما بشكل اعتيادي وبتجانس إنساني طبيعي، حتى لتبدو هذه السمات كلها وهذه الأجواء غير معقولة تماماً للقارئ، إذا كان لهذا القارئ أن يبحث عن المعقول في ما يقرأ استناداً إلى الواقع والحياة. ويبدو لي أن من الأسباب الرئيسة، إن لم يكن السبب الوحيد، وراء اللامألوفية هذه، هو الرمز أو الترميز المتعمد والمتكلف والمبالغ فيه الذي استخدمه الكاتب في روايته ليصور من خلاله العراق، وتحديداً بداية الستينيات، بما شهدته من صراعات ونزاعات عنيفة بين الجماعات والأحزاب السياسية المختلفة للسيطرة على الحكم والوصاية على الشعب العراقي. وهذا تحديداً الأمر الذي فرض على الكاتب، ما دام هو قد وضع في باله أصلاً رسم خارطة مجتمع العراق في ذلك الزمن بكل ما اكتنفه من تداخلات، رموزاً عديدة لم تكن لتنسجم في بعض الحالات مع بعضها البعض، ولم يكن بعضها ليجد مكاناً له في الرواية دون عمليات اختلاق وتهيئة وتكلف أحداث وشخصيات وأمور عديدة من الكاتب.
من أوضح رموز “القربان” وأهمها، شخصية (مظلومة) التي ترمز إلى (العراق) بلداً، وربما شعباً، وربما الاثنين معاً. وإذ يعكس الصراع الدائر حولها بين الشخصيات المختلفة التقاتل بين الشخصيات والجماعات السياسية التي كانت تتناحر في عراق بداية الستينيات، كما قد يعكس الصراعات الطبقية آنذاك، فقد كانت كل شخصية من هذه الشخصيات تدل أو ترمز إلى واحدة من هذه الكتل والمكونات البشرية السياسية والاجتماعية. وكان من النتائج السلبية لمحاولة فرمان استكمال هذا العالم الرمزي الذي عماده (مظلومة– العراق) أن عمل على إخضاع الحبكة لخطة وضعها على أساس الأحداث الحقيقية التي وقعت في مكان وزمن حقيقيين، وهو بذلك منع تطور الأحداث تطوراً فنياً مقبولاً في بعض مراحل تطورها. فلم تكن هذه المراحل من هذا التطور والأحداث مبررة ومقنعة دائماً. كما كان على الروائي، في المقابل وكما قلنا، أن يختلق أحداثاً مضافة، وأن يزيد من الوصف والحوارات ليستطيع بذلك تنفيذ رسم العالم الرمزي وفقاً للخطة التي يسير عليها. فلم يكن للقارئ أن يقتنع بعفوية في ذلك أو، على الأقل، بمنطقية فنية– إن جاز التعبير– بل لم تكن هذه الحوارات والوصوفات، في أحيان عديدة، طبيعية أو منسجمة بعضها مع البعض الآخر أو مع سير الأحداث. لنقرأ الحوار الآتي مثلاً، وفيه يمكننا ببساطة تحسس الاصطناع وفرض الرمز ومنح الأبعاد المختلفة بتعمد وصنعة واضحين، بينما كان مفترضاً ألا تكون مفروضة عليها بقدر ما تكون مكتسبة من ذاتها:
“- ياسر وقع على صك بياض..
“- على أي شيء؟
“- باع كل شيء لحسن العلوان، حتى مظلومة.
“- وهل هو صاحب المال حتى يبيعه؟
“- يعني.. اسكت وهاك دينار.
“- كثر الله خيره..
“- ومظلومة تظل مظلومة…
“- مظلومة ما شافت خيراً بالدنيا.”- الرواية، ص182.
ولنقرأ أيضاً المقطع الآتي، الذي يصف فيه الكاتب صبيّ مقهى وكرسيَّ سيده:
“وخلال ذلك استمر الصبي فتاح في عداوته للكرسي، وماذا يستطيع أن يفعل إذا كان يراه قبيحاً؟ جلس إلى تخت جانبي يراقبه بعد أن خلا من صاحبه، فتخيله كذلك الكلب القاعي أمام بوق الحاكي في الصورة المرسومة على أسطوانة رآها عند أستاذه القديم.. الكلب والمطرب. يسمع ويضمر ولا يتحرك. كم مرة خاطبه في غياب صاحبه بأشياء لا تخطر على بال! وقص عليه حكايات عرفها من جدته، وأخرج له لسانه، وخدشه من ظهره، والكرسي جامد بعينيه الصفراوين ورأسه المسطح وصدره النحيل.”- الرواية، ص243().
عندنا أن هذا كله منع عالم الرواية من أن يكون عالماً مقنعاً، ومنع شخصياتها من أن تكون غالباً شخصيات مقنعة، أو حية كتلك التي عشنا معها في روايات الكاتب السابقة. ولكننا يجب أن لا نعجل، بناءً على ما نراها مآخذ، في الحكم على الرواية بالخلل الناسف للعمل، فهذا ما لم يكن لهذه (المآخذ) أن تكونه، خصوصاً وأن أمامك قارئاً أن تغيّب الرمز والترميز، حتى وهو مفروض أو مقنع، عن وعيك وأنت تقرأ الرواية. بعبارة أخرى يبقى للرواية أن تُقرأ من زوايا أخرى غير هذه التي قد يوحي بها استقراؤنا، لنكون إزاء رواية بمعمار فني ينم عن الحرفية غير العادية لكاتبها حتى في ما يبدو هبوطاً نسبياً في فن فرمان فيها عنه في رواياته السابقة. إن هذه الحرفية لتتجسد في سيطرته على العالم الواسع للرواية، مثلاً، ومتابعة شخصياتها الكثيرة، بل حتى في بعض ترميزاته. كما أن فرمان قد استخدم، بشكل واع تماماً، بعض الأساليب التقنية والأسلوبية الجديدة، من ذلك مثلاً طريقة التنويه المبكر غير المباشر إلى أشياء ستحدث فيما بعد في الرواية، وهو ما يسمى اصطلاحاً بـ(التنبؤ) أو (الاستباق) Foreshadow في الرواية، الأمر الذي يذكرنا بما فعله ديستويفسكي مثلاً في “الجريمة والعقاب”، كاستخدام السكين في مرحلة متقدمة من الرواية تشير إلى جريمة قتل ستتم في مرحلة متأخرة منها. فمن ذلك يرد الحوار الآتي بين (مظلومة) وجارتها البلهاء (زنوبة)، والذي تبدأه الأولى، وهي تشم رائحة النفط في رأس الثانية قائلة:
“- زنوبة، ليش رائحة النفط في راسك تعطّ؟
“- أخاف من القمل.
“- القمل من الوسخ. وإذا غسلتِ لا تبقى قملة في رأسك.
“- تأوهت زنوبة، واستصعبت العملية.”- الرواية، ص70.
فالإشارة إلى النفط واستخدام (زنوبة) له للقضاء على القمل في رأسها، في هذا المقطع، هو تنويه بما سيحدث بعد ذلك، أو هو بالنسبة للقارئ توقع لما سيحدث. ففي نهاية الرواية تحترق (زنوبة) بعد أن تدرك النار شعرها، فتموت. والواقع أن إشارات غائب كانت ذكية وشبه تلقائية، بل لم تحمل أي تكلف، كالذي أحسسناه في استخدام بعض الرموز.
نقطة أخيرة نسجلها على روايتي “المخاض” و”القربان”، تلك هي أننا نستطيع أن نقول عن هذه المرحلة من مسيرة فرمان الروائية إذا كان الكاتب، وبناءً على بعض ما سجلناه فيما سبق، قد تراجع خطوة في جانب معين فإنه قد خطا في كتابة هاتين الروايتين خطوات إلى الأمام في جوانب أخرى تصب في تطور الرواية، ليس في مسيرته فقط، بل في مسيرتها العراقية. فهو يبقى في المرحلة الحالية من تجربته الفنية وكما يوحي بأنه سيبقى في الآتي من مراحلها صاحب الإنجاز الأبرز والأغنى. كما يجب أن نشير أيضاً إلى أننا حين نشخص ما يبدو مآخذ وسلبيات في أعماله وجوانب هبوط تتسلل في هذا الجانب أو ذاك، فذلك لأننا، بالدرجة الأولى، نتعامل مع غائب طعمة فرمان، الكاتب الأكثر نضجاً والكبير بما حققه وبما وصل إليه، وليس بوصفه كاتباً عادياً. فموقف مثل هذا يحمل أشياء كثيرة، ولا شك، تستوجب أن يكون الناقد، من حيث يدري أو لا يدري، أكثر صرامة في تناولاته وتحليلاته، وفي النهاية في أحكامه، إن كان له أن يحكم، وهو الأمر الذي كثيراً ما يقع حين يتعامل النقاد والدارسون مع أعمال كاتب بارز وفي بالهم قمة ما وصله أو حققه فنه متجسدة في عمل واحد أو مجموعة من أعماله، مما يؤدي ذلك في النتيجة إلى أن تُظلم أعماله الأخرى الأقل مستوى مقارنةً بتلك القمة.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *