صافية أم عكرة كانت مشاربها، فالأقمار الصناعية هي وجه من وجوه الغزو الثقافي، الذي أصبح قَدَراً لا مفرَّ منه في عصر المعلوماتية، وثورة الاتصالات، وبقدر تعلق الأمر بالقنوات الفضائية العربية، فإنَّ بعضها قد أضاف بشكل فعاّل إلى وعي المشاهد العربي، وساهم في تنوير حسّه السياسي عبر الكشف والتحليل والمتابعة لأحداث فورية ساخنة تمر بها أقطار وطننا العربي، وأخرى بائتة اصبحت في ذمة التاريخ. ولنا أن نضرب مثلاً بشأن ذلك بالقنوات الفضائية الأخبارية ذات الإلتزام بقضايا أمَّتنا العربية، التي تبَّنت موقفاً إعلامياً قومياً شريفاً من انتفاضة الأقصى في فلسطين ساهم مع الإنتفاضة، في تأجيج مشاعر العرب الوطنية وفي توحيد الشارع العربي من المحيط الى الخليج.هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإنَّ برامج أخرى للمنوعات والمسابقات والأغاني المصوَّرة تسهم مساهمة فعّالة أيضاً في تهميش هذا الوعي، إن لم نقل تشويهه وتدميره، خصوصاً لدى المرأة، باعتبار أنَّ المراهقات والفتيات وربّات البيوت يشكِّلنَ شريحةً كبيرةً جداً من مشاهدي ومتابعي ومدمني هذه البرامج الفضائية، وأكثر ما يلفت النظر ويثير حفيظة الأسرة، في هذا الاتجاه، هو تقديم نماذج مشوهَّة للمرأة العربية والإنسان العربي بشكل عام، من خلال تصَّنع الخِفّة الشديدة، وتشويه اللغة العربية، والإتيان بحركات غير لائقة، وارتداء الملابس الفاضحة، التي لا تعترف بفصول العام الأربعة. هذا النزوع إلى ضرب من الإباحية في التصرف والكلام، لا يمُّت الى احترام النفس واحترام المشاهد بصِلة. إنَّما يمُّت الى شكليات فجّة مشوهَّة غير واضحة المعالم، والتي تتحرك بغرابة مخلوقات المسلسلات المدبلجة، فنراها تتمايل، في الأغنيات المصوَّرة أو (الفديو كليبات)، فيظهر المطرب (العربي)، وخلفه راقصات ( مدبلجات ) يتحركنَ بإيماءات ذات دلالات لا تخفى على المشاهد اللبيب .أو تظهر المطربة إياها، وقد تدبلجت هي الأخرى وطار عقلها في الهواء، فعامت على هوى هذا السيل العرمرم من الخصور والبطون والأكتاف العاريّة، وعندما يسألونها، أو يسألونه، في لقاء فني (مهم جداً) عن آخر أعمالها أو أعماله، تقول، أو يقول: الحمد لله الذي وفقّها، أو وفقَّهُ، إلى تصوير هذا (الكليب ) الذي نجح نجاحاً منقطع النظير.ومما يزيد الطين بلة أنَّ الكثير من الفنانات العربيات، اللواتي يُفترَض بهنَّ، أن يكُنَّ قدوة في ملبسهن ومظهرهن ومجلسهن ومنطقهن لأبناء وبنات الجيل العربي (الصاعد )، انضممنَ في لعبة النجومية هذه فَرِحنَ يعتقدنَ أنَّ عيوب النجوم مزايا، وأنَّها تميزها وتزيد من رصيدها في بورصة النجوم… فرأينا كيف طلعت علينا بعض النجمات وهُنَّ يتبهرجن بمبالغات وأزياء لا تمُّت إلى ضرورات العمل الدرامي بِصِلة، وإنَّما هي من ضرورات قفازات المخمل، التي يرتديها بعض كُتّاب السيناريو، فلا يلمسون بأصابعهم أوتار المشاهد العربي الحسّاسة، إنَّما يقدِّمون لهُ أعمالاً قريبة الشبه بالمسلسلات المدبلَجة، فيها بهرجة القصور، وترف الرفاهية، ومفاتن الأجساد، عبر خط درامي أحياناً مُقتَبَس من فيلم أجنبي مُصَطنع ومتكلِّف في انتمائه الى عالم (وردي) فيه الدنيا ربيع، والحياة عرض أزياء، أو حفلة تنكرية، أو ربما خيرية لبيع مناديل المشاهير ومجوهراتهم.إنَّها ظاهرة آخذة بالإنتشار في بورصة المسلسلات التي يعتقد نجومها كتّاباً و أبطالاً ومخرجين أنَّ رفعة الشأو في (زغللة العيون)، وهذا أبعد ما يكون عن النبض الحقيقي للمشاهد العربي، الذي يقدِّر عالياً هويته الثقافية، ولا يحترم من يحاول مسخها أو استبدالها بهويات طائشة أو مارقة لا تمُّت إلينا ولا إلى تقاليدنا بِصِلة.ميسلون هادي مجلة ألف باء،العدد:١٧٢٩ ص٢٩١٤-١١-٢٠٠١
شاهد أيضاً
النصف الآخر للقمر
ميسلون هادي مجلة الأديب العدد 2 2025 القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا …