فليحة حسن بعيداً عن العنكبوت.. قريباً من الحمامة.
ميسلون هادي
ولدت وعاشت في مدينة النجف، وانتمت إلى بيئة الجنوب العراقي قلباً ومظهراً، ولكن هذا لم يمنع عقلها من الترحال بين عوالم أخرى بعيدة، والتمرد بخيالها على واقع القمع والتضييق ضد الإنسان من جهة، وضد المرأة من جميع الجهات، فكانت قيثارة الجنوب التي تكتب ألمها شعراً ونثراً وحكايات ذات مذاق مختلف ومثير للدهشة. وإذا كانت تقول بأن الجنوب بالنسبة لها هو نكهة الحياة، وإذا كانت قد اكتسبت منه الحزن الجنوبي الخلاق، فإن كتاباتها تقول بأن أبطالها يكرهون هذا الحزن.
منزوية عن الأضواء وصخب الحضور الإعلامي، وكتاباتها تفصح عن حالة الاغتراب التام عن المجتمع المنغلق الذي تعيش فيه.. ولم أكن لانتبه لها لولا أن قرأت روايتها (بعيداً عن العنكبوت.. حارستي حمامة، واكره مدينتي).. وأنا أكره قراءة الكتب ألكترونياً، ولكن عنوان الرواية الغريب استوقفني وأثار انتباهي، فبدأت اقرأها لأسكتشف ما وراء هذه العتبة من عتبات النص، ومثلما توقعت فقد وجدت خلفها غربة كاملة في جزيرة معزولة وضعت فيها الكاتبة أبطالها عن عمد، وتركتهم يختبرون ألم الاغتراب وفداحة الاختلاف عن الآخرين. وعندما بحثت عن باقي نتاجات هذا الاسم الجديد (بالنسبة لي) على شبكة الانترنت أكتشفت أن فليحة حسن شاعرة بالأساس، وأن أغلب قصائدها تحمل هاجس الطلاقة الكونية، والإحساس بالرفض، واللا انتماء للواقع المعاش.
هذه الرواية وان كانت تنتمي الى عالم الخيال بفكرتها الغريبة، إلا إن حزنها وألمها المتخيل هو ألم حقيقي يتجسد أمام القارئ عبر حياة توأم سيامي (ذكر وأنثى) يستمدان حياتهما من حياة جدتهما، المرأة الوحيدة التي ترعاهما، والتي تعاني بدورها قهر الأسرة والمجتمع وتداعيات الحروب والتجارب الكارثية التي مرت بها. الرواية صغيرة من حيث الحجم، لكنها كبيرة من حيث المبنى والمعنى ومكتوبة بلغة روائية مشوقة منذ سطرها الأول، وهذا ما لم أتوقعه من شاعرة قد تكون هذه الرواية هي روايتها الأولى أو الثانية، وبالتالي ستختلط لديها أوراق الحقيقة مع نسائم الربيع الطرية. إلا أنه لم تكن هناك لغة شعرية أو غنائية تشكل انتقاصاً من الرواية، أو تلغي الحدود بين الأجناس بطريقة مزعجة، بل وجدت ورأيت تمكنها من متطلبات الفن الروائي الصعبة، وهذا التمكن كان واضحاً في تلك الرواية التي شدتني إليها بقوة، فكنت أفارقها على مضض، وأتشوق للعودة الى قراءتها لمعرفة ماذا سيفعل التوأم(المسخ)، وماذا سيحدث لهما، وأية نهاية ستكون بانتظارهما، بل أني كنت أتخيل المكان الذي يعيشان فيه، وأتضايق معهما من صعوبة الحركة، وأفرح لفرحهما، واحزن لحزنهما..
لقد كتبت فليحة حسن رواية متميزة، ورسمت شخصية الجدة بإتقان كبير، وقامت بمناورات حاذقة في تطويل بعض الحوارات، وسرد بعض التفاصيل الثانوية من أجل زيادة جرعة التشويق والترقب حتى إن الرواية تقطع الأنفاس أحياناً في قفزها من حدث لآخر تاركة القارئ مشغول البال بالحدث المجهول الأهم: ماذا يحدث للتوأم الآن؟؟ أو ماذا سيحدث لهما إذا غابت الجدة، أو تأخرت في الحمام الشعبي الذي تعمل فيه؟؟ أو ماذا لو لم تعد ذات يوم إلى البيت؟؟ بل إن القلق أمتد إلى السؤال المسكوت عنه وهو ماذا لو ماتت الجدة؟؟ كيف سيكون مصير التوأم؟ السؤال الأخير توقعت إجابته في نهاية الرواية بأن يسقط البيت المتهالك، وتموت الجدة وينفضح السر، ووضعت لنفسي عدة احتمالات بينها ما هو خيالي أو غير واقعي كأن ينفصل التوأمان بعد موتهما بفعل سقوط البيت، وهو تصور أملاه علي كوني كاتبة وقارئة استهتوتها فكرة الرواية الغرائبية، وتمنت أو خافت بأن تفرط الكاتبة بها فتضع لها نهاية باهتة..
بصراحة النهاية لم تكن باهتة، وكانت جميلة وإن لم تكن مشبعة.. كأنما جاءت سريعة بعض الشئ، وأنا أعلم بأنها ليست نهاية بمعنى نهاية، وأن الكاتبة أرادتها بتلك الصورة كجزء من وضع مأساوي مستمر يرمز الى وضع المدينة التي يفترض أن تكون مكروهة.. وتكرار مفردة (دم دم دم) كان ذكياً وموفقاُ، وهو ما جعل النهاية ممتازة بشكلها الحالي، ولكن كان يمكن للروائية أن تحشد، قبل فتح الفتحة في الجدار، بعض المشاهد والتراكمات لتصعيد التوتر والترقب، وهو مما أحسنت فيه في فقرات سابقة..
شيء آخر تمنيت أن أجده في الرواية وهو ما يمكن سرده لإرواء فضول القارئ عن ملابسات ومسوغات بقاء الأمر سراً.. (كأن تذهب بهما الجدة إلى مدينة أخرى لا يعرفهم فيها أحد).. فمثل هذه الحالة الغريبة للتوأم ستكون معروفة وستشتهر فور حدوثها في المستشفى.. وكان يجب تبرير ذلك بشكل أكثر إقناعاً، ولربما بتهيئة بعض الأجواء الملائمة لمثل هذه الحالة، وعدم المرور سريعاً على بقاء هذا السر سراً لعدة سنوات، كما لم يكن مقنعاً عدم وجود أي أقارب أو حدوث اي اقتحام لهذه العزلة طويلة الأمد داخل حي شعبي؟؟ ولو كانت فليحة حسن قد وضعت مثل هذه الاقتحامات المفاجئة للبيت، وثم توسعت في كيفية التخلص من تلك المواقف المقلقة، لساهم ذلك في زيادة جرعة التشويق في الرواية، وأيضاً في زيادة حجمها إلى المعقول.. وإلا كان من الأفضل جعل التوأم في الخامسة أو السادسة من العمر (مثلاً) لاختصار مايمكن قوله من مؤاخذات بهذا الشأن؟؟ صحيح إن الكاتبة أختارت العمر المثالي لطرح أفكارهما ومشاعرهما باستفاضة، ولكن الحاجة الى الآخرين أو احتمالات الاحتكاك بهم تزداد مع تقدم العمر، وكان يمكن توضيح ذلك وتخريجه بمختلف الحيل والحلول لتكون الرواية أجمل وأكمل، كما تمنيت أن تكون هناك بعض المعلومات الطبية عن حالتهما الغريبة، وتوصيف أكثر للشكل الجسماني الذي هما عليه.
هذه الملاحظات السريعة لا تمنع من القول بأن الرواية مغامرة جميلة وفريدة من نوعها، وكم أحببت أسلوب الكتابة فيها، والذي يقترب من حكايات الأطفال، وهذا ما يستهويني في الكثير من الأعمال التي أكتبها، وما يجعلني أتوقع للشاعرة والروائية فليحة حسن أكثر مما حققته بكثير.
شاهد أيضاً
الأحلام لا تتقاعد
لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …