وقفات قصيرة جداً
عند روايات قرأتها
كراسة كانون: محمد خضير
بعد خمسة عقود من العيش وسط عوالم متخيّلة دارت فيها أحداث المئات من الروايات التي قرأتها، بدءاً بأول رواية وكانت “حمار الحكيم” لتوفيق الحكيم، عام 1967، بدأتُ سلسلة وقفات قصيرة مستلةً من كتاباتي المنشورة وغير المنشورة أو ملاحظاتي التي درجت على تسجيلها في المئات من البطاقات عن تلك الروايات. وهي وفقات بسيطة ولا أدّعي أنها نقدية، خصوصاً أن بعضها قد يعود إلى بداية العشرينيات من عمري، وغالبيتها وليست كلّها ستكون عند روايات عراقية. وقفتي اليوم عند رواية “كراسة” (1972)، لمحمد خضير (البصرة/ 1942).
محمد خضير جاءت مجموعته القصصية الأولى “المملكة السوداء”- 1972- حدثاً لتشكل علامة فنية، إلى جانب أبرز المجاميع القصصية العراقية والعربية، ومن أشهر وأهمّ قصصها “الأرجوحة”، و”المملكة السوداء”، و”تقاسيم على وتر الربابة”. ومن مجاميعه القصصية الأخرى “في درجة 45 مئوي”- 1978- و”رؤيا خريف”- 1995. عمله الذي نتوقف عنده هنا يكاد يكون جنساً بذاته فيه من الرواية شيء.
ربما هي ليست رواية خالصة، بل لنقل هي نص إبداعي خاص، ولكنه نص ينتسب بالتأكيد بدرجة ما إلى الفن الروائي. الكاتب أو الراوي يستعرض لوحات مختلفة لفنانين عالميين مختلفين من منظور واحد ومنطلق واحد وبما يبدو لنا نَفَس واحد، هو منظور الراوي أو الكاتب ومنطلقه ونَفسَه، وكأنه يريد من ذلك أن يصل بنا إلى كراسته التي تتمثل العدوان الأمريكي ووحشيته ووحشية الحروب التي شهدها العراق وغير العراق. وبرأيي أن الكاتب قد أراد من الإغراق في الحديث عن الفن العالمي وبعض أشهر فنانيه، ولاسيما بيكاسو، في (الغيرنيكا) وغيرها، عقدَ مقارنة فكرية وإنسانية وذوقيه، وربما ساخرة وموجِعة، ما بين الحرب ومآسيها ووحشية الإنسان الذي يصنعها من جهة، وطبيعة الفن وجماليته ورقيّه وتعاليه ضمناً على الوحشية التي تُستلهم منها اللوحات ولكن بحلم الإنسان وبتعبير مضاد للحروب ووحشيتها من جهة أخرى. من ملفّاتي الخاصة عن الروايات المقروءة، الملف الخاص برواية “كراسة كانون”، لمحمد خضير.
“وعلى نور فانوس قديم، أضاء لعينيّ صفحات الرجاء، واصلتُ الإنصات إلى (حكمة الغرب) و(حكمة الإشراق)، والاتصال بالعقول الأسيرة في كهوف التعصب والجهالة. يستطيع ضوء شمعة أن يقاوم ظلام اليأس، وهوائي يصمد بوجه العاصفة فيقرّب أغنية أو رسالة بلغة أخرى، وفانوس أن يكشف وثائق وصوراً تكفي لبدء عمل جديد أدخل به حقل الذكرى البشري”. من رواية “كراسة كانون”، لمحمد خضير، ص44.
“أما حين تتغلب مشاعر الغضب والاحتقار على روح الاحتفال الإيروتيكي، فإن بيكاسو برسم (الغورنيكا) جامعاً فيها عناصر الواقع المشوّهة للبلدة الأسبانية الصغيرة التي قصفتها الطائرات الألمانية التحالفة مع فرانكو عام 1937، أو يحاكي غويا في لوحة (مجزرة في كوريا، 1951)، ولن يغادر بيكاسو في الحالين ساحة العرض الجماعي المستورة في أعماق الحلم الأسباني الذي حمله معه إلى فرنسا”. من رواية “كراسة كانون”، لمحمد خضير، ص21.