وقفات قصيرة جداً
عند روايات قرأتها
خمسة أصوات: غائب طعمة فرمان
بعد خمسة عقود من العيش وسط عوالم متخيّلة دارت فيها أحداث المئات من الروايات التي قرأتها، بدءاً بأول رواية وكانت “حمار الحكيم” لتوفيق الحكيم، عام 1967، بدأتُ سلسلة وقفات قصيرة مستلةً من كتاباتي المنشورة وغير المنشورة أو ملاحظاتي التي درجت على تسجيلها في المئات من البطاقات عن تلك الروايات. وهي وفقات بسيطة ولا أدّعي أنها نقدية، خصوصاً أن بعضها قد يعود إلى بداية العشرينيات من عمري، وغالبيتها وليست كلّها ستكون عند روايات عراقية. وقفتي اليوم عند رواية “خمسة أصوات” (1967)، لغائب طعمة فرمان (بغداد/1927-1990).
غائب طعمة فرمان: يكاد النقاد والدارسون ومؤرخو الرواية العراقية يُجمعون على أن غائب طعمة فرمان هو رائد الرواية الفنية في العراق، وروايته الأولى “النخلة والجيران”- 1966- تقسم تأريخ الرواية العراقية إلى ما قبل وما بعد. ومن أشهر رواياته إلى جانب هذه الرواية الرائدة، “خمسة أصوات”- 1967- و”المخاص”- 1974- و”ظلال على النافذة”- 1979.
“تأتي (خمسة أصوات)– 1967– لتختلف، في بعض جوانبها، عن رواية فرمان الأولى، رغم الاتجاه الواقعي الواضح الذي يجمع العملين، وهو الاتجاه نفسه الذي لن يتخلى عنه الكاتب طيلة مسيرته الأدبية. وأول ملامح الاختلاف التي تلفت النظر في العمل الجديد هو استخدام الكاتب شكلاً مختلفاً تماماً عن الشكل التقليدي لعمله الأول، مصحوباً ببعض الأساليب التقنية الجديدة. فهو يقدم قصة الرواية– أو ربما جاز القول قصصها- من خلال خمس شخصيات تمثل مثقفي عراق الخمسينيات. وهو بذلك يقدم لنا صورة بانورامية للعالم الذي من الوضح أنه يريد نقله فنياً لنا، من خلال تصويره للعوالم الفردية لهذه الشخصيات الخمس الرئيسة وهمومها التي تعكس بالتالي هموم الفئة أو الفئات المثقفة في عراق تلك الفترة. ونحن نقول فئة او فئات، فلأن عوالم هذه الشخصيات هي، من جهة أخرى، أجزاء عالم واحد، هو عالم عراق تلك الفترة منظوراً إليه من مثقفيه”. من كتابي “الرواية في العراق وتأثير الرواية الأمريكية فيها”.
“جلس إبراهيم إلى طاولة منزوية. أخرج علبة سيكائره ودخن سيكارة، وترك العلبة على الطاولة، وتابع شريط أفكاره. سيخلّف العزوبة لسعيد الذي لم يجد طريقه حتى الآن، ولبودلير العصر [شريف] الذي لا يؤمن بالعقود الفردية، ولحميد الهائم المتدلّه بشبابه، ولعبد الخالق الذي لم يجد حتى الآن فتاةً تجمع الفضيلتين: الجمال والثقافة. وسيتزوج هو، سيخرج من خط بلقيس، والسهر خارج البيت، ويستعيض عن دفء الخمرة المحموم بدفء جسد إنساني. وأية تجربة جديدة في الزواج! ستكون له في بيته امرأة.. زوجة.. قرينة.. كلمة جديدة تضاف إلى قاموس حياته”. من رواية “خمسة أصوات”، لغائب طعمة فرمان، ص141-142.