وقفات قصيرة جداً
عند روايات قرأتها
حياة قاسية: شاكر خصباك
بعد خمسة عقود من العيش وسط عوالم متخيّلة دارت فيها أحداث المئات من الروايات التي قرأتها، بدءاً بأول رواية وكانت “الحمار الحكيم” لتوفيق الحكيم، بدأتُ سلسلة وقفات قصيرة مستلةً من كتاباتي المنشورة وغير المنشورة أو ملاحظاتي التي درجت على تسجيلها في المئات من البطاقات عن تلك الروايات. وستكون غالبية وقفاتي وليست كلّها عند روايات عراقية. وقفتي اليوم عند قصة “حياة قاسية” الطويلة (1959)، للقاص شاكر خصباك (بابل/ 1930-2018).
شاكر خصباك أستاذ الجغرافية هو أحد أهم كُتّاب جيل الخمسينيات القصصي، إلى جانب عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر وغائب طعمة فرمان وآخرين. قدم للمكتبة العراقية والعربية ما يُقارب الثلاثين رواية ومجموعة قصصية، إضافة إلى مؤلفاته في الجغرافية.
“إذا لم تكن هذه القصة الطويلة امتداداً أو تطوراً لقصة خصباك القديمة “عهد جديد”، فإنها، بلا شك، أقرب منها إلى الفن الروائي. إن “حياة قاسية”- 1959- هي امتداد موضوعي وفني لتوجه خصباك في عموم قصصه، المنعكس بشكل خاص في مجموعته الثانية “عهد جديد” والمتمثّل في اعتماده على الواقعية أسلوباً وتعاملاً مع الموضوع، وفي اختياره الموضوعات الاجتماعية المنبثقة من البيئة الشعبية، مع ميل واضح إلى النفس الانتقادي. يتمحور خط القصة حول شخصيتها الرئيسة (حليمة) ذات الثلاث عشرة سنة، أو بالأحرى حول معاناة هذه الفتاة في البيت. فهي، فوق تحمّلها جل أعباء البيت، تعاني من سوء معاملة أخيها الصغير الذي لا يكف عن إيذائها بعد أن كانت قد تكفلت بجل احتياجات تربيته، وموقف أمها المساند لأخيها، وإدمان الأب على الأفيون مما يجعله سلبياً عديم الفعل. ومن هذا الواقع ينطلق خيط الأحداث لينسج القصة، فتُخدع (حليمة) بابن البقال (فتاح) حين تبني على كلمة تسمعها منه أحلاماُ، معتمدة أنه يحبها، وتسير القصة في هذا الاتجاه إلى أن تكتشف أن غرض (فتاح) هذا جسديٌ، فيؤدي ذلك إلى انهيار أحلامها ويدفعها إلى الانتحار برمي نفسها إلى النهر.” من كتابي “التجربة الروائية في العراق في نصف قرن”.
“نهضت حليمة بتثاقل وهي تحسّ بإعياء شديد، ونفضت ذرات التراب عن عباءتها، ثم التفّت بها وسارت صوب جسر الصرافية، وقطعتْ الشارع المؤدي إلى الجسر بخطوات بطيئة. ولما بلغت الجس توقفت عن السير. كان السكون من حولها عميقاً والنهرُ ينساب بهدوء إلى مقرّه الأبدي. حدّقت في المياه المنسابة من تحتها وقد انعكست عليها أضواء المصابيح الخافتة. تأمّلت أشجار النخيل الشامخة المتلفّعة بالصمت، ودار رأسها واشتدّ إعياؤها، وكان الطنين يملأ أذنيها، ثم رفعت عينيها إلى صفحة السماء.. هناك وراء تلك النجوم الملتمعة، وفي أعماق تلك القبة الزرقاء يحيا البشر حياة هانئة خالية من الظلم والبهدلة والخداع، وخُيّل إليها أنها تحلّق بجناحين عظيمين نحو النجوم وتتغلغل بينها. وفرّت من خيالاتها على غناء ينبعث من الأكواخ القريبة يمزّق السكون في حزن: يُمّة يا يُمّة.. جبتيني للضيم.. وانفجرتْ في بكاء مرّ آسر، وتلاحقت شهقاتها الملتاعة.” من قصة “حياة قاسية” الطويلة، لشاكر خصباك.