وقفات قصيرة جداً
عند روايات قرأتها
بيت على نهر دحلة: مهدي عيسى الصقر
بعد خمسة عقود من العيش وسط عوالم متخيّلة دارت فيها أحداث المئات من الروايات التي قرأتها، بدءاً بأول رواية وكانت “حمار الحكيم” لتوفيق الحكيم، عام 1967، بدأتُ سلسلة وقفات قصيرة مستلةً من كتاباتي المنشورة وغير المنشورة أو ملاحظاتي التي درجت على تسجيلها في المئات من البطاقات عن تلك الروايات. وهي وفقات بسيطة ولا أدّعي أنها نقدية، خصوصاً أن بعضها قد يعود إلى بداية العشرينيات من عمري، وغالبيتها وليست كلّها ستكون عند روايات عراقية. وقفتي اليوم عند رواية “بيت على نهر دجلة” (2006)، لمهدي عيسى الصقر (البصرة/ 1927- 2006).
مهدي عيسى الصقر أحد أعلام جيل الخمسينيات في القصة القصيرة. ولكنه بدأ الكتابة الروائية عام 1988 برواية “الشاهدة والزنجي” وبعد بضع سنوات، وتحديداً بكتابة روايات مثل “رياح غربية رياح شرقية” و”بيت على نهر دجلة” صار أحد أهم بضعة روائيين في تأريخ الرواية العراقية.
“فهل هذا الذي أرادت الرواية أن تعبر عنه، من خلال النهاية التي تأتي نتيجةً للرواية كلها، هو أن تكون صرخة بوجه هذا العالم الذي عالجته، وحكماً على عالم رأت أنه لم يعد إنسانياً، وإلفات نظرنا إلى المأساة أو الكارثة القادمة؟ وهل هي تنبؤ بمصير الإنسان في عراق الحرب والذي يتمثل في الأجواء وانهيار الإنسان وفقدان القيم والذمم، والصراع على كل شيء، كذلك الذي رأيناه بين الأب والأم على تعويضات استشهاد ابنهما. بعبارة أخرى، ولأننا نكاد نجد عالم الرواية في الواقع من حولنا، تبدو الرواية بنهايتها- كلام الطبيب وفعله، ورغبة (سعيد) المجنونة وتنفيذها- وكأنها صوت قوي يقول: ليس من مفر، فكلّنا على سفينة غرقى!..”. من كتابي “هذا الجانب من مكان صاخب”.
يقول الطبيب النفسي: “تشوف هذا الدولاب؟ ما عاد في أدراجه متسع لمريض جديد. المرضى يملؤون الأرض والسماء، ويحاصرونني. تصور أنهم ينامون بيني وبين زوجتي على السرير، يجلسون معنا، على مائدة الطعام، يذهبون معي إلى النادي، يمشون معي في الطريق، يزاحمونني داخل السيارة، ويسدون عليّ المنافذ، عيونهم تلاحقني، عيونهم تسائلني وتستنجد…).
“يستل عضوه، ويبول على أحزان مرضاه، وهو يدور حول التل الصغير، كي يرشهم من كل جانب، ويضحك متشفياً…
“(والآن سأضع فوقهم أوراقاً يابسة نظيفة، وبطاقات لم تتسخ بعد، وأشعل فيهم النار!)”. من رواية “هذا الجانب من مكان صاخب”، لمهدي عيسى الصقر، ص190- 192.