وقفات قصيرة جداً
عن روايات قرأتها
بابا سارتر: علي بدر
بعد خمسة عقود من العيش وسط عوالم متخيّلة دارت فيها أحداث المئات من الروايات التي قرأتها، بدءاً بأول رواية وكانت “حمار الحكيم” لتوفيق الحكيم، عام 1967، بدأتُ سلسلة وقفات قصيرة مستلةً من كتاباتي المنشورة وغير المنشورة أو ملاحظاتي التي درجت على تسجيلها في المئات من البطاقات عن تلك الروايات. وهي وفقات بسيطة ولا أدّعي أنها نقدية، خصوصاً أن بعضها قد يعود إلى بداية العشرينيات من عمري، وغالبيتها وليست كلّها ستكون عند روايات عراقية. وقفتي اليوم عند رواية “بابا سارتر” (2001) لعلي بدر (1964).
علي بدر أحد أغزر الروائيين العراقيين إنتاجاً، فقد زادت التي أصدرها خلال سبع عشرة سنة على الخمس عشرة رواية، مع أنه تراجع صوتاً وحضوراً من حوالي عشر سنوات.
في ظني أن علي بدر، في رسمه لشخصية (عبد الرحمن)، الذي يسميه فيلسوف الصدرية، والذي كان يعشق سارتر حد تقليده في كل شيء في ولشخصية تابعه (إسماعيل حدوب) في هوسهما بالفلسفة الوجودية، يستحضر فنياً (دون كيشوته) وتابعه (سانشو بانثا). فكما نظر بطل سيرفانتس، من قبل، إلى هؤلاء الذين كانوا يمجّدون، في عصره، الفروسية والفرسان حد الهوس الذي يُخرجهم عن الواقع والمعقولية، نظر علي بدر إلى فئة كبيرة من مثقفي العراق، ولاسيما ما بين الخمسينيات والسبعينيات، ورأى ما يراه آخرون من أشكال هؤلاء المثقفين ونقاشاتهم وكتاباتهم وقلقهم وهمومهم وجدالاتهم المظهرية والاستعراضية، وتحديداً الشغوفين منهم بموظات التيارات الغربية حدّ الهوس فيسخر منهم، ولكن بحب. ومن جميل سخرية رواية “باب سارتر” أن كاتبها أو راويها السارد يتكلم عن هذه الفئة شبه الكاريكتيرية بكل جدية، وهو يحقق في النتيجة السخرية الدالة والمعبرة عما هو أبعد منها بكثير، بل ربما إلى ما يعاكسها، كما يفعل حين يتكلم عن فلسفة بطله ورؤاه الفلسفية وآرائه في الثقافة والفلسفة انطلاقاً من (فهم) هذا البطل لذلك كله وكأنه فهم لا يضاهيه فهم. وهو في الحقيقة أو النتيجة يقدم هوسه غير العقلاني، بوصفه عندنا نموذجاً من تلك الفئة المثقفة على أرض الواقع، التي تتكلم بكل ما هو غير مفهوم، وتُعجب بكل ما هو غير مفهوم، تماماً كما يُعجب البعض بإبراهيم الجعفري لأنه لا يتكلم إلا بما لا يُفهم. (ملاحظات خاصة).
“سارع إسماعيل حدوب لتسجيل هذه الملاحظات التي دوّخته، هذه الكلمات غير المفهومة، هذه الملاحظات الملغّزة، لا لشيء إلا لأنها ملاحظات فلسفية. لم تكن فلسفتها بحاجة إلى برهان على الإطلاق، إنما كانت تدلّ على نفسها، لا من خلال تعقُّدها وحسب، إنما من خلال صياغتها أيضاً، ولذا كان إسماعيل لا يفهم الفلسفة إلا من كونها لا تُفهم، ولا يعرف الفلسفة إلا من من كونها لا تُعرف، وهكذا كان غموض كلمات عبد الرحمن يجذبه، يسحره، كان عبد الرحمن يقول أشياء غير مفهومة، غير معروفة، وكان يمنحه هذا الكلام نوعاً من التسامي والتفوق على أقرانه، لأنه غائب في بخار فلسفي”. رواية “بابا سارتر” لعلي بدر.