وقفات قصيرة جداً
عند روايات قرأتها
السجين: أنيس زكي حسن
بعد خمسة عقود من العيش وسط عوالم متخيّلة دارت فيها أحداث المئات من الروايات التي قرأتها، بدءاً بأول رواية وكانت “حمار الحكيم” لتوفيق الحكيم، بدأتُ سلسلة وقفات قصيرة مستلةً من كتاباتي المنشورة وغير المنشورة أو ملاحظاتي التي درجت على تسجيلها في المئات من البطاقات عن تلك الروايات. وستكون غالبية وقفاتي وليست كلّها عند روايات عراقية. وقفتي اليوم عند رواية “السجين” (1961)، لأنيس زكي حسن (بغداد/ 1937).
يغلف شخصية أنيس زكي حسن شيء من الغموض، فلا نعرف عنه إلا القليل، ويقول عنه أنيس منصور: “لم أنس أديباً عراقياً اسمه أنيس زكي حسن ترجم كتاب (الغريب) للأديب الإنجليزي كولن ويلسون، ولكنه اختار كلمة موفقة جداً، فبدلاً من الغريب جعلها (اللامنتمي)… وأدهشني كيف عثر عليها.. وذهبتُ إلى بغداد وحاولت أن أعرف أين هو”. وهو عندنا سابق لزمنه في كل شيء، في الوعي الثقافة والترجمة والتأليف. لقد ترجم العديد من الكتب، وكتب روايتين سبقتا العديد من الروائيين العرب في اعتماده فيهما فنياً على تيار الوعي وفكرياً على الوجودية والتغريب، مع هيمنة للذاتية، وهما: “الأخطبوط”- 1959- و”السجين”.
من يقرأ هذه الرواية ورواية الكاتب الأخرى “الأخطبوط” يُدرك أن إعجاب كاتب كبير مثل أنيس منصور بترجمة أنيس زكي حسن لكتاب “اللامنتمي” لكولن ولسن وباشتقاقه العذب والذكي والدقيق لما يقابل عنوان كتاب ولسن بالعربية، ليس بمبالغ فيه. فهذه الرواية مكتوبة بأسلوب فذ تعزّزه الريادة شبه المنفردة في الرواية العراقية، وإلى حد كبير العربية، في استخدام التداعي وتيار الوعي، وبشكل ينمّ عن سعة قراءة واطلاع وفهم لما صارت عليه الرواية في الغرب ولأساليبها وتقنياتها الحديثة، ولمعرفة كتّابات لم يكن إلا القليل من النخبة الثقافية العربية مشبّعة بقراءتها، مثل كتابات ولسون وجويس وولف وكامو وسارتر ودي بوفوار وبروست وكافكا وآخرين فرتهم النخبة مثل فوكنر وهمنغوي وديستويفسكي، مما نعتقد أن الكثير منها ظهر في كتاباته، ومنها روايته هذه. والحقيقة أني أرى أن أنيس زكي حسن عموماً، وفي هذه الرواية خصوصاً، وكما هو شأن ياسين حسين وشاكر جابر، قد ظُلم بغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي، فعبقرية فرمان في الكتابة الروائية وإلى حد كبير القصصية، وعبقرية التكرلي في الكتابة القصصية وإلى حد كبير الروائية قد سحبتا جلّ نقاد الرواية العراقية ودارسيها، وأعترف بأني منهم، من الالتفات إلى كتاّب آخرين ظهروا نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، ومنهم أنيس زكي حسن وياسين حسين وشاكر جابر، وهو الأمر الذي أتمنى أن يُردّ الاعتبار إليهم كتابةً ونقداً، ولاسيما بوصفهم إلى جانب فؤاد التكرلي، وإلى حد ما شاكر خصباك، قد مهّدوا لانطلاق الرواية الفنية الذي تم على يد غائب طعمة فرمان في “النخلة والجيران” و”خمسة أصواب”، وكل ذلك دون أن نعني المسّ بريادة فرمان.
“كان يحاول أن يخدع نفسه، ويقنعها بأن الألوان موجودة، هناك وراء الآفاق، وكان يضع على عينيه منظاراً، ويحاول أن ينفذ إلى أعماق الأشياء، جدران الأشياء المنيعة المكفهرة حوله، ولكنه يستقيظ من وهمه بين الحين والحين، ولا يعود هناك منظار ولا ألوان ولا أطياف ولا براقع، وإنما يجد نفسه وجهاً لوجه مع الرعب، أمام الجدران المنيعة الحاقدة، ويمسك بمعول، ويحاول أن يهدم تلك الجدران، ثم ينتبه إلى نفسه، ويجد أنه إنما يحاول أن يُنهي الوجود باكمله، ويكفّ عن ذلك يائساً، ثم لا يعرف ماذا يفعل”. من رواية “السجين” لأنيس زكي حسن، ص11.