عندما يصمت النَّص

عندما يصمت النَّص.

ميسلون هادي

في البدء، وقبل كل شيء، كان بِوّدنا اأن يُتوِّج كاتب مسلسل (سفر ومحطات)، الذي امتعتنا حلقاته بحق، أن يُتوِّجَ عَمَلَهُ هذا باختيار عنوان آخر غير العنوان الحالي الذي ظهر به والذي لا يُفصِح عن حِسِّ الدراما الجَدَليّ وليسَ لهُ وقع الأسماء الرومانسية المؤثِّرة ذات الرنين الخاص في النفس والقلب والذاكرة كأن يكون، إن جازَ لي الإقتراح، ماضي امرأة أو حياة إمرأة أو شباب إمرأة أو إمرأة في دوامة أو إمرأة على الطريق وهذه العناوين ليست مُقترَحة عملياً لهذا المسلسل لأنَّ بعضها يعود إلى أفلام وروايات قديمة إنَّما قصدتُ بكتابتها تقريب الفكرة عَمّا يُمكن أن يكون عليه العنوان الناجح لمسلسل ناجح ،لأنَّ العنوان الحالي للمسلسل (سفر ومحطات)، يوحي بأنَّهُ توصيف لحلقات اخبارية عن تحقيقات ميدانية أو بيوغرافية أو طوبوغرافية ولا يوحي كثيراً بأنَّهُ عنوان لمسلسل فيه كل هذا القَدْر من التشويق والصراع من أجل البقاء.
تلك ملاحظة، وجدتُ اقتراحها يُتمِّم إحسان الكاتب (فاروق محمد) علينا بإبداعه هذا العمل الحياتي الساخن والمتفاعل مع الواقع الاقتصادي الجديد والذي يضغط على الكثير من الناس بقوة فيفرز بعض الرداءات الإجتماعية العجيبة التي تؤدي بالبعض إلى نبذ الأقارب أو التخلي عنهم تحت ضغط هذه الظروف أو بالرغم عنها.

وعلى أيةِ حال فإنَّ أي عنوان يُوضَع لا يقلِّل من قيمة عمل كبير ومُهم كهذا العمل حتى ازعم أنَّ بطولة هذا العمل في السيناريو والحوار اللَّذَينِ كسرا القوالب النمطية الجاهزة في الكتابة وأعطيانا نكهة الحياة اليومية التي نعيشها فعلاً، لا تلك التي يصطنعها البعض على الورق وهُما ممّا نشتاق إليه في الدراما العراقية منذ وقت لآخر.

إنَّ هذا النَّصّ بالقدر الذي تحدَّثَ بهِ بِلُغة الحياة وعلى لسان الكثير من أبطاله صمَتَ أو كادَ يصمت عندما أراد أن يرسم شخصية توفيق المختلّ عقلياً وهذا الصمت، و بإرادة الكاتب طبعاً.
رسم للممثل حُريّة التعبير بحركات الوجه والجسد عن بلاهة المُختلّ وتولّعاته الغريبة. ومنذ الوهلة الأولى التي ادار بها الفنان القدير بدري حسون فريد هذا الدور على الشاشة تفجَّرَ إعجاب المشاهد بهذا الأداء وتفاعل معه بقوة كما لو كان شيئاً حقيقياً يحدث في الواقع فالمجنون غريب في الحياة ومعزول عن المجتمع ولكنَّهُ محبوبٌ أيضاً وعاطفي وعفوي ومكتفٍ بنفسه عن العالم و بسیط بردود أفعاله كالأطفال وهذا ما استطاع الفنان بدري حسون فريد أن يُجسِّدهُ باقتدار فريد بدا لنا لشدة إتقانه أنَّهُ لم يعُد من الممكن أن يتفوق على هذا المستوى من أداء المجنون سوى المجنون نفسه ،إنَّ يدري حسون فريد قد جعل لهذا الدور مكاناً لا يُنسى في ذاكرة المُشاهد ربَّما هو شبيه بتلك الأمكنة التي تتركها في القلب كل اغنية باهرة وكل صوت نادر أصيل .
كما أنَّ إخلاص بقيّة الممثلات والممثلين في تأدية أدوارهم بالاقتدار والتمكن نفسهما قد أسهمَ في جعل عناصر هذا العمل قريبة من الاكتمال وأضفَت عودة الفنانة سُها سالم إلى الشاشة لمسة خاصة ومحبَّبة أسهمت في تميز هذا المسلسل، ونجاحه الأكيد.

(مجلة ألف باء ،العدد:١٣٧٦،ص٢٩) تاريخ إصدار العدد:٨-٩-١٤١٥ ه‍.
٨-٢-١٩٩٥م.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

فيروز التعويذة النادرة

ميسلون هادي لم يحدث في ظاهرات الفن العربي على مدى تاريخه أن أجمع وجدان المستمعين …