عندما يحين وقت القرار

عندما يحين وقت القرار
نظرة نقدية الى مجموعة ((القرار)) .. واحتفاء بكاتبتها ثبات نايف
ميسلون هادي
تفصل المدارس النقـديـة الحـديثـة بين النص والمؤلف، وتنظر إلى الأثر الفني بمـعـزل عن مـبـدعـه، حتى قيل إنها تقطع الحبل السري الذي يربطها به، وتغفل السياق التاريخي والاجتماعي لهذا الارتباط، فالشكل الأدبي عند هذه المدارس هو تجـربة تبـدأ بالنص وتنتـهي مـعـه… وهذا الفصل، إذ يعـتـقـد البعض فيه مبالغة وتعسف على العمل الأدبي، إنما
يحدث بقصد إعطاء النص حـقـه الكامل من النظر، بغض النظر عن ظروف كتابته أو سيرة كاتبه، وهذا توجه مهم في حداثة النقد، كان يجب أن يحدث بعد أن كانت المدارس النقدية السالفـة تولي الجـوانب الاجتماعية والنفسية والتاريخية لكتابة العمل الاهتـمـام الأكـبـر. في حين يذهب المبـدعـون وتبـقى نصوصهم لفترة أطول بكثير من فترة بقائهم، ومع
مرور الزمن تتراكم الروايات حـول ظروف كـتـابتـهـا، وتشوب الحقيقة الكثير من الأقاويل وتثار الشكوك حول أسماء مؤلفيها، كما حدث حتى مع شكسبير، وبعد عشرات الأجيال سيبقى النص وحده في مهب الريح معزولاً عن كل ما يمت لصاحبه بصلة.
عند ذاك فعلا يكون المؤلف قد اختفى تماماً من الصورة، وبقيت كلماته فقط، ولهذا يكون من باب أولى، خـلال حـيـاة المؤلف ووجـوده بين الأجـيـال الـتـي عـاصـرته، أن يولى للـجـوانب التي تخـصـه وتخص سيرته الذاتيـة الاهتـمـام الكافي، وأن تُشبع بالبـحث والإحـاطة الكافيين، لكي تؤَطر الصورة بالوثيـقـة، ولا تضيع الحقيقة مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال اليوم نحن بصدد احتفائية من هذا النوع لكاتبة قصصية قـاومت إغـراء هذا الـعـالـم الأدبي، وكل مـا يمت له بصلة، لثلاثين سنة عملت خلالها بالصحافة، واكتفت ببريقها الزائف لإشباع شغفها بالكتابة، وكـمـا تـعـرفـون فـإن قـوانين اللغة الصحفية مـبـاشـرة وصـريـحـة، ولا تعـرف اللف والدوران أو مناورة المشكلة أو اللعب بالكلمات .. بينمـا قـوانين الأدب لـهـا ألاعيب وشياطين لا تعـرف القـوالب أو الخطوط المتوازية، وإذ نحتفي اليوم بصدور مجموعة ثبات نايف القـصـصـيـة الأولى “القرار” لا أملك الا أن أربط بين ثبات الكاتبة وبين نصوصها.. فأنا ممن يعتقدون بأن الكتابات تشبه أصحابها إلى حد كبير، فالكاتب ذو الطبع الجريء، كتاباته جريئة، والمتأني كتاباته متأنية، وذو الهواجس الكثيرة كـتـاباته مـعـقـدة، والبسيط كـتـاباته بسيطة، وهكذا إذا كان الكاتب مدينياً أو ريفياً أو جبلياً او بدوياً … الخ فإذا ماحدث العكس، ووجـدنـا كـاتبـاً مـحـافظاً يـتـحـرر من قـيـوده الاجـتـمـاعـيـة على الورق، ليرمم أو يعـوض النقص الذي عاشه في الحياة، فإن هذا الاستثناء هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها.
لذلك أجد لزاماً علي قبل ان أقـول ان ثمة تشابهـا كبيراً بين ثبـات وكتاباتهـا ان أعيد صياغة التعاريف التي تخص مزايا جميلة تكاد تنقرض من عالمنا المعاصر، وفي المقدمة منها طيبة القلب.. فأقول إن الطيبة هي قمة الذكاء وأعلى درجاته، لأنها وباختصار تدل على أن صاحبها منسجم مع نفسه تماما، ومعجب بها إلى درجـة أنه لا يضـيـره في شيء أن ينجح مـعـه الآخرون، أو يفرحوا أو يصيبوا من الخير ما أصابه، بل إن الإنسان الطيب يذهب إلى ابعد من ذلك، فيفرح لفرح الآخرين ويتمناه لهم حتى وإ،ن كان حـزيناً وثبـات نايف من النوع الذي لا ينتظر أن يـتـحـقق الفرح للآخرين حسب. وإنما تبادر هي إلى صنعه
وإهدائه للآخرين ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وكأن لسان حالها يقول :
إذا القـوم قـالـوا مـن فـتـى
خلت أني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
وهذه الميزة الأخيرة يتـمـتـع بـهـا نـخـبـة من الناس من أصحاب المبادئ والقيم النبيلة، من الذين لهم حظوة السبق في صناعة خطوات ثابتة إلى أمام، ألا يقول العرب القدامى لكل امرئ من اسمـه نصيب، إذن ليس غـريـبـاً ان تـعـمـل ثـبـات نايف في الصحافة، وقبل ذلك في السياسة، ففي هذين المجالين توجد أسطع الأمثلة على خدمة الناس وإسعادهم، وتحقيق أحلامهم وأمانيهم، وأزعم أن ثبات لو كانت تملك مصباح علاء الدين لما طلبت شيئاً لنفسها، وإنما لطلبت أن تحقق أمنيات الناس أولاً.. أما هي فلا أظن، على ما أرى وأظن، إنها تريد من القدر أكثر هي عليه زوجة ورفيقة وحبيبة لشاعرنا الكبير سامي مهدي، وهذه الصفة عند ثبات تأتي في المقام الأول ،ثم بعدها تأتي باقي الصفات.
إذن حملت ثبات كل عنايتـهـا بمشاكل الآخرين وهمومهم على كتفيها، ودخلت بها إلى عالم الأدب، وأرادت ان تقص أثر الهموم اليومية ومشاكل الناس، ثم تحولها إلى مادة أدبية، فهل نجحت ثبات في تحويل حكايات الناس إلى أثر فني ؟! ربما تجيب على هذا السؤال أفضل قصص المجـمـوعـة وهي “القرار” التي تهـديـهـا إلى أخيها الراحل سعد، و”الاعتراف”، و”صداقة”، و”واحد زائد واحـد يساوي” إذ نجـدهـا تتـوافـر على الموقف الفلسفي أحياناً والوطني أحياناً أخرى والوجـودي الـعـمـيـق عندمـا تناقش بعض بديـهـيـات الـحـيـاة وثوابـتـهـا وتحـولـهـا إلى أسئلة قابلة للتشكيك والخلخلة.
من جانب آخر نجـد في قصص أخرى مثل “حـال الدنيا”، و”الكرة”، و”في العام ألفين”، و”رغبة وأخرى” أن التجربة الخبرية تطغى على التجربة الوجدانية، وتحاول الكاتبـة فـيـهـا الانـتـقـال بفكرة جـاهزة في ذهنها سلفاً من مكان إلى آخر، فتقرر تحويلها إلى عمل أدبي سيقوم بإيصال هذه الفكرة الانتقادية إلى أكـبـر عـدد ممكن من الناس..
وعلى النقيض من هذه الحالة تنجح الكاتبة في قصص أخرى مثل “لحظة فرح”، و”هموم ولكن”، بما تملكه من أدوات، في تقديم التجربة بإطارها الفني الرفيع، وهذا التفاوت في محاورة النص للقارئ، تارة بحـرفـيـة عالية، وعلى عجل تارة أخـرى، أعزوه إلى عدم رغـبـة الكاتبة بالتفريط في مـوضوعـاتهـا، وترجيحها الرسالة الإنسانية داخل العمل على الرسالة الشعرية أو الجمالية، وهذا، مرة أخرى، يحيلنا إلى الارتباط القوي بين شخصية الكاتب في الحياة وبين مـوضوعـاته التي يختارها ويكتبها على الورق.
في قـصـة “الجوهرة” التي تهـديـهـا الكاتبة إلى شقيقتها “معينة نايف” نجد مقطعاً جميلاً يصلح كـمـدخل او تـمـهـيـد لقـصـة طويلة، ولكن الكاتبـة تقـرر الاكتفاء به كنص متكامل، على مـحـدودية مساحته، لأنهـا وجـدت في ذلك الاكـتـفـاء ضـالـتـهـا المنشودة في الترحم على مثاليات مفقودة، دون الأخذ بنظر الاعتبار فيما إذا كان القارئ قد وجد هو الآخر ضالته المنشودة في التنويع والـتـشـويق والتوتر والـتـصـاعـد وباقي عناصر الإمتاع المعروفة والمهمة لأي عمل أدبي، وهذا السؤال يجب أن يطرحه الكاتب على نفسه في مرحلة المراجعة الأخيرة للعمل، فيعمل بروحية القارئ المستقل، وخـبـرة الكاتب المحـتـرف على تشـذيب عـمـلـه من الاسترسالات العاطفية والرسائل الشخصية (الشعر وحده يصلح لتوجيه رسائل شخصية)، ولهذا يحرص الكثير من الكتاب على عرض أعمالهم على أصدقائهم قبل نشرها، وبعضهم يمتلك الحاسة النقدية العالية، التي تغنيه عن ذلك، فيكون قد امتلك مفتاحاً مهما من مفاتيح النجاح.
إن مـحـدودية المسـاحـة فـي قـصص أخـرى مـثل الطاووس”، و”أم مـحـمـد” لا تمنع من توافرها على العناصر الأساسية لأية قصة ناجحة كالحبكة والمفارقة والسخرية .. وهي قصص، على بساطتها الظاهرية، تنطوي على نظرة فلسـفـيـة عـمـيـقـة لدواخل النفس البشرية ومناقضاتها وتصارع رغباتها مع رغبات الآخرين.
خـلاصـة الـقـول فلطالما اعـتـقـدتُ أن الكاتب في مجاميعه الأولى يكتب وكأنه يتحدث إلى نفسه بصوت عال، ويتطلب منه الأمر عدة مجاميع ينشرها قبل أن يبدأ بالتحدث إلى الآخرين .. ولكن ثبات نايف أحرقت المراحل التي يمر بها الكثير من الكتاب، وتحدثت منذ
مجموعتها الأولى إلى الناس.. وقد يرد البعض ذلك إلى أن الكاتبة قد بدأت الكتابة القصصية متأخرة، وبذلك فإنها قد تجاوزت الـعـمر الذي تكون فيه الذات مـحـوراً للـعـالـم، فـتـزيـن لـصـاحـبـهـا أوهامـاً وأحـلامـاً ونرجسيات.. وهذا السبب، على وجاهته، استبعده
تماماً من الصورة، وأرجح عليه سبباً آخر هو أن هذه المجموعة القصصية الجديدة لثبات نايف صحيح إنها هي الأولى وفقا لتاريخ النشر، ولكنها لا تمثل بدايات الكاتبة، وليست أولى وفـقـاً لـتـاريخ الكاتبـة.. فـقـد أعلمتنا تواريخ كتابة القصص، وحسنا فعلت القاصة
إذ ثبتت ذلك في نهاية كل قـصـة، أن اغلب القـصص مكتـوبـة بين الـعـامين 1999 و2002 عـدا ثلاث قصص مكتـوبـة في الأعــوام 1995 و1996 و1997 وهي على التوالي “هموم ولكن”، و”لحظة فرح”، و”رغبة وأخرى”.
وهذا يدل على أن الـقـصص بـكـاملـهـا مكتـوبة في السنوات السبع الأخيرة، ولا يوجد بين تواريخهـا ما هو أبعد من ذلك مما يدل على أن الكاتبة قد استبعدت عن مـجـمـوعـتـهـا الأولى مـحـاولاتها الأولى، وأن هذه القصص التي هي بين أيدينا الآن، قد جاءت بعد تمرین أدبي طويل أثرت أن تجعله القاصة في الظل، وتحجبه عن النشر، إلى أن حان وقت النضوج وجاء “القرار” بأن ما تكتبه يستحق النشر في كتاب.. وهذا الاعتقاد،الذي توصلت إليه، بدون الرجوع إلى الكاتبة قد سوغه لي المستـوى الناضج لمجـمـوعـتـهـا الأولى “القـرار”، وأهليتها لان نحتفى بها الآن لأنها تجعل من كاتبتها القاصة المبدعة ثبات نايف اسماً جديداً يضاف بجدارة إلى أسماء الكاتبات القصصيات في العراق .
جريدة العرب، 27-11-2002

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *