علي جواد الطاهر
(1911-1996)
استذكار معلم النقد الذي كان ولا يزال
أ د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
مات الطاهر.. كلمتان أليمتان سمعناهما قبل ست عشرة سنة بالتمام، وتحديداً يوم 9/10/1996، وبالرغم من أن الوسط الثقافي في العراق كان يتوقع رحيله حينها بسبب اشتداد مرضه في أيامه الأخيرة، إلا أن الخبر كان له، مع هذا، وقع أليم وعميق في المهتمين بالكتابة الأدبية والنقدية وقرائها، وفي تلامذته ومحبيه. ولم يأت هذا الوقع الصادم والمؤلم من أنّ الطاهر كان أستاذاً وناقداً فحسب، بل من أنه كان أحد محرَّكات الثقافة العراقية، الأدبية والنقدية منها بشكل خاص، على امتداد نصف قرن تقريباً امتدت من أوائل الخمسينيات حتى منتصف التسعينيات. ولا يزال بظني يحرك هذه الثقافة سواء أكان ذلك من خلال العشرات من الكتب، والعشرات وربما المئات من المقالاته والدراساته في الدوريات العربية المختلفة، والمئات من طلبته الذين تمتد أصابعه من خلال أستاذيته الصفية وغير الصفية في كتاباتهم. الواقع أن الطاهر، رحمه الله، لم يكتف بما كان يؤلفه من كتب أو يكتبه في الصحف والمجلات، لا بأستاذيته في الجامعات العراقية، ولا بنشاطاته ومتابعاته، التي ماعرفتْ فتوراً أبداً، في الندوات والمهرجانات الثقافية، بل كان قلباً مفتوحاً في طيبته وحبه لأهل القلم وتقديسه للعمل العلمي والبحثي، وذهناً مفتوحاً لم يريد أن يُسمعه شيئاً، وراعياً ودوداً لكل من يؤمه طلباً لرأي أو توجيه أو موضوعٍ للدراسة.
لقد امتدت مسيرة الطاهر بدأبها وعطائها العلمي أكثر من نصف قرن، بدأت حين شد رحاله في الأربعينيات إلى (أم الدنيا) وعاصمة الثقافة العربية، القاهرة، ومن ثم إلى عاصمة الجمال والثقافة الغربية، باريس، ليحصل فيهما على شهاداته العليا ويعود فيبدأ إسهاماته الأكاديمية من خلال دوره التدريسي والبحثي في جامعة بغداد بكليتيها الرائدتين التربية- دار المعلمين العالية سابقاً- وكلية الآداب، ودوره الثقافي والأدبي خارج الجامعة، خصوصاً عبر إسهامه الريادي مع الرواد المؤسسين الحقيقيين الآخرين لاتحاد الأدباء العراقيين، وترسيخه للتقاليد الثقافية التي عرَفَتْها، وما زالت حتى الآن، مؤسسات الثقافة واتحاداتها في العراق. ومنذ تلك الأزمان عرفته الصحف والمجلات كاتباً ومتابعاً دؤوباً وصاحب أعمدة وأبواب ثقافية. وهو في ذلك لم يتوقف عند الحدود القطرية، التي لا تعرفها الثقافة بالطبع، فامتد نشاطه من داخل العراق إلى خارجه، في مصر والسعودية والإمارات ولبنان والمغرب العربي واليمن والكويت وغيرها. وهو في ذلك ما خف له نشاط، حتى حين خفتت أنفاسه، وما تباطأ دأبه ومتابعاته وحيويته حين تباطأت نبضات قلبه، فشهدت سنواته بل أيامه الأخيرة نشاطاته النقدية والكتابية والتأليفية، كما عهدناها من قبل. ولهذا كله ليس غريبا أن يحظى الأستاذ الراحل بتقدير المؤسسات والاتحادات والجمعيات العلمية والثقافية الرسمية وغير الرسمية في كل الوطن العربي، فكانت تضييفاتها وتكريماتها له التي كان آخرها حصوله قبل بضع سنوات من وفاته على جائزة العويس الإماراتية الكبيرة.
( 2 )
ضمن منهجه الثقافي الحياتي تطبيق الطاهر لما آمن به من اختلاف الرأي الذي لا يكون النقد إلا به واحترام الآخر والرأي الآخر، وهو ما كان يجسده في كل شيء يمارسه أو يسلكه كتابةً ونقداً وتدريساً ورعايةً وعلاقات. لا شك أن اختلاف الراي مسألة طبيعية في الحياة، قبل أن تكون في الأدب، وفي مجالات الثقافة والفكر المختلفة، وتبعا لذلك فإن حرية الرأي والدفاع عنه طبيعية أيضا. ولكن هذا لا يعني أن نقول ما نشاء، وكيفما نشاء، وبدون مراعاة لأصول ولياقة مناسبة وعقلنة وتعليل. فمرة أخرى إن الإيمان بالرأي والرأي الآخر والاختلاف الصحي في الآراء والرؤى هو أبرز ما جسدته شخصية الطاهر، ولعل هذا هو عينه الذي قاد ناقدنا الكبير إلى ما أساء البعض فهمه واستيعابه وفي النتيجة من ممارسته من النقد الانطباعي أو التأثري. والمفارقة أن أصحاب هذا الفهم لمواقف الطاهر ونقده الانطباعي، قد أساؤوا في الأصل فهم النقد الانطباعي أو التأثري، حين كانوا يكتفون منه بما جسده المذهب الانطباعي في الفن. فإذا كانت الانطباعية أو المذهب الانطباعي، حين ظهر في الإبداع، وتحديداً الفن التشكيلي على أيدي فنانين مثل رينوار، يعني التعبير فنياً عن التأثر الذاتي، فإنه حين انتقل إلى النقد، والنقد في موضوعيته وعدم نفي الذاتية بشكل مطلق هو غير الإبداع في ذاتيته وعدم نفي الموضوعية بشكل مطلق، صار يعني التعبير عن التأثر والانطباع أيضاً، ولكن مع إدخال التعليل والتبرير وبعض العقلنة، حتى وإن بقي يعني “النقد الذي لا يهتم فيه الناقد بتحليل الأثر الأدبي، ولا بترجمة حياة مؤلفه، ولا بمناقشة قضايا جمالية مجردة، وإنما يقدم في أسلوب جذاب حي انطباعه هو نفسه بالأثر الأدبي الماثل أمامه”([1]).
لقد كان طبيعاً هنا، ونحن نستذكر بعض مقالات الطاهر في هذا الاتجاه، أن يتفق البعض معه ويختلف البعض الآخر. في الواقع لقد اتفق الكثيرون معه في كل شيء تقريباً، واتفق آخرون مع غالبية طروحاته وآرائه وشخصه واختلفوا في بعض آخر ولكن دون أن يقلل ذلك من وعيهم بما يعنيه له ولغيرهم وللنقد عموماً، بينما اختلف فريق ثالث معه بشكل شبه كلي ولكن انطلاقاً من حق يمتلكه كل منا في أن يفعل ذلك وفي أن يكون صاحب رأي آخر. ولكن هناك فريق رابع أريد أن أتوقف عنده في هذه الفقرة وهو الفريق الذي اختلف أفراده مع الطاهر، وأساءوا الاختلاف، ثم أساءوا التعبير عن الاختلاف، بل تجاوزوا ذلك في ما كتبوه للتعبير عن ذلك لا على الطاهر ناقداً ولا على آرائه بل على شخصه. هنا نستذكر واحدة من هذه الكتابات بوصفها نموذجاً لهذا، وقد كتبنا رداً عليها وعلى صاحبها حينها، وهو مقال “تساؤلات حول حوار في النقد القصصي العراقي” المنشور في صفحة (ثقافة) من جريدة “الجمهورية” العراقية قبل وفاته ببضعة أشهر([2])، وهو مقال جاء تعليقا على حوار أجراه، مع الدكتور على جواد الطاهر، القاص أحمد خلف في مجلة (الاقلام)، قبل ذلك بأشهر([3]). فإذا كان العنوان لا ينم عن خلل في أصول الحوار والاختلاف والموضوعية، فإن الموضوع نفسه افتقد الكثير من ذلك بشكل صريح وواضح، في أسلوبه وفي محاورته للناقد الكبير وفي تلميحاته غير اللائقة، وهو ما لم نكن نتوقع أن يصدر عن أديب شاب مثل القاص زيدان حمود، مع أستاذ جليل كبير متفرّد بكل معاني النقد والأدب والأكاديمية كالدكتور الطاهر. فما من أحد جاد وناضج في الوسط الأدبي لا يحترم أن يكون لكاتب أو ناقد شاب مثل زيدان حمود رأي واختلاف مع أي كان، بمن علم مثل الطاهر، ولكن أن يكون هذا شيءٌ وأن يكون في الكتابة والتعبير عن الرأي والاختلاف فيه مع الآخر بأسلوب يخلو من اللياقة ومن أصول الاختلاف وأصول التعبير والنقد شيءٌ آخر. وهكذا إذا كنا نسلّم بأنْ يبدي القاص ما أبداه من آراء، في مقاله، فإنه لعيب، بكل المقاييس أن ينجر وراء بعض المتعالمين، ليخاطب أستاذاً جليلا بأستاذية غير مبررة، حين يخاطبه مثلاً بالقول:
“النص الحديث نص عميق إنساني يحمل شفراته المبثوثة عبر عوالم دفينة قابلة للتحليل والتأويل، وهذا ما يكتشفه النقد الحديث”.
وإننا لنتساءل مشدوهين ومستغربين: كيف يصدر خطاب بهذا الأسلوب التعليمي من كاتب لمّا يزل يختطّ طريقه ويتلمس مواطئ أقدامه، بدلاً من التماس الرأي ممن يوجه إليه الخطاب؟ الواقع أن أسلوباً مثل أسلوب زيدان حمود قد جعلنا وقتها نتيّقن من صحة تشخيصات الطاهر نفسه حين يلتفت إلى النابه من الكتّاب، ومن الطبيعي أن يكونوا قلّةً، وإلى المتميّز من الكتابات، ومن الطبيعي أن لا تكون كثيرة جداً، ونفهم أيضاً تجاوزه لعدد غير قليل من الكتّاب حين لا يجد لديهم وفي كتاباتهم ما يثير أو ما يعِد به، وفوق هذا يروحون يصرخون ويتعالون على مَن من حولهم. في الواقع، هنا بالتحديد تتجسد المآخذ الرئيسة على بعض الكتّاب الشباب وقتها وحالياً نعني: عدم احترام الرموز الكبيرة في حياتنا الثقافية، وافتقاد تقاليد الكتابة، وانعدام اللياقة، مع المكابرة والإصرار على السير في الطريق الخاطئ، وفي كل ذلك ترى بعضهم، وهنا لا أعني زيدان حمود بل آخرين، يحاول الطيران بغير أجنحته، إن صح تعبيري المجازي.
( 3 )
إننا حين ننطلق في هذا من الإجلال لمن يستحق الإجلال، الدكتور علي جواد الطاهر أستاذا ومعلماً وراعياً، فإن ذلك لا يعني بالضرورة اتفاقاً معه في كل آرائه وتأييداً لكل ما يذهب إليه. فأنا شخصياً قد اختلفت ولا زلت أختلف معه في أمور، ولكني لم أنس، في حياتي وفي دراستي ونقدي، عباءته التي خرج جل النقد العراقي من تحتها، مع عدم التقليل من أهمية ومكانات وأهمية عباءات نقاد آخرين بالطبع. ولكن، مرة أخرى، أن نختلف معه شيءٌ وأن نتجاوز فضله ومكانته ودوره في حياتنا الثقافية وفي مسيرة الأدب شيءٌ آخر. فأليس غريباً، مثلاً، أن يتهم أديب مثل زيدان حمود أستاذا كالطاهر بعدم القدرة على الاستمرار والتجديد، وهو ما ينطوي عليه قوله رداًّ على الطاهر:
“إن الأدب الحديث بحاجة إلى لغة جديدة وإشارات دفينة يبثها النص الذي يبعث في المتلقى حالة الاستقرار”.
ويتهمه بالتوقف وعدم التطور والتجاوز، وهو ما ينطوي عليه قوله:
“اعذرنا لأننا لا نستطيع أن نقف في حدود ما وقفتم عنده”؟
وهو لا يكتفي بهذا بل يتهمه بالتقصير وبالمواقف غير الإيجابية من بعض الكتّاب والتيارات، بما في ذلك مثلاً إهمال كتابات ما بعد الستينيات. بينما يعرف من تابع الطاهر في كتاباته ونقوده أن من بين ما يقارب الخمسة والعشرين أو الثلاثين قاصاً الذين تميزوا خلال السبعينيات والثمانينيات- وبغض النظر عن انتماءاتهم الجيلية- كتب ناقدنا الكبير عن أكثر من نصفهم، من أمثال التكرلي وزنكنه والعبادي وأحمد خلف وعلي خيون ومحمد خضير وهشام الركابي وعبد الخالق الركابي. ولا نظن غيره قد استطاع فعل ذلك دون الخروج عن حدود الدقة والموضوعية والعلمية بل التطور مما ميّز كتابات الطاهر على غزارتها. فمرة أخرى يعلم كل متابع لنشاط الناقد الراحل النقدي كم كان متطوراً ومتجدداً دائماً، وكم كان منفتحاً حتى على من (يتطور) بشكل واتجاه لا يتفق معهما، ولنا مواقفه من العديد من الاتجاهات والمناهج الحداثية أمثلة على ذلك حين لا ينكرها على غيره بمن فيهم تلامذته. ولكن نعود لنقول، ومرة ثالثة، التطور والتجدد شيء، والانفلات وعدم الارتكاز على أسس وتقاليد شيء آخر. ثم هل كثير على ناقد كالطاهر، امتلك نصف قرن من الكتابه والبحث، ليكون له موقف خاص من هذه الطريقة أو تلك من طرق الكتابة، ومن هذا الاتجاه أو في ذاك في الإبداع، ومن هذا المنهج أو ذاك في النقد؟ أما أن لا نتفق معه في مثل هذا، فلا نظن أن الطاهر ينكر علينا ذلك، كما ليس لنا ان ننكر عليه مواقفه وآراءه. يبقى أن أستاذنا الجليل لم يسفّه رأيا أو مدرسة، بل وجد بعضاً غير ملائم لأدبنا- وربما ضمن مراحل معينة- إذ يقول في الحوار الذي أجراه معه أحمد خلف:
“إننا في العراق ما بنا حاجة إلى ما وصل إلينا من نشاط فرضه أصحابه على أنه نقد جديد”.
بقي أن نشير هنا إلى ما يسيء بعض الأدباء والنقاد الشباب فهمه حالياً، وقد يصب مقال زيدان حمود فيه، مما يُسمى بـ(موت الأدب). فمثل هؤلاء فهموا هذه المقولة بشكل ربما يصح معها أن نسميه (قتل الأب)، وبين هذا وذاك فرق. فإذ يعني مصطلح (موت الأب) أن لا تكون تابعاً في رأيك واتجاهك واختياراتك بالضرورة للوصي عليك من أب أو معلم أو رجل دين أو حاكم أو مَن هو أكبر منك، وأن لا تبقى تحت عباءته، فإن ممارسة هؤلاء الذين يسيئون الفهم ليتبوا، من حيث لا يعون، ما سميناه (قتل الأب)، تعني أنك بالضرورة يجب أن تثور على ذلك (الوصي) وأن تحطم كل ما يقول به، بل أن تسفّهه، والمهم أن تختلف معه حتى وإن كان على حق وكنت أنت على خطأ وباطل.
( 4 )
وإذا أردنا أن نتجرد وقتياً من عاطفيتنا ومما يسوقه حبنا للطاهر من انحياز، ونتجاوز موقف الإنسان الراعي والمحب المتجسد في شخصه وسلوكه، والتفتنا إلى فضله ودوره العلميين، فسنجده يتوزع بشكل رئيس على ثلاثة جوانب هي: الأول دور المعلم الأكاديمي من خلال عمله أستاذاً للنقد في جامعة بغداد وتحديداً في كلية الآداب فيها التي نذر جل عمره العلمي لها. والثاني دور الناقد التطبيقي، وخصوصاً دوره في النقد القصصي العراقي. والثالث هو دور الراعي العلمي الذي كان دوماً يحتضن من يلمح فيه أو في كتابته موهبةً أو قدرة غير عاديتين أو واعدتين للكتابة الإبداعية أو النقدية، طلبةً يدرسهم كانوا أم غير طلبة.
فهو، في دوره الأول، دور المعلم الأكاديمي، قد أسهم، بنحو جليّ بقيتْ امتداداته زمناً طويلاً، في تحديث مناهج الدراسة الأدبية الأكاديمية وإخراجها من تقليديتها وسلفيتها. فقد قاد الطاهر هذه الدراسات نحو الانفتاح على المناهج الحديثة، ولكن من دون التضحية بمعطيات النقد العربي القديم الذي ما انفصل عنه يوماً. وتعلقاً بذلك قاوم الإلغاء الذي نتذكر كيف تبنته مجموعة من الأدباء والنقاد والأكاديميين الشباب منتصف الثمانينيات ومارسته حتى تجاه مناهج النقد الغربية الحديثة التي كانت سائدة وقتها، ولم ترتض المعادلة التي يصعب على الكثيرين المحافظة عليها، بينما جاهد الطاهر في سبيل تحقيقها وممارستها. كما سعى، ضمن هذا الدور الأكاديمي، إلى بناء العلاقة العلمية والتربوية النموذجية بين الأستاذ والتلميذ وبما يقود إلى الكشف عن المواهب ورعايتها وتوجيهها، كما سنأتي إلى هذا في كلامنا عن دوره الثالث.
أما الدور الثاني، دور الناقد التطبيقي، فيتمثل في أن الطاهر إذا كان بحق أبا النقد الأدبي العراقي الحديث، فإنه أسهم أيضا بزخم غير مسبوق في رعاية القصة العراقية وتعزيز مسيرتها دراسةً وكشفاً لمواهبها، وربما توجيهها أو توجيه بعض كتّابها أحياناً. بل نزعم أننا لن نكون مبالغين إذا ما قلنا إنه قد أسهم بشكل فاعل، ما زالت لمساته واضحة الى جانب لمسات أعلام هذه القصة وبعض دارسيها ونقادها الآخرين بالطبع، في نقلها من مكانةٍ متواضعة ومحدودة المساحة كانت تحتلها في الخمسينيات والستينيات بين الآداب القصصية العربية، إلى مكانة اختلفت فناً ومساحةً وبشكل جوهري بدءاً بنهاية الستينيات وحتى رحيله وما بعد رحيله. وهو في ذلك كله منح حركة النقد الأدبي العراقي، وضمناً العربي زخماً وفاعليةً تجعل من غير الممكن لأي دارس أو ناقدِ نقدٍ، يستقرئ النقد العربي، أن يتجاهله اسماً ودوراً وآراءً، إذا ما أراد هذا الدارس أو ناقد النقد أن يكون في استقرائه علمياً أو أكاديمياً أو لنقل منصفاً.
في دوره الثالث، دور الراعي العلمي، سعى، كما قلنا، إلى بناء العلاقة العلمية والتربوية النموذجية بين الأستاذ والتلميذ في المؤسسة الأكاديمية وخارجها وبما يقود إلى الكشف عن المواهب ورعايتها وتوجيهها. والمهم في هذا أنه ما كان يقطع الصلة بأصحاب تلك المواهب بعد انتهاء دراستهم أو قراءة أوائل أعمالهم، ولا يوقف الرعاية. ويشرفني أنني كنت أحد هؤلاء التلاميذ الذين حباهم الطاهر برعياته، فما انقطعتُ عنه تلميذاً له في الكلية، ثم وومارساً أولى كتاباتي النقدية حينها وبعدها، ومكملاً لدراستي العليا في بريطانيا، حين بقيت أتواصل معه عبر الرسائل التي كنت أغتني بواسطته منه، ثم وأنا أصدر ثاني كتاب لي هو “التجربة الروائية في العراق” أهديته له وكان الطاهر نفسه خبيره، وأخيراً وأنا أستاذ في كلية الآداب، حيث بقيت تلميذاً له ومحط رعايته حتى وفاته رحمه الله. ولم تكن تجربتي هذه تلميذاً للطاهر إلا واحدة فقط من تجارب آخرين مثلي بالطبع.
( 5 )
لقد تجسدت خصائص الطاهر وثراؤه وشخصيته وبشكل عام عطاؤه، أكثر ما تجسد، في كتبه التي زادت على الثلاثين كتاباً لعل أهمها “الشعر العربي في العراق وبلاد العجم في العصر السلجوقي”، والابن وسبع قصص أخرى”، و”لامية الطغرائي.. تحقيق. تحليل. مناقشة”، و”في القصص العراقي المعاصر.. نقد ومختارات”، و”محمود أحمد السيد – رائد القصة الحديثة في العراق”، و”منهج البحث الأدبي” وغيرها. وإذا كانت هذه الجهود العلمية قد أسهمت، وعبر كل هذه الميادين، في الإغناء والتربية والتوجيه والتجديد، فإنها ستبقى بلا شك، من خلال ما تركه أستاذنا في كتبه وتلامذته وتلامذة كتبه أقباسَ نورٍ تفتح لنا مغاليق النصوص وتهدينا إلى المناهج النقدية وطرائق الكتابة والتأليف، وتقودنا إلى تمثُّل شخصية صاحبها العلمية والتربوية والإنسانية. وهكذا، ومع أن (الموت) كلمة لا يمكن لنا إلا نؤمن بها، نعرف أيضا أنها حتى في ما تسببه من وجع هي لا تقوى على إنجاز الطاهر الذي من خلاله ستبقى انفاسه تتردد، ونبضات قلبه تنبض في قاعات الدرس، وفي كتبه، وعلى منابر الندوات والمهرجانات الثقافية، وعلى الصفحات الثقافية للصحف والمجلات. فالإنسان يموت، لكن فضله يبقى.. رحم الله العلامة الدكتور علي جواد الطاهر إنساناً وناقداً وتربوياً وراعياً.
[1] ) مجدي وهبة: معجم مصطلحات الأدب، مكتبة لبنان، بيروت، 1974، ص246.
[2] ) زيدان حمود، تساؤلات حول حوار في النقد القصصي العراقي، جريدة (الجمهورية)، 19/3/1996.
[3] ) علي جواد الطاهر، حوار أجراه معه أحمد خلف، الأقلام، 1996.