الخطاب الساخر
وزيف الحداثة والتحديث في الوسط الثقافي
في رواية “بابا سارتر” لعلي بدر
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
لا يمكن لقارئ رواية علي بدر الأولى “بابا سارتر” إلا أن يرى فيها من الجدة شيئاً، حتى وهي لا تتجاوز، في ذلك، المعروفَ في طبيعة الرواية العراقية والعربية عموما وأسلوبيهما. ونحن حين نقول هذا فإننا نؤمن بأن مثل هذا التجديد الذي ينبثق من التقليد والموجود والمعروف، لا ليلغي وينقلب على ذلك الموجود، هو الأكثر توفراً على عوامل الإقناع، وهو ما نعتقد أن جل أعمال علي بدر قد فعلته. ونحن حين نقول هذا فإننا لا نُخطّئ بالضرورة النوع الثاني من التجديد الذي يتجاوز، لكن في الوقت الذي يمكن أن تتوفر للنوع الأول من التجديد والتغيير المبررات فالإقناع والنجاح في كل زمان ومكان، فإن خطورة النوع الثاني تكمن في أنه لا يتحصّل على هذا إلا إذا توفرت مقومات ومبررات هي أصلاً لا تتوفر في مسيرة أي جنس أو نوع أدبي أو فني إلا مرة كل كل حقبة أو حقبات من الزمن. من مظاهر التجديد في تجربة “بابا سارتر” ما يكمن في جانبين رئيسين، الوسط الثقافي والثقافة والمثقفين موضوعةً روائية، ولا نعني هنا شخصية المثقف حين تأتي ضمن مساحة تقدمها الرواية ولا تهيمن عليها، بل كما قدمتها بعض نماذج الرواية العالمية وقائمة عليها إلى حد كبير، مثل تجربة همنغوي في رواية “وتشرق الشمس ثانيةً، وتجربة سيمون دي بوفوار “المثقفون”، ثم الأسلوب الساخر الذي لا أظننا رأيناه في الرواية العراقية من قبل إلا بشكل محدود.
( 2 )
رواية “بابا سارتر”* في ثلاثة أقسام لم يسمّها الروائي أقساماً: الأول (رحلة البحث) وهو في قِصَره ويقترب من أن يكون مقدمة أو تمهيداً أو عتبة طويلة، وفيه نعرف أن (حنا يوسف) و(نانا بهار) يكلفان الراوي بمهمة يقول “دسّها حنا يوسف ونونو بهار لحرف الوقائع وتضليلي”- الرواية، ص19. المهمّة، هي كتابة سيرة حياة (عبد الرحمن) الفيلسوف العراقي من منطقة الصدرية في الستينيات، ولغاية ليست واضحة تماماً، وتزداد غموضاً وعدم وضوح حين يكشف البطل بشكل مفاجئ أنّ المشروع بتكليف (صادق زادة) الذي يُرسم لنا تاجراً عراقياً شبه مجنون.
“الشيطان المدمّر حنا يوسف، حفار القبور ذو اللحية المرعبة، وصديقته الخليعة التي كان يطلق عليها اسماً توراتياً غريباً (نونو بهار) هما من أغوياني بكتابة سيرة حياة الفيلسوف العراقي الذي كان يقطن محلة الصدرية إبان الستينيات (…). كنت تعرفت عليهما في الشتاء الماضي، فزرتهما في نزلهما (…)، وهو نزل صغير كان قد استأجره لهما تاجر عراقي نصف مجنون نصف معربد، وغير شريف بالمرة، يطلق على نفسه صادق زاده.”- الرواية، ص5.
وعلى أية حال، كما لا نعرف، من هذه البداية الغريبة التي لا نجد لها تفسيراً أو تأويلاً، ما الغاية من هذا الإغواء لكتابة سيرة من يسميه الراوي الفيلسوف العراقي، لن نعرف الغاية من خلال الرواية ولا من نهايتها.
كون كتابة سيرة الفيلسوف تعتمد على مخطوطات وما أشبه، يُدخل العمل شكلياً وجزئياً في ما يُسمى برواية المخطوطة، ولكنها المخطوطة التي يقوم الراوي بكتابتها عن سيرة (عبد الرحمن) فيلسوف الصدرية التي ستكون مضمون القسم الثاني، (رحلة الكتابة) ومتن الرواية أو الحكاية الرئيس. والثالث (رحلة الفيلسوف)، يكاد يمثلّ خاتمة الرواية، ويقدمه بضمير المتكلم (عبد الرحمن) نفسه.
مع مسار الرواية وتدريجياً، تبدأ تتضح لنا صورة لم نكن نتوقعها ابتداءً، تتمثل في أن مسيرة الفيلسوف (عبد الرحمن) وتابعه (عبد الرحمن) في الصدرية مع الوجودية والوجوديين هي إلى حد كبير صورة مسيرة (دون كيشوته) وتابعه (سانشو بانثا) مع الفروسية والفرسان في رواية “دون كيشوته” لسيرفانتس، وبما يعني أنها حكاية ساخرة مع كل ما يمكن أن تحمله من دلالات، فهل الفيلسوف هو دون كيشوته العصر، وعلي بدر هو سيرفانتس العصر، على الأقل بحدود تعلّقهما بالعراق والمجتمع العراقي ولا سيما في الوسط الثقافي منه؟. نعتقد أنهما كذلك إلى حد كبير، فكما نظر سيرفانتس إلى هؤلاء الذين كانوا، في عصره، يمجّدون الفروسية والفرسان حد الهوس الذي يخرجهم، في سلوكهم وفقاً لذلك، عن الواقع والمعقولية، نظر علي بدر إلى فئة من مثقفي العراق، ولاسيما ما بين الخمسينيات والسبعينيات، ورأى ما نعرفه عنهم وعن نقاشاتهم وكتاباتهم وقلقهم وهمومهم وجدالاتهم. وهو إن كان قدم ذلك كله بشكل ساخر وربما كاريكاتيري، فإنه عندنا كان الأنضج لا في رؤية الغرب وثقافته وفهمهما، بل في رؤية بعض العرب وفهمهم لهما، والأهم أنه تمثله كما لم يتمثله كاتب آخر. والواقع أن تسمية (إسماعيل) تحديداً بالتابع لـ(عبد الرحمن) تصب في اتجاه شَبه الاثنين لدون كيشوته وتابعه. والأمر نفسه ينطبق على (فروسية) الفيسوف التي تتجسد في الكثير من مواقفه وسلوكياته، رغم كل الفوضى والاضطراب بل ربما الخبل التي هو عليها:
“في يوم من الأيام بدأ المطر يهطل بشكل متسارع، كان الطقس في غاية البرودة (…) حين وقف إسماعيل أمام المقهى خلف الفيسلوف ولم يكن يرتدي سوى كنزة صوفية مخططة بالموهير الأسود (…) وهو يصطك من البرد، فما كان من عبد الرحمن- أول ما التفت إليه ورآه يرتجف- إلا أن خلع جاكتته الصوفية السوداء وألبسها إسماعيل، وقال له: أنت تشكل لي ما تشكله سيمون دو بوفوار لسارتر.”- الرواية، ص105.
وهو، عندنا كأنه يقول: أنت تشكّل لي ما يشكّله (سانشو بانثا) لدون كيشوته، ملمّحاً بالضرروة إلى الرسم والأسلوب الساخرين اللذين سيهيمنان على الرواية. ووسط ذلك كله حالات التيه والاضطراب وحالات التظاهر والتقمص التي انتابت تلك الفئة من المثقفين وقد غزتها ثقافة الغرب بإيجابيّها وسلبيّها، وبما يتناسب مع مجتمنا وإنساننا، وبموضوعيها وما بولغ فيه، ومن ذكل الوجودية التي صارت في زمن بعينه موظة الشباب المثقف والذي يظن نفسه مثقفاً، مما نعرف جميعاً الكثير عنها. ولكن الأهم من هذا أن علي بدر رأى أو تخيّل ما هو أكثر من ذلك أو تعداه أو تسلل تحته ولم يره الآخرون أو لم يكونوا يعترفون به من حقيقة هؤلاء المثقفين.. فبطل الرواية ينشأ نشأة غير عادية كلها مظاهر وتظاهر يُرسل بطريقة ما عن طريق عائلته الغنية إلى باريس ليكمل دراسته، ولكنه يعود “مع زوجته الفرنسية إلى بلاده معلّلاً النفس بحياة فلسفية دون شهادة في الفلسفة، فاستقبله المثقفون بعاصفة من التصفيق، والتشجيع، فأطلق عبارته الشهيرة (ما معنى الشهادة في عالم لا معنى له) فصرخ أحد الجالسين في وجهه مثل المجنون: (وهي كان سارتر فيلسوفاً بشهادته أو بفلسفته؟).”- الرواية، ص42.
وهكذا هو يفشل في كل شيء غير الانبهار بالوجودية، وتحديداً بملكها ورمزها الذي صار أيقونة الوجديين العرب قبل الغربيين، جان بول سارتر، الذي عرفه العرب أكثر ما عرفه عن طريق كتابات وترجمات بضعة مثقفين عرب أهمهم نهاد التكرلي وسهيل إدريس ومجبته (الآداب) وداره للنشر، (دار الآداب)، فيعود وقد تلبّسته شخصيته، بل كاد يتصور نفسه هو لولا أنه لم يكن أعور:
“ماذا لو كان أعور، لتتطابق الصورتان ملمحاً؟ فإن كان عبد الرحمن قد حلق شاربه وصفف شعره المسرّح المدهون على شاكلة تصفيفة شعر سارتر، وإن كان وجهه المثلّث الوسيم يحمل ملامح سارتر كلها: الأنف النحيف، الاستدارة الجميلة للخدود، الفم الملموم على نفسه، فإن هذا التطابق سيظل عصيّاً على التحقّق، طالما أن العَوَر لا يطال عينه اليمنى على الإطاق، فماذا سينقص الوجود لو صار أعور، وكان بعورهِ سارتر آخر؟ أدرك عبد الرحمن في تلك اللحظة عذاب الوجود لا عدالته، لو كان وجوداً عادلاً ومتساوياً وأخلاقياً، لصار عبد الرحمن أعور، لكان منحه الله العين العوراء مثلما منحها لجاسب الأعور الذي يبيع الخضرة الباهتة على عربة سحب في سوق الصدرية، فهذا الأعور الجاهر لا يُدرك عبقرية عينه السارترية (…)، وهكذا تجده حزيناً خجلاً من وجوده ناقصاً، في عالم كل من فيه يملك عينين اثنين لا واحدة، من عالم كله يَنشد للكمال.
“وإن كان عبد الرحمن يؤمن بهذا العور الفلسفي، ويعرف قيمته وعظمته إلا أنه يدرك في الوقت ذاته أنه عور صعب المنال (…) وهذا ما يجعله يتخاصم مع جاسب كلما رآه، وكان مشهده يعذّبه، كان يشتمه، ويهدده، ويصرخ به بأعلى صوته:
“والله لولا عينك العوراء هذه، لولا عينك العوراء التي تشفع لك، لسحقت رأسك بالحذاء.
“ولم يُدرك جاسب الأعور السرّ الذي يعتقده الفيلسوف في عينه العوراء، وما كان يعدّ هذه الشتيمة إلا سخرية مُرّة من عوره، فينفجر غاضباً في وجهه:
“أنعل أبوك لابو أبوك، لابو أبو سهيل إدريس؟!” ص37-38.
( 3 )
قد يصح القول إن علي بدر يذهب إلى ما وراء ما نراه، ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنه، وهذا مهم جداً لإبقائنا في صدق التمثّل والتمثيل، لا يغادر الذي نراه. كما أنه إن كان قد قدم ذلك كله بخطاب ساخر وكاريكاتيري، فإنه يبقى ضمن مساحة الصدق، بل ربما يعمق هذا الخطاب الصدق، خصوصاً حين يصل إلى جوهر الظاهرة أو الصورة أو السلوك ودلالاتها ليقدمه من خلال هذه الصورة الروائية. أحد أكثر الجوانب تماهياً مع نظرة دون كيشوته الساخرة إلى فرسان عصره، هو صورة الإدانة والسخرية التي ترسمها الرواية لفرسان عصرها، نعني مثقفي الستينيات في لغتهم وأساليبهم و(تفلسفاتهم) وخطاباتهم ونقاشاتهم وكلامهم غير المفهوم عادةً، متمثّلين، في الرواية، في خطاب (عبد الرحمن):
“سارع إسماعيل حدوب لتسجيل هذه الملاحظات التي دوّخته، هذه الكلمات غير المفهومة، هذه الملاحظات الملغّزة، لا لشيء إلا لأنها ملاحظات فلسفية. لم تكن فلسفتها بحاجة إلى برهان على الإطلاق، إنما كانت تدلّ على نفسها، لا من خلال تعقُّدها وحسب، إنما من خلال صياغتها أيضاً، ولذا كان إسماعيل لا يفهم الفلسفة إلا من كونها لا تُفهم، ولا يعرف الفلسفة إلا من من كونها لا تُعرف، وهكذا كان غموض كلمات عبد الرحمن يجذبه، يسحره، كان عبد الرحمن يقول أشياء غير مفهومة، غير معروفة، وكان يمنحه هذا الكلام نوعاً من التسامي والتفوق على أقرانه، لأنه غائب في بخار فلسفي.”- الرواية، ص67.
هي ادعاءات الأدباء، وأحياناً تصوراتهم وادّعات ما يتخيلون امتلاكه أو معرفته أو قيامهم به بأنهم يمتلكونه أو يعرفونه أو يقومون به فعلاً، وعلى طريقة القول الشعبي يكذب ويصدق كذبته، وهو يصير، وتحديداً في أسلوب الادعاء، عند الأدباء، ولاسيما أدباء الستينيات، هوساً يقودهم إلى أن يعيشوا اللاواقع على أنه واقع. وجل ذلك جسّدته الرواية من خلال تيار الوجودية الذي تعرض له، وتحديداً في هوس بطلها. ولكن مع ما في ذلك من سخرية، فإن الرواية لا تتخلى تماماً عن الثقافة الوجودية والفهم للوجودية حقيقية وليس صخباً وتهريجاً كما يبدو ظاهر الأمر. ولأن علي بدر لم يرد سخرية من الفلسفة الوجودية ولا من مصدرها فرنسا أو الغرب، بل هو عندنا لا يريد السخرية حتى من المتأثر بها ويتبناها من المثقفين العراقيين أو العرب عموماً بقدر ما يريد السخرية ممن يتأثر بها، أو بغيرها، من الفلسفات والنظريات والأفكار الغربية، دون أن يفهمها أو هو يفهمها خطأ وقد لا يرى منها إلا ظاهرها، فإنه- نقول لهذا- كان متأنياً، في سخريته من ذلك، في التعامل مع الغرب ذاته- وهو هنا فرنسا والفرنسيون.
( 4 )
مع كل غرابة، وربما لا معقولية بعض عوالم الرواية وشخصياتها وأحداثها، فإنها قائمة أساساً على أرضية واقعية، ولهذا فقد حضرت بيئة بغداد قوية، ولاسيما وتحديداً، وكما صار واضحاً، في الستينيات. ولكنها، وبسبب هذا التوزع ما بين الغرابة واللامعقولية من جهة والواقعية من جهة أخرى، تبدو لنا هذه البيئة البغدادية، وبما قد يبدو مفارقة، بيئة غير واقعية أو حقيقية تماماً، أو لنقل هي وقائع واقعية في بيئة غير واقعية، إن صح التعبير، وربما جزئياً على شاكلة ما يسمى في أعمال فرانز كافكا مثلاً، لا واقع يقوم في عناصره ووحداته على الواقع. بتعبير آخر “إنها قالب من اللاواقع مضمونُه الواقع”- على حد تعبير مترجم بعض روايات كافكا، الدكتور مصطفى ماهر. والجميل هنا، وقد فارقنا الواقع جزئياً، مع بقائه المكوّن الأساسي لما تقدمه الرواية، أن الروائي يصف بشيء من التفصيل شوارع بغداد ومحالها ومحلاتها، منطلقاً كما هو واضح من معرفة وألفة غير عادية ببغداد القديمة ومعالمها بما ذلك المكتبات والمقاهي وما إلى ذلك، ولكن مع التفات إلى الكامن أو المنزوي عن العين والوعي، إذا صح التعبير. وهو في الكثير من ذلك يُعنى أكثر ما يُعنى به، إضافة إلى مجتمع المسيحيين بشكل خاص، بما يُسمى بأدب القاع أو واقع القاع الذي يُعنى بعوالم قاع المجتمع المسحوق وأناسه. ضمن ذلك استخدام تفاصيل الأمكنة والمحال، ومواقع وأسماءً وسنوات وأزمان لإعطاء المتخيَّل قوة الحقيقي، وكأنه يريد، في ذلك كله، إلى إضفاء المبالغة في عدم تساوق كل ما يقدمه سيرة الرواية/ سيرة (فيلسوف الصدرية) مع الواقع الذي تسير فيه.
وعودٌ على بدء، لعل واحداً من أكثر مما يُحسب للكاتب، ومن جميع ما قدمته الرواية، هو ما يتمثل في طبيعتها الساخرة، فهي ليست سخرية عادية والرواية ليست مقدمة بأسلوب ساخر بشكل مباشر، بل إن الراوي- خصوصاً من خلال كونه مكلَّفاً بجمع وصياغة وتنظيم سيرة (فيلسوف) الصدرية- يقدم سيرته- التي هي الرواية ذاتها- بأسلوب جاد أو رزن ظاهرياً، ولكنه ينطوي على السخرية أو هو ينتج، في النهاية، سخرية عميقة لا تجعل من الأمر- وهو المضحك- مضحكاً. وهكذا كان من جميل سخرية علي بدر في روايته أنه أو راويه السارد يتكلم بكل جدية، وهو يحقق في النتيجة السخرية الدالة والمعبرة عما هو أبعد من السخرية بكثير، بل ربما بما يعاكسها، لا أظن أن مثل هذا سهل تحقيقه، كما يفعل حين يتكلم عن فلسفة بطله ورؤاه الفلسفية وآرائه في الثقافة والفلسفة وفي الآخرين انطلاقاً من (فهم) هذا البطل لذلك كله وكأنه فهم لا يضاهيه فهم. وهو في الحقيقة أو النتيجة يقدم ما يشبه جنوناً وفشلاً وربما تياً، هو تيه جيله الثقافي، كما يفعل مثلاً حين يقارن الراوي فلسفة بطله الوجودية ورؤاه بفلسفات عرب آخرين ورؤاهم، (يُنظر الفصل 37: ص144) وما عبده) وكأنه يقدم بحثاً أو تقييماً نقدياً وفكرياً وفلسفياً، وهو في الواقع يمضي في خطابه الساخر الجميل المضحك والدال في العين ذاته:
“في الواقع أن رواية سهيل إدريس بكل وجوديتها لا ترقى إلى الحياة العابثة المنحطة التي قادها فيلسوف الصدرية في الستينيات، كما أن كتابات عبدالله عبد الدايم ورينيه حبشي في مجلة (الآداب) أوائل الخمسينيات عاجزة عن صياغة رؤية وجودية عميقة تناظر رؤية فيلسوف الصدرية، أو تتوازى معها…
“لقد اكتشف الفيلسوف العراقي [عبد الرحمن] في هذا الكتاب المصور ما يلي: إن الفيلسوف الفرنسي يطابق ملامحه تماماً (…) ما خلا النظارة والعين العوراء، (…) قد صُعق عبد الرحمن لهذا الحدث، وأصابه الدوار، وسقط من على الكرسي الذي كان يجلس عليه في شقته الباريسية، لأنه أدرك بما لا يقبل الشك المهمة الموكلة إليه، لقد أدرك أنه من عائلة الفلاسفة لا من عامة الناس، وأنه مجبول على الأفكار لا على العمل، وأنه هو لا غيره الذي سيحمل هذا الفكر إلى وطنه.”- الرواية، ص146.
وربما بسبب هذا الشغف بالسخرية والأسلوب الساخر، تكاد كل شخصيات الرواية تكون غير عادية أو حتى غير طبيعية، بل غريبة في أشكالها وملابسها وسلوكياتها وحواراتها. ولعل من أغرب وأجمل ما في الرواية أن غرابتها ولا معقولياتها مقنعة.. وهنا بشكل خاص تلتقي مع أعمال كافكا.
بقي أننا نجد أنفسنا، وبعيداً التحليل والنقد كما قدمناه في كل ما سبق، لا نستطيع تحاشي الإشارة ظاهرة غريبة جداً، إذ تتعلق برواية متميزة في سرديتها وتخيّلها وخطابها الأدبي، وهي كثرة الأخطاء بكل أنواعها التي تكاد تكون إحدى المهيمنات عليها، وحين نقول هذا فلأن هذه الأخطاء جاءت خارج حدود المعقول في كثرتها وتنوعها، من أخطاء لغوية ونحوية وإملائية، وأخطاء طباعية، وأخطاء في السرد واضطراب الضمائر والتكرار والتناقضات وعدم الربط وغير ذلك مما يأتي بعضه عن عدم معرفة وبعض آخر عن إهمال وبعض ثالث عن سهو، وهو أمر غريب لا نستطيع أن نفهمه وسيتواصل إن لم يتعزز في قابل روايات الكاتب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- علي بدر: بابا سارتر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 2006.