عقول غسل وكوي

عقول.. غسل وكوي

ميسلون هادي

وحش طيب القلب وجد مخلوقة لطيفة فوضعها في قفص وأخذها معه إلى كوكبه البعيد… كان كل يوم يدور حولها ويفتح قليلاً باب القفص ليعطيها الماء والطعام ثم يغلق الباب من جديد ليتفرج عليها.. ولأنه من كوكب آخر فإنه لم يكن يفهم لغتها ولا إشارات يدها أو تعابير وجهها. وعندما كان يرى الدموع في عينيها، يسقط على قفاه من شدة الضحك لأنه كان يظن الدموع ألعاباً سحرية، وعندما كانت تئن من الخوف، فإنه كان يهز رأسه من شدة الطرب… وذات يوم بعد عدة أشهر أراد الوحش أن يتذوق تلك الدموع، فمد يده إليها ثم وضعها في فمه، وعندما وجدها ساخنة ومالحة تجهمت ملامح وجهه وغرق في حزن عميق لم يجربه من قبل، ثم قرر أن يفتح لها الباب لكي تطير.
هذا الوحش طيب القلب موجود هنا وهناك.. وهو كل من يعتقد أن رأيه هو الصحيح وآراء الأخرين تحتاج إلى فومين تايد وفوم خض بماء البوري… هو كل من يظن أنه عراب الأخلاق والفضيلة والباقون بلا أخلاق ولا فضيلة.. بل هو من يعتقد أنه الجميل النبيل الأصيل والآخرين (توم آند جيري) وأن دموعهم ودماءهم وآلامهم ألعاب سحرية يتفرج عليها ويضحك منها. رأيت بشراً بالآلاف في حياتي كان بينهم المسلم والمسيحي والصابئي والإيزيدي والذي بلا دين.. فوجدت الشرف صفة ملازمة لمن كان له ضمير حي وقلب من ذهب وليس لمن كان يعدم أفكار الآخرين لمجرد أنهم يخالفونه في الرأي.. يظن البعض بلا قيد ولا شرط أنّ هذه الارض العربية ستخلو تدريجياً من أهل الأدب والفن وأصحاب الخيال الجامح.. وستخلو من كل فكر تنويري خلاق وعندئذ ستصبح أرضاً ممهدة للخراب الذي يعني اللون الواحد والشعار الواحد وبمعنى آخر الدكتاتورية التي تشوه كل شيء جميل…. المشكلة هي أنه لا يمكن لاثنين من الإنس الاتفاق تماماً على شيء واحد.. بل لا يمكن لواحد فقط أن يتفق مع نفسه على رأي واحد.. فأي صورة تلك التي ستصبح جزءاً من التاريخ؟، ومن منها ستجسّد الحقيقة عبر التاريخ؟ التاريخ؟ التاريخ؟ التاريخ؟
هه.. أي تاريخ؟ …التاريخ أصبح شيخاً يمشي ولا يلتفت إلى الوراء، ليس له مضجع ولا مقعد، شعره أبيض، لا يجلس ولا ينام، ويمشي وحده، تحيط به الشموع….. يحمل بيده الدقيق الذي عندما تتساقط ذراته إلى الأرض يحرزه النمل ويصيب منه البشر الذين يفوز بهم التماسيح. يترك داره بلا ترتيب، ثم إذا انتبه يرتّبه خير ترترترتيب. ولو كان يمشي بمحاذاة القوي، كما يعتقد البعض، لكان القوي آبِداً إلى أبد الآبدين. نعله الذي يذوب من المشي وملابسه التي تبلى من الاستعمال، يتلاقفها الفقراء والمحرومون. أما الملابس التي تتسخ فيبعثها للغسيل الجاف وينسى أن يتفحص جيوبها قبل أن يرسلها للمصبغة، وعندما تعود يكتشف أن جيوبه قد سرقت وربما تغيرت الألوان..
هه.. التاريخ! في كل حين من الزمان له حفل موسمي يقيمه ويدعو الناس إليه مع الرجاء الحضور المبكر، فيحضر الجمهور ليصفقوا أو يهتفوا له بالروح والدم. ويسيل الدم بالفعل أنهاراً تجري على الأرض، لحاجة التاريخ إلى أن يبدل خطواته من اليسار إلى اليمين، أو من اليمين إلى اليسار، فيضع لينين بدلاً من بطرس الأكبر، وعبد الكريم قاسم بدلا من الملك فيصل، وجمال عبد الناصر بدلاً من الملك فاروق. ولكنه يعود بعد حين ليضع تمثال بطرس الأكبر بدلاً من تمثال لينين، وتمثال عبد الكريم قاسم بدلاً من تمثال عبد الوهاب الغريري وربما الإسلامبولي بدلاً من أنور السادات…… التماثيل التي لا تسقط من الساحات هي فقط تماثيل الفلاسفة والشعراء والفنانين من الذين ينظرون إلى الموضوع الواحد من أوجه مختلفة فينجون من العقاب. التماثيل التي لا تسقط من الساحات هي فقط تماثيل الفلاسفة والشعراء والفنانين من الذين ينظرون إلى الموضوع الواحد من أوجه مختلفة فينجون وتنجو حقائبهم من السقوط إلى الحضيض. أما الذين تطير ملابسهم من حبل الغسيل، فهم التنابل من أصحاب الحقائب الدبلوماسية المملوءة بالمناشير التي تنظر إلى الموضوع الواحد من جهة واحدة، تقدسها كما تقدس القبلة… تلك النظرة الواحدة تسمى بالأيديولوجيا. وكما يرد في المعاجم والقواميس، فإن كلمة أيديولوجيا ملتئمة من اجتماع كلمتين، أولاهما idee معناها الفكركركركرة وثانيتهما logo ومعناها العلم لم لم لم لم لم، فالكلمة إذن تعني باللغة اليونانية علم الأفكار، أي في أن يجعل الإنسان من أفكاره عقائد ثابتة، قد تتحول إلى dogma راسخة في الدين أو الأخلاق أو السياسة.
وفي القرن العشرين، الذي انقضى منذ أعوام قليلة، كان القادة يظهرون، وكل واحد منهم يعتقد أنه الزعيم الأوحد أو الرئيس الأوحد أو أنه صاحب النظرية الأولى والأخيرة في بلاده والعالم، وما على الجماهير إلا أن تغني وتصفق ثم تقول يعيش طشت الغسيل. في عصر الأيديولوجيات الذي كان كلُّ قائد فيه يعتقد أن حقيقته هي الوحيدة، وسعادته هي الوحيدة، وشعبه هو شعب الله المختار، كان من الطبيعي أن تتحول الأفواه إلى أيديلوجيا والكروش إلى أيديلوجيا وربطات العنق إلى أيديلوجيا والشوارب إلى أيديلوجيا واللحى إلى أيديولوجيا والسوالف الى أيديولوجيا والبراقع إلى أيديلوجيا والدشاديش إلى أيديلوجيا والغرر إلى أيديلوجيا، وتلك الأخيرة هي أنصع انواع الأيديولوجيا، لأنها مرسومة وموسومة على الجباه اه اه اه.
المشكلة هي أنه لم تعد الطوباوية أو الواقعية أو الاشتراكية أو الرأسمالية أو العلمانية أو الليبرالية أو الماركسية أو الإسلامية أو العولمة هي وحدها الأيديولجيا بل أصبحت الروتانا أيديولوجيا، والبي بي سي أيديولوجيا، والسي إن إن أيديولوجيا، والإم بي سي أيديولوجيا، والجزيرة أيديولوجيا والإل بي سي أيديولوجيا، وبوس الواوا أيديولوجيا. ولو جاء أحد ما وقال بنهاية عصر الأيديولوجيات فإن ما يقوله هو الآخر سيتحول إلى أيديولوجيا. ولكن أرباب الأنترنت من سكان الهواء عبثوا بالأيديولوجيات أيّما عبث، فوضعوا ضحكة بوش على وجهي قحطان وعدنان، ووضعوا عقال عبدالله فوق رأس رامسفيلد، ورأس كونداليزا فوق جسم هيفاء. وأصبح من غير الممكن الاحتفاظ بعبارة أكيدة ومحددة إلا في مواقع محددة ومحصنة أمنياً، فصار من المضحك ان تدخل عبارة لعادل إمام مع خطاب النصر الذي أعلن فيه جورج بوش انتهاء المهمة في العراق بمشيئة الرب، أو أن يدخل مقطع من قصيدة لنزار قباني في خطبة دينية للشيخ يوسف أو الشيخ عثمان. بدأت المشكلة بعد ذلك تتفاقم عندما أخذ عمال المطابع الاسلاميون في مصر يغيرون في الروايات على هواهم فحذفوا ليوسف السباعي، الذي اغتيل في قبرص بعد تأييده لكمب ديفيد، مقاطع كاملة من روايته نائب عزرائيل..
هه.. ماذا سيفعل التاريخ الآن؟ وماذا سيقول؟ وماذا سيحذف بقلمه الأحمر؟ وكيف سيراقب ما يقوله الآخرون؟.. ومن المتأكد مما قاله الآخرون؟.. عايز تعرف حظك؟؟ عايز تعرف برجك؟؟ خمسة وأربعون قطعة من الطقم الصيني بتسعة وتسعين جنيها،ً وإذا أخذت بدل الطقم طقمين فسنعمل لك خصماً كبيراً.. ونهديك طنجرة رز فاخرة.. اتصلْ الآن. الطائرة جاهزة للإقلاع.. والكهرباء على وشك الانقطاع.. فاتصل على الرقم الظاهر على الشاشة….. أول المتصلين سيأخذ الطقمين مجاناً.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

النصف الآخر للقمر

ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *