عشرة ايام من العزلة

عشرة أيام من العزلة
ميسلون هادي
لست هنـا بـصـدد تقديم وصفة «سريعة» للأدباء الذين يعانون من ضيق الوقت وحالة الشعور بالذنب بسبب إحساسهم المضني على الدوام بأن «الوقت» أثمن من أن يضيع بالتنزه أو التبضع أو الثرثرة أو زيارة الأقارب والأصدقاء، وبأن الثواني والدقائق سیوف ذوات حدين، إن لم تقطعهـا أنت «كتباً» قطعتك هي «إرباً»، حتى صارت الكتـابـة ديناصوراً يقضم الحياة ويقتلها ببطءشديد، وبات الأمر كله عبارة عن معركة مع الوقت الخاسر الوحيدفيها هو الكائن الفاني بكل تأكيد.
تذكرت ذلك كله عنـدما أتاح لي ظرف معين عشرة أيام من العـزلـة التـامـة قرأت خلالهـا ألف صفحـة.. أي بمعدل مئةصفحـة في اليـوم وهـو رقم لا أحلم بإنجـازه في الأيام العادية على أيـة حال.. والألف صفحـة تلك عبارة عن روايتين ضخمتين أحـداهـمـا لـمـاركـيـز والأخرى لهيرمن هيسة… والـروايتـان كـانتـا مـوضـوعتين على منضدة الكتابة في البيت منذ مطلع هذا العـام، وكنت أؤجـل قراءتهما في كل يوم إلى اليوم التـالي، حتى إذا ما جاء اليـوم التـالي حاصرني الوقت وطردت السـاعـات بعضها بعضاً إلى أن تدق ساعة النوم، فآوي إلى الفراش تلاحقني عقدة الشعور بذنب لم أقترفه! بل أن لعبـة تـحـدي الـوقت ، التي أتبعهـا لإنجاز الكثير من مشـاريعي، فشلت في إتـاحـة التفرغ و(صفاء الذهن) اللذين أنشدهما لقراءة عميقة ومتأنية ومفيدة.
ولكن ما أن جاءت الفرصة – لم تكن فرصة سعيـدة على اية حال – حتی دُهشت للنتيجـة.. وأغراني الرقم حقاً: مئة صفحة ومن -الوزن الثقيل- في اليوم الواحد؟؟
قلت لنفسي: ماذا لو وفرت لنفسي عزلة كهذه مرة في الشهر؟؟ هذا يعني قراءة كل ما أستعرته من الاصدقاء والصـديقـات ومـا اشـتـريـتـه مـن معـارض الكتب ومـا أهداني إياه المؤلفون والمترجمون والزملاء من (الأدباء الشباب).
أخرجت ورقة بيضاء من درج المكتب، وأنا أردد في سري بجذل: فعلا ماذا لو هيأت لنفسي عزلة كهذه مرة كل شهر؟. أليست هذه الطـريقة أفضـل من لعبـة تـحـدي الوقت التي لم تمهلني شطب نصف أسماء الكتب التي ثبتهـا على قائمة القراءة في برنامج العام الماضي.
وقبـل أن أتمادى في أحلامي وأتخيـل عزلـة إجبـاريـة تُمنح للأديب مرة كل شهـر يعكف خلالها على تقديم القرابين اللازمة لآلهة الكتابة.. وقبـل أن يتـراجـع فرحي بذلـك الـحـل السـحـري الـذي اكتشفته للتحايل على الوقت! تناولت القلم بيد ووضعت على قلبي اليد الأخرى، وحررت على الورقة البيضاء التي أمامي «طلب إجازة» لمدة عشرة أيام أخرى.
مجلة فنون. الثمانينات

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

النصف الآخر للقمر

ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *