عبد الستار ناصر
أديب له جمهور
د. نجم عبدالله كاظم
يجب أن أعترف بداية بأن أصل هذا الموضوع هو مقال نشرته في جريدة (العراق) عام 1993. أعود إليه هنا بمناسبة وفاة جميل القصة العراقية ورومانسيّها بامتياز، عبد الستار ناصر لأرفع منه أشياءً وأضيف عليه أشياءً. وإذا كان هذا الموضوع قد كان، في حينها، مثار استغراب البعض وربما رفضهم، لأنه يتناول هذا القاص من زاوية لا يراه منها الآخرون، فإنه برأينا ما عاد يثير هكذا استغراب، ولأديبنا– على أية حال- ما له وما عليه بكل تأكيد، شأنه شأن كل أديب، بل كل إنسان، خصوصاً أن ما نراه في عبد الستار ناصر إنما هو تميّز قد يتناقض وكونه واحداً من أكثر أدبائنا أثارةً للنقد والانتقاد والرفض وسوء الفهم وربما الاستهجان، على الأقل من فئة بعينها من القراء و(المثقفين)، مما قد لا يكون، في كثير من الأحيان، موضوعياً. ومع أنني كنت ومن مدة طويلة أتمنى أن تُتاح لي فرصة أدرس فيها هذا الأديب دراسة نقدية مفصّلة إلى جانب تناولاتي المعدودة والمحدودة لبعض قصصه في ثنايا ما كتبته عن الأدب القصصي العراقي، إلا أن مثل هذه الفرصة، ولأسباب لست بصددها هنا، لم تُتُح لي إلى أن صادفتني مناسبات معينة، آخرها فقدان هذا الأديب الساحر بكتابته وشخصيته، جعلتني أكتب هذا المقال القصير. فقد حدث ذات يوم أن سألتُ طلبتي في كلية الآداب، وكما اعتدت أن أفعل مع كل دورة منهم، عمن يقرؤون لهم من الأدباء؟ فذكر معظم الطلبة أسماءً أجنبية وعربية– غير عراقية- دون ذكر أديب عراقي عدا السياب من الشعراء، وعبد الستار ناصر من القاصين. واذا لم يكن في ذكر السياب ما يثير الدهشة، فان ذكر ناصر لهو مثارها فعلاً، ويزيدها أن بعض الطالبات لم يعرفن الاسم فقط، بل أبدين اطلاعاً جيداً على الكثير من قصصه. تساءلتُ مع نفسي عن سر انفراد هذا الأديب، من بين كل الأدباء العراقيين المعاصرين، بميول الطلبة؟ وحاولت، قبل الحصول على إجابة مقنعة، تعليل ذلك بما عُرف عن كتابات ناصر من قدرة على مخاطبة الشباب والفتيات منهم بشكل خاص، وبأعمار بعينها بالتحديد، وفي جعل المرأة وعوالمها وعوطفها محوراً مركزياً ومحبوباً في الكثير من كتاباته، وبأسلوب فيه من الحلاوة والسلاسة والشفافية ما يطبعها بطابع خاص جداً.
أقول حاولت تعليل الأمر بهذا، إلى أن وجدت نفسي يوماً استلقي بين يدي طبيب أسنان لأعالج بعض عدوان الزمن على أسناني. وبعد أن عرف الطبيب تخصصي، أبدى، ومن زاوية نظر من هو بعمر غير أعمار طلبتي بالتأكيد، رأياً صريحا حد القسوة بالأدب العراقي، ومفاده أن الأدباء العراقيين لا يستحقون أن يُقرأ لهم، إذ هو لا يجد في كتاباتهم ما يجده لدى الأدباء المصريين مثلاً، ثم أكمل بالقول المفاجئ: “اللهم عدا كتابات عبد الستار ناصر”. ابتسمتُ مع نفسي واسترجعت تساؤلاتي السابقة، وشغلت نفسي بأديبنا بعض الوقت، متوقفاً عند موضوع القراءة للأديب، وسألت نفسي من جديد: أليس أن يكون الأديب مقروءاً من عامة القراء تزكيةً له؟ شخصياً أظن ذلك، مع أن هناك مِن الأدباء والنقاد من يترفع على هذه التزكية مما لا أجد تبريراً له غير إحساس داخلي من هؤلاء بما يشبه الغيرة والإثم كونَهم لا يحظون بمثل هذه التزكيه، ليتعالوا، في رد فعل نفسي، على مثل هؤلاء القراء. ومن هنا بتنا نجد من هؤلاء قصاصين وشعراء، ومن الشباب بشكل خاص، مَنْ إذا سألتَه عمن يكتب له أجابك بعناد وبما يشبه التمرد الطفولي: أكتب لنفسي، وربما لحبيبتي، أو: لا يهمني أيقرأ أحد ما أكتب أم لا، مع أن مثل هذه الكتابات، حتى وإن كانت مكتوبة فعلاً للذات وللحبيب، لا بد من أن تعبر، من حيث يقصد الأديب أو لا يقصد، عن كل من يتمثل في دواخل الأديب وأحاسيسه وتجاربه التي يكتب عنها، وهو ما قد لا يعيه البعض. وهنا أتذكر حكاية ذلك الأديب السوفييتي الذي أراد أن يطبع ديوان شعره في زمن ستالين، وكان شعراً رومانسيا يتغزل فيه بحبيبته، مع أنه كان يحمل بين كلماته أحاسيس كل المحبين. ولأن هذا كان في زمن الحكم الشيوعي الشمولي، لم يتجرأ أحد من مسؤولي النشر آنذاك على الموافقة، وراح كلّ منهم يرفع الطلب إلى من هو فوقه في سلسلة المراجع حتى وصل إلى ستالين نفسه، فما كان من هذا إلا أن أوصى بطبع نسختين من الديوان، واحدة للشاعر والثانية لحبيبته.
وبالعودة إلى عبد الستار ناصر نقول صحيح أن كاتبنا يضمّن كتاباته الكثير مما عكسه ذلك الشاعر من المشاعر والعواطف والأحاسيس وخصوصية الأفكار والموضوعات ووجهات النظر، إلا أنها ذاتية تشعّ بما هو عام وإن كان نسبياً أحياناً، وخصوصية من الممكن أن تكون خصوصية أي إنسان، لتخرجها عمليا، في ذلك، من الخاص إلى العام. أما لماذا لا نفهم مثل هذا في التعامل مع عبد الستار ناصر وكتاباته؟ فإنه يعود، برأيي، إلى أن بعض نقادنا وأدبائنا يُسقطون، في تعاملهم مع كتابات هذا الأديب، علاقاتهم بالأديب نفسه وآراءهم بشخصه وبحياته كما يرونها مما هو من شأنه بدرجة أساس. وهم قد يعيبون عليه جرأته ومبالغاته في طرح بعض الأفكار والموضوعات (الحساسة والخاصة جداً أخلاقياً) حتى وإن كانت تمسّه هو. وإني لأعتقد أن مثل هؤلاء كانوا سيُعجبون بمثل هذه الجرأة لو أنها صدرت من كاتب أجنبي. ولنا في الاعجاب بلورنس وبودلير ومالرو وغيرهم أمثلة واضحة على ذلك، لكن عيب بعضنا أنه يستحي ويتعفف عن التصريح ولو بجزء صغير مما يفعله سرّاً، وإني لأشك أن عبد الستار ناصر يفعل سرّاً ما يصرح علناً بأنه يفعله، إذ لا يبدو أغلب هذا الذي يصرح به أو يعبّر عنه صحيحاً. والآن أتساءل لماذا لا يغادر هؤلاء هذا الجانب في كتاباته، وبلتفتوا إلى أهمية أن يكون لدينا أديب له جمهور؟ أم هل أن (الجمهور) قد فقد أن يكون مهماً بعد أن يئس الأديب العراقي من أن يكون لديه جمهور فعلاً، وعانى من جهل الآخرين– بمن فيهم جيرانه وأصدقائه وربما أهله – بما يكتب، بالرغم من أهمية بعض ما يكتب، وربما خطورته؟. أظن أن التوسل بكل الوسائل لخلق جمهور للأديب العراقي لهو بذاته كافٍ للنظر بعين الاهتمام الى أديب مثل عبد الستار ناصر نجح في خلق جمهور له، ثم أليس من المنطق والحكمة أن نترك شيئاً من تحديد الموقف من أي اديب لهذا الجمهور الذي من أجله يكتب الأديب ولأجله تُطبع الكتابة وتتعدد الطبعات وتقام معارض الكتب؟ أما اذا لم يرض بعضنا بمواقف القراء، فليطبع إذن من كل ما يكتبه نسخه واحدة، ولا بأس باثنين، ولكن ليدع غيره يكتب للآخرين، كما (كان!!!) يفعل الكاتب الكبير عبد الستار ناصر، الذي يكفيه فخراً أن يقول الناقد الصديق ناظم عودة عنهك “في التسعينيات، كانت لديّ مكتبة لبيع القرطاسية والكتب والمجلات، سألتني أكثر من فتاة في الثانوية والجامعة عن قصصه، فجلبتها تحت مصلحة تجارية، فكانت أكثر الكتب مبيعاً في مكتبتي، وكنتُ أتناقش مع بعض الجميلات المفتونات بكتاباته حول تلك القصص، لأعرف عن كثب كيف تعالج بصدق مشكلات طبقة معينة من القراء، وفي عمان ذكرتُ له ذلك في جلسة خاصة في مقهى السنترال، فبدت على وجهه ملامح السعادة”. وهي سعادة أظن الكثير من كتّابنا لم يحسّوها لأنهم ليسوا مثل الكاتب الكبير عبد الستار ناصر الذي بوفاته اليوم فقدنا أديباً له جمهور.