عبد الرحمن منيف الروائي قاصاً

عبد الرحمن منيف
الروائي قاصاً

د. نجم عبدالله كاظم
(1)
يمكن القول إن هناك قلة من الكتاب من مارسوا الكتابة الروائية والقصصية على حد سواء بحيث برّزا في الفنين، وعليه لا نستطيع إلا أن نصفهم بأنهم روائيون وقاصون، حتى أننا لا نكاد نقدر على الإشارة إلا إلى أسماء على عدد أصابع اليد والواحدة، ولعل أشهرهم على الإطلاق إرنست همنغوي، ونشير إلى كافكا وفؤاد التكرلي. وقد ينطوي هذا على ما ينكره البعض من حدود ما بين الأجناس الأدبية التي تعني أن لكل جنس أدبي، وهنا نعني الرواية والقصة القصيرة، طبيعته وما تفرضه من متطلبات قد تكون في بعض الأجناس صارمة وفي بعضها الآخر مرنة، الأمر الذي يجعل الكتابة في الحالة الأولى أكثر صعوبة منها في الحالة الثانية. وهكذا إذا لم يكن من المتواتر عبور القاص إلى الرواية، أو تكريس نفسه روائيا، فإن الروائي عادةً ما يكتب قصصاً قصيرة، وهو الأمر الأكثر شيوعاً. بل يكاد أن يكون سياقاً متعارفاً عليه بحيث قلما نجد روائياً لم يكتب القصة القصيرة، كما هو الحال عند تولستوي وفوكنر ونجيب محفوط والطيب صالح وعبد الرحمن منيف الذي نتوقف هنا عند ثلاث من قصصه القصيرة، وهو الذي قلما كتب في هذا الفن. تلك القصص هي: “ابتعدتْ الباخرة كثيراً”، و”عالمان”، و”عملة مزيفة”. وهنا يجب أن ننوه بأن منيف إنما كتب هذه القصص قبل أن نعرفه روائياً، إذ هي تعود إلى ما قبل ذلك([1]). القصص التي نتناولها من المجموعة منشورة في جريدة (أخبار الأدب) القاهرية أيضاً([2])، التي تنقلها عن مجلة (الآداب) التي نشرتها هي الأخرى قبل ذلك بثلاثين سنة.
(2)
استذكاراً للفروق ما بين القصية القصيرة والرواية متجسدةً في العمل المكتوب أكثر منها افتراضات وتنظيرات ومقدمات، نجد من جميل ما يعبر عنها قول إيزابيلا إيلندي: “في الرواية يخلق الكاتب جواً من خلال التفاصيل وهو ينسج عمله الروائي مثلما تنسج العاملة بساطاً مفعماً بالألوان. أما القصة القصيرة فهي سهم لا يحق للكاتب أن يرميه إلا رمية واحدة، عليه أن يختار الاتجاه الصحيح والسرعة الصحيحة وعليه أن يشد القوس بقوة مناسبة. في القصة القصيرة أنت لا تملك الوقت ولا المكان لارتكاب الخطأ، كل الأخطاء تظهر. فإن لم تكتب الجملة المناسبة منذ بداية القصة فلك أن تنسى قصتك، لا فائدة في مواصلة الكتابة”([3]). ومثل هذا هو، برأينا، ما تمثّله منيف بقصدية أو بدونها. ولعل أولى الملاحظات التي يمكن أن نسجلها عن قصصه الثلاث، ونحن ننطلق من وعي مسبق بكون صاحبها هو روائي، هي أن أيّاً من خصوصيات الفن الروائي أو لنقل الكتابة الروائية لم تهيمن على قلم الكاتب لتبقيه ضمن شروطها، بل لا يمكن لك، لو قرأت القصص وأنت جاهل بصاحبها، إلا أن تجد كاتبها قاصا بامتياز. فمقابل الطول وجدنا القصر، وبدلاً التفصيلية كان التكثيف، وإزاء الموضوعات الكبيرة والامتدادات الحياتة- إن صح التعبير- كان الحدث أو الأحداث المحدودة واللقاطات الإنسانية، وإزاء الكشف وقيادة مجريات الأحداث نحو الحل والإيفاء بالإجابة على الأسئلة التي قد تثار وتقديم النهايات الوافية كان التلميح والإيحاء.. إلخ. بل لا نبالغ إذا ما قلنا أن قصص منيف الثلاثة، بما انطوت عليه من التقاط حالات أكثر منها أحداثاً وإيحاءات، فضلاً عن القصر والتكثيف، هي أقرب إلى القصصة القصيرة جداً منها إلى القصص القصيرة الاعتيادية، وذلك بخصائصها المعروفة: القصر، والتكثيف، ومحدودية الصراع، ومحدودءة الشخصيات، وخصوصية موضوعها المتمثل بموقف أو حالة إنسانية نابعة عادة من دواخل الإنسان، واتجاهها نحو (تفجير) الموقف أو الحالة، وانتهائها بما يُعرف بالضربة النهائية، وأخيراً إيحائها بما هو أبعد من نهايتها([4]).
وسواء كانت هذه القصص قصصاً قصيرة اعتيادية أم قصيرة جداً، أم غير ذلك، من الطريف أننا نكاد نجد أنفسنا إزاء حالات إنسانية بعيدة عن أن تكون أحداثاً، وحتى إذا اعتبرناها أحداثاً، فإنما هي، بعيداً عن سياقها الإبداعي الذي تأتي عليه هنا، حالات وأحداث عادية مما نراها في الحياة وقد لا تثير فينا شيئاً، لكن الكاتب أو البنية الأدبية التي أتت فيه تجعل منها غير ذلك. فالأحداث نفسها والمواقف نفسها والحالات نفسها التي نجدها ونلاقيها ونراها وتمر بنا ونعيشها ولكنها بما تعطيه لنا هنا هي ليست نفسها تماماً، وهذا ما يذكرنا بقضية الموضوع وتقديم الموضوع، المضمون والشكل، المحتوى والبنية، وكل ذلك في النقد الأدبي الحديث، وفي النقد العربي القديم، وفي هذا يقول الجاحظ: الموضوعات مرمية على الطريق ومتاحة للجميع، ولكن المهم هو الشكل الذي تقدم به أو كيف نقدمها، أي على رأي الشكلانيين ليس المهم معنى الأدب وموضوعه بل أدبية الأدب. وإذ يتجسد هذا الفرق محسوساً حين نقرأ أية قصة لأي قاص مقتدر، فإن ما نحسه في قصص منيف لهو أكثر من هذا. ذلك أنه يلتقط مشاهد إنسانية أو لقطات حياتية أو حالات نفسية لا تبدو، حين نراها أو نحكيها أو تُحكى لنا، عادية، لكن قاصاً مثل منيف يميزها بالشكل، على وفق ما أراده الجاحظ، أو الأدبية حسب الشكلانيين، أو الأسلوب والكيف بالتعبير العام. هي عنده، إذن، ثلاثة أمور، الأول ما يلتقطه في ذلك مما قد لا تراه العين العادية، والثاني الزاوية التي يلتقط منها موضوعه أو حدثه أو حالته، والثالث الكيفية أي الإسلوب الذي يفعل به ذلك كله. وهذا إذا ما يذكّرنا، بشكل ما، بالتأسيس له على يد تشيخوف، وبممارسته كأحسن ما يكون على يد كاترين مانسفيلد وإرنست همنغوي، وبتحقيق القمة فيه على يد بورخس، فإنه ليكتسب نكهة خاصة في قصص منيف. وفي كل هذا تتحقق المفارقة التي لعلها في القصة القصيرة، ولا سيما القصيرة جداً، تكون ضاربة ومؤثرة أكثر منها في أي نص إبداعي آخر.
(3)
تبدأ القصة الأولى، “ابتعدتْ الباخرة كثيراً”، بصافرة باخرة إيذاناً بإبحارها: “أطلقت الباخرة صفرتها الثانية.. وبعد قليل سوف تتحرك. الأوراق الملونة تمتد كشريط لا ينتهي! بين الرصيف وكل شيء على الباخرة، تريد أن تمسك بها، أن تمنعها من الرحيل!”. لأول وهلة يبدو الأمر وكأن القصة مقدمة من وجهة نظر شخصية امرأة مسافرة يودعها أحدهم و”بعصبية قبلها وركض إلى الرصيف”، وحين راح الرصيف يبتعد عنها، “ولما لم تعد تحتمل ركضت بعصبية إلى مقصورتها وكأن شيئاً ما يطاردها”. لكننا سرعان ما نكتشف أن القصة مقدمة من وجهة نظر شخصية أخرى هي شخصية رجل كان يراقبها.. “حاولت أن أراها مرة أخرى، انتقلت بين البار والمطعم مرات كثيرة طوال النهار، لكن لم أرها”. في اليوم التالي، وعلى ظهر السفينة، “رايتها هناك.. كانت وحيدة متعبة، تنظر باتجاه الشاطئ الذي تركناه. كانت تحدق في الفراغ.. وتأكدتُ أنها لا ترى سوى شيء واحد.. ولكن لم تصبر طويلاً.. ضربت الحاجز بعصبية ومرارة وركضتْ”. وتتواصل مراقبته لها في وحدتها وحزنها وكآبتها الواضحين، حتى اليوم الثالث حين تصل الباخرة وجهتها، وهو ينزل من السفينة يلمحها “كانت تتأبط شاباً قصيراً متيناً. كانت تنظر إليه بلهفة مجنونة وتضحك، وكانت تمسك به بقولة”. لتنتهي القصة بضربته حين يقول الراوي في جملتها الأخيرة: “وفي تلك اللحظة عرفت أكثر من أي وقت لماذا يُصبح الإنسان حزيناً”.. ذلك هو ليس الفراق أو المغادرة أو ترك الوطن أو الحبيب، بل أن يكون وحيداً. والمهم بعد هذا لكي يكون له الخلاص من هكذا حال هو أن يكون معه أحد أو أن يكون مع أحد، وليس مهماً جداً من يكون هذا.
مع ما قد يعنيه سفر بطلة القصة الأولى وإبحار باخرة من علاقة بالخارج بالآخر وبالمكان البعيد، فإن هذا الخارج والآخر والمكان البعيد لم يتمظهر فيها فعلاً، وهو ما تحقق فعلاً في القصة الثانية، “عالمان”، حين ينتقل مسرح حدث قصة منيف في هذه القصة إلى ألمانيا. ولكن ما يتكرر، وبما يعني ارتباط القصتين ببعضهما، هو السفر الذي نجد الراوي بطل القصة يتهيأ له هو وصديق حين يأويان إلى بار في تلك المدينة الألمانية قبل السفر. يستعيد الاثنان الذكريات والماضي، ولكن، وتلاؤماً مع طبيعة القصة القصيرة، دون أن نعرف عنها شيئاً، إذ يتم التعبير عنها بضبابية.. “ونغيب في الذكريات.. نتذكر إنساناً لم نره منذ سنوات، وتمر أطياف بشرٍ منسيين..”. وكأننا إزاء ما يرسخ هذا الغموض، حد الإلغاز هذه المرة، ينبثق، ومن خلال مراقبة البطل لينتقل منه إلينا، من أحد أركان البار شخص يتصرف بشيء من الإثارة- لنا- إذ “كان ينظر بسرعة نحونا بين فترة وأخرى، وكأنه يبحث، عبر الدخان وأقداح البيرة، والابتسامة الحزينة التي ترتسم على شفتيه، عن شيء ما.. كنا نهرب من نظراته وتشغلناعنه الذكريات”. فيما تتعزز هذه الإثارة والغموض والإلغاز، في تصاعد تقدمه القصة القصيرة عادة، مع اتجاهها نحو النهاية، يأتي ما يبدو تهيئةً للحل الذي ننتظر أن تنتهي به القصة: “انقضى أكثر الليل.. لم يبق في البار إلا نحن وذاك الرجل المسن وثلاثة رجال انضم إليهم الساقي وبدؤوا يلعبون الورق”. ثم “وما كدنا ننظر إليه هذه المرة حتى كانت تلك النظرة مثل جسر أُقيم في لحظة.. فما كان منه إلا أن حمل كأسه وجاء”.
(4)
الموضوع أو الثيمة المشتركة بين القصص هو الوحدة والمعاناة منها والتوق إلى الآخرين، ومن كلمات قليلة ينبس بها الرجل الغريب والمثير تبدأ شبكة الإلغاز تنحل، حين يقول بعد أن يضع كأسه على طاولتهما حتى دون دعوتهما له للانضمام إليهما: “بقي لي عشرة أيام.. نعم عشرة أيام.. أين يمكن أن أذهب؟ أريد بشراً.. آه لم تمت.. الآن انتهى كل شيء”. إذن هو الفقد والإحساس به وبما يجرّه من الشعور بالوحدة المقترنة بالحاجة إلى الآخرين… أين يمكن أن أذهب؟ مع من أتحدث؟”. ويتفجر أكثر، ليثير ما لمحت به القصة وربما أرعبت البطل أو الصديقين منه وإن لم تقل به مباشرةً حين سيفترقان في اليوم التالي، يقول: “لقد أردت أن نكون أصدقاء، لكنكم كنتم بعيدين.. سأشرب كأسي وأمشي.. لا فائدة.. لقد ماتت زوجتي قبل أسبوع، وابنتي الآن في رحلة مع صديقها”. وإذا كانت أزمة القصة هنا قد انتهت، وبما لا يعني أنها حُلّت، فإن منيف يأبى، ما دام تعامل مع الإلغاز من جهة ومع البعد الإنساني من جهة ثانية، إلا أن يقدم لنا، على طريقة ما قدمه في القصة الأولى، ضربته الجميلة والمثيرة. فبعد مغادرة الرجل بقليل يخرجان و” لم نكن نمشي بضع خطوات حتى وجدنا الرجل يستند إلى جدار ويبكي.. كان يبكي بحرقة. ومشينا بصمت، ولم نستطع أن نستعيد أية ذكريات أخرى”.
واضح من بداية القصة الثالثة، “عملة مزيفة”، أنها تفترق موضوعاً عن القصتين السابقتين. وربما هي أكثر انتماءً إلى قصة قصيرة جداً من القصتين السابقتين، ولكن دون أن يبتعد عن الدقة تصنيفنا لها جميعاً على أنها من هذا الشكل القصصي. هذه القصة الثاثة تقدم مشهداً مما تُعنى به تماماً القصة القصيرة جداً، أكثر منه حدثاً وبما يعني أن فيه من الحدثية شيئاً قليلاً، وهو ما نختلف فيه مع البعض ممن يرون بعض ما لا يمتلك حدثاً قصصاً… طفلتان تراقبان وتنظران إلى القصاب وتنتظران. ولكنّ هناك صوتاً آخر هو صوت الراوي البطل الذي يروي بصيغة الأنا كما القصتين السابقتين، ولكه البطل المراقب أكثر منه الشخصية المشاركة. تبادر إحدى الفتاتين بعد طلبات الزبائن للكيلو والثلاث كيلوات والنصف كيلو لتطلب من القصاب وهي تناوله أوارق نقدية عظماً بهذه الأوراق النقدية.. “يمسك الأوراق، يقلبها، يطويها، يعيدها دون كلمات.. يحرك يده بقرف. تنزلق الصغيرتان إلى الخارج”. ثم تأتي الضربة الأخيرة حين تنطلق الفتاتان منسحبتين بعد الإخفاق في الحصول على ما أرادتاه على تفاهته، ثم “تمرّ سيارة مسرعة.. تترك خلفها كومة من اللحم الطري المعجون بالدم”.
نقول أخيراً اننا سنبقى، مهما تكلمنا عن قصص عبد الرحمن منيف هذه، دون مستوى الرضا النهائي عما قدمته تلك القصص. وإذا كان هذا شأن النصوص الإبداعية في ظل المناهج النقدية الحديثة، ولا سيما مناهج القراءة والتأويل، فإن قصص منيف بالذات تمتلئ بالفراغات التي قال بها أحد منظري القراءة، وليس علينا أن نسعى لملئها، بل هي ستفعل ذلك بنا ومن حيث لا نحس.


[1] ) عبد الرحمن منيف: أسماء مستعارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، والمركز الثقافي العربي للشر والتوزيع- الدار البيضاء، 2006. وتشير سعاد منيف، التي ربما هي ابنة الكاتب، في التعريف بالمجموعة بالقول: إن قصص المجموعة إلى سنتي 1969 و1970.
[2] ) مجلة أخبار الأدب، ع558، في 21 مارس 2004، ض18، نقلاً عن مجلة (الآداب) البيروتية، ع يناير- فبراير- مارس 1976.
[3] ) أوكونور، فرانك: الصوت المنفرد، ترجمة د. محمود الربيعي ومحمد فتحي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1969، ص37.
[4] ) د. نجم عبدالله كاظم: في الأدب المقارن، مقدمات للتطبيق، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمّان، 2001، ص40-41.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

محي الدين زنكنة دراسات تطبيقية مقارنة

الكافكاويةفي روايات محي الدين زنكنه أ د. نجم عبدالله كاظمأستاذ النقد والأدب المقارن والحديثكلية الآداب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *