عبد الرحمن مجيد الربيعي دراسات

عبد الرحمن مجيد الربيعي
بوصلة الكاتب أم بوصلة الإبداع؟

د. نجم عبد الله كاظم

هاتان دراستان لمجموعتين قصصيتين للقاص العراقي الكبير عبد الرحمن مجيد الربيعي صدرتا سنتي 1986 و1993، اخترناهما لأنهما ظهرتا قبل دخول الكاتب في فترة صمت طويلة عن كتابة القصة والرواية. ومن هنا نقدم الدراستين في محاولة للإجابة عما إذا كان الكاتب، في كتابة هاتين المجموعتين، يواصل بهَدْي بوصلةٍ مسيرةً سابقة نعرف أن آخر ما قدمتْه كان روايتَّيْ “الوكر”-1980- و”خطوط الطول خطوط العرض”- 1982-([1])، ويعرف إلى أين تسير وإلى أين تأخذه قبل أن يقدم لنا بعد سنوات عديدة روايتي “نحيب الرافدين”- 2007- و”هناك في فج الريج”- 2011. بقي أن نقول إن الإجابة إذا كانت ضمنية في تناولنا للمجموعتين، فإنها ستكون، كما نأمل، صريحة في دراسة قادمة لإحدى روايتيه الأخيرتين أو لكليهما.

المجموعة القصصية الأولى:
المدينة في زمن القذائف
في مجموعة (نار لشتاء القلب)

(1)
ربما من النادر أن يكون بمقدرة كاتب، ذي مسيرة طويلة من الكتابة والنشر وذي مسار فني راسخ، تحقيقِ انعطافٍ أو تغيير كبير أو جوهري في هذه المسيرة خصوصاً حين يحقق إنجازاً فيها. من هنا لم نكن لنتوقع من عبد الرحمن مجيد الربيعي أن يكون له مثل هذا الانعطاف في كل عمل يصدره حتى وإنْ كان قصدُ الكاتبِ نفسه ذلك انطلاقاً من طموح، هو على اية حال مشروع أحياناً، وهو ما ينطبق على مجموعة الكاتب “نار لشتاء القلب”- 1986([2]). والواقع أن الربيعي، بعد بدايته غير العادية بما حققته من إنجازات روائية وقصصية تُحسب لمسيرة الادب القصصي العراقي، قد عمل جاهداً على تحقيق المزيد مما رآه محقاًّ غالباً تأسيسات فنية، إن صح التعبير، وانعطافات فنية جوهرية، وذلك من خلال البحث الملحّ وغير الموضوعي وغير المبرر فنياً عادةً، عن الجديد. ولأنه تعامل مع التجديد بهذا الشكل، فإنه لم يفلح، بل هو قد أضر، برأينا وفي كثير من الأحيان، بتجربته الإبداعية، فبدأ مع أواخر السبعينيات خطواتِ تراجعٍ استمرت سنوات عديدةو تالية لم يقطعها إلا العمل الأخير الذي قد يكون انتفاضة أولى على ذلك التراجع وإشارة إلى ما سيأتي. ومن الطريف أن نقول إن هذه المجموعة تلمّح إلى هذا، ونأمل أن يتحقق، مع أنها لا تخرج، حتى في كل ذلك، عن الخط العام للكاتب، بل هي تبقى ضمن جوهر اهتمام الكاتب وتوجهاته الفنية، والأكثر من ذلك المضمونية التي عرفناها عند الربيعي حين تبنى اتجاهاً واقعياً سياسياً (قومياً)، بدأه في رواية “الأنهار” عام 1974، وفي القصص القصيرة التي ظهرت آنذاك، واستمر بعد ذلك في أعماله التالية وصولاً إلى المجموعة الاخيرة. فالجموعة تعزز هذا التوجه من خلال اختيار تحركه لا قطرياً بل قومياً، نعني على خارطة الوطن العربي، وبشكل أكثر تحديداً على مدينتين أهدى الكاتب مجموعته إليهما، نعني (تونس وبيروت) اللتين تؤشران أرجحيةَ أنْ تكون القصص من ثمار تجارب القاص الذي قضى سنواته الأخيرة متنقلاً بين هاتين المدينتين.
لقد كان لذلك تأثيره في طبْع أغلب قصص المجموعة بمضامين تتركز حول الاهتمام بالمدينة في زمن القصف والنار والقذائف والصراعات القاسية، كما يمكن لقصة “ما دامت هناك شمس” مثلاً أن تعكسه. فهي تجسد الجو أو الحالة التي يعيشها إنسان هذه المدينة التي هي، وكما في معظم القصص، (بيروت) حيث الخوف وانعدام الأمان وتوقّع اسوأ اللحظات. ولم يكن للقاص في تصوير ذلك أن يعتمد اسلوباً وصفياً مجرداً، بل هو قد يعتلي هنا صهوةَ رؤيةٍ ناضجةٍ ليدخل بذلك من خلال مدخلين، أحدهما سياسي والآخر إنساني، في خضم خفايا المدينة التي بها تكون القصة. وربما من هنا، جاء بصيص الضوء الذي يتسع أحياناً ليرتسم افتراضاً على وجوه الشخصيات تفاؤلاً كبيراً وسط المدن والحرب.. كيف؟ هذا ما تحاول قصص مثل “ما دامت هناك شمس” أن تجيب عنه. لكن ذلك لم يكن ليضفي مثل هذا التفاؤل على كل عوالم القصص وشخوصها، فكان أن رأينا السوداوية والحزن والخوف، حد أن وسم بعض القصص بالسلبية والنهلستية المقيتة والاحساس بالملل والسأم والضياع:
“لا أحد يعرف بأنني حللت في باريس لأحطّ فيها بضعة أيام ثم أبحث عن محطة أخرى لانتزع السأم من عروقي وجليد الجحود من قلبي، وأسفح توتري في نهارات التسكع والثمالة”- المجموعة، ص57.
(2)
لعل في قصة “مخبأ العذراء” ما يعكس هذا بوضوح، رجل يقتل زوجته لماذا؟ كيف؟ ما هي التفاصيل؟.. كل ذلك ليس مهماً في القصة، بل المهم هو حالة التمزق والمعاناة والغربة التي يعيشها البطل بعد الحدث، اذ يتمظهر كل شيء أمامه عبثاً لا معنى له. واذا كانت الغربة المادية موجودة واضحة في هذه القصة فعلاً، فإن الغربة الروحية والنفسية الداخلية هي أعمق وأقوى في القصة ذاتها وفي قصص عديدة أخرى، وهي تشكل أحد محركات أبطالها. ومن هنا كان لا بد للانتفاض أو الانتقال إلى الحب والحياة والتفاؤل أن ينطلقا من دواخل هؤلاء الأبطال لا من خارجها، وما كان ذلك ليكون دون وجود (عنصر) مهم ذلك هو المرأة، وهنا نريد أن نتوقف عند ظاهرة أو ملمح مهم في عموم قصص الربيعي ورواياته. فقد يرى البعض في المرأة جوهر قصص الكاتب، وهو ما يبدو ظاهرياً واضحاً فعلاً، حين تحضر المرأة في القصة فتتحرك وتفعل الكثير ويقيم البطل علاقةً ما ليجعلها ذلك محور القصة. ولكن المتأمل جيداً يكتشف، وقد يُفاجأ بأن الرجل، وليست المرأة، الذي هو بطل الربيعي، هو الجوهر وهو المحور وربما جاز لنا القول الروح الحقيقية للقصة، هو في الحقيقية كل شيء. اما المرأة فإن هي، في الحقيقة، إلا أداةً لعملقة هذا الرجل، فهي عاشقة له، زوجةً أو عشيقةً أو صديقةً، وفي كل ذلك هي تابعة له. وهي إما ان تكون مصدر سعادته أو سبب تعاسته. ولذا كان لهذا البطل ان يتنقل بين امرأة وأخرى، دون ان يكون في ذلك ملاماً او مذنباً، بل بتبرير مصنوع خصيصاً للبطل، ما دام الربيعي منحازاً يريد له ذلك كما يمكن ان تلمس هذا بوضوح في قصص “ما دامت هناك شمس”، و”شحوب القمر”، و”المسافة واللقاء” وغيرها. فعلاقة كتلك التي بين (هو) و(هي) في القصة الاخيرة، مثلاً، ليست جديدة في قصص الكاتب بل عرفناها في قصص وروايات عديدة أخرى قبل هذه المجموعة بمدة طويلة. فحين يقرر البطل مغادرة المدينة وحبيبته أو عشيقته أو (محظيته) يحاول هو، أو الكاتب نفسه، تبرير ذلك بتكلف واضح:
“لماذا ماتت (هي)؟ لماذا اختارت الموت؟ كيف حصل هذا؟ ولكن ما حصل انتحار فاجع، نعم هكذا أخبرتُها في رسالة كتبتها لها أردت أن أتبرأ من دمها حتى لا تقول بأنها انتهت اغتيالاً وأنا من فعل ذلك”- المجموعة، ص54.
والواقع أنه قد اغتالها فعلاً، كما اغتال (صلاح كامل) حبيبته (هدى) في (الأنهار) من قبل، وبقصدية غير موضوعية من الكاتب نفسه، وهو في كلا الحالتين يرسخ ما أرى أنه إحساس بالذنب يحرّكه للدفاع عن نفسه. وإذا كان هذا يؤشر شيئاً من العودة إلى كتابات سابقة له، فإن بالإمكان استقراء مثل هذه العودة في جوانب عدة تشمل هذا الاهتمام العام بشخصية المرأة الولهى بشخصية البطل وبالرجل البطل المثقف، والجوال الساعي دوماً إلى الحب، ولكن دون أن يرتمي على امرأة، بل الذي تسعى إليه النساء. ومع ما في مثل هذه الشخصية الذكورية من سمات (زوربية) واضحة، فإنها تغادر بعض أهم ما في شخصية زوربا في هذا الجانب، نعني بها الاستعداد الفطري وشبه الغريزي والنقي لزوربا لتقديم كل شيء للمرأة التي يعشق وربما لأية امرأة حباًّ ونبلاً وانسانيةً، وهو ما يكاد يتجرد منه بطل الربيعي كلياً حتى حين يبدو، في انقياد محدود متكلف، وكأنه يفعل شيئاً منه. وهكذا واضح أن هذه الشخصية الربيعية تنطوي على غير قليل من النرجسية والغرور بل القسوة، وربما النظرة الدونية غير المعلنة صراحة للمرأة، مما لا يتجسد شيء منها في (زوربا). وفي كلا الحالتين، مثل هذه الشخصية مألوفة جداً في أعمال الربيعي المبكرة، فإضافة إلى رواية “الأنهار”، تبرز في روايتيه القصيرتين “الوشم” و”عيون في الحلم”، وقصص مجموعتي “عيون في الحلم” و”ذاكرة المدينة” وغيرها، وهي اليوم مما تثور عليها الحركات النسوية، ويدينها النقد الأنثوي.
(3)
أنْ نقول هذا كله يجب أنْ لا يجعلنا نغفل عن أن هذه العلاقات غير المتكافئة بين الرجال والنساء، والتي يسودها غالباً الطابع المادي الجسدي، لا تخفي رومانسيةً ربما تتعدى أحياناً حد المسحة السطحية لتكون صبغة غالبة على بعض قصص المجموعة، كما في قصتي “احتفال” و”نار لشتاء القلب” اللتين يرسم الكاتب فيها بالكلمات لوحاتٍ تكاد تتجسد لتُذكرنا بأجمل اللوحات الانطباعية لمونيه وإدغار ديغاس ورينوار. لقد ساعدت الكاتب في رسم مثل هذه اللوحات الجميلة لغةُ هي واحدة من إيجابيات عودته إلى شيء مما غادره في مسيرته الإبداعية الأولى، ما بين منتصف الستينيات ومنتصف السبيعينيات، يُضاف إلى ذلك، وخلافاً للغة قاصّي تلك المرحلة، أنه قد يعتمد، في بعض قصصه الجديدة، تركيزاً واقتصاداً ذكياً في اللغة وبما تحتاجه القصه نفسها. يمكن أن نقول عن لغة الربيعي هذه، كما عن أية لغة متميزة لكاتب آخر، إنها عموماً لغة متماسكة، أو جميلة، أو رصينة… إلخ. ولكن ما نقوله عنه مما ليس من السهولة قوله عن كتّاب عديدين آخرين، إنها شعرية قد تعبر هي ذاتها حتى لو اجتزأناها من النص، وتعبّر في الوقت نفسه لا عن المعنى أو المضمون المطلوب فحسب، بل عن مواقف وحالات هي أبعد من المعاني والمضامين، وهو ما افتقدنا الكثير منه في قصص أخرى من المجموعة. فمما يؤخذ على لغة هذه القصص السرعة التي يبدو أن الكاتب قد كتبها بها مما لم يضعفها فقط بل أوقعه ببعض الأخطاء وعدم الدقة وافتقاد المعنى والوظيفة، أو على الأقل الضعف. فمن امثلة ذلك: “يعلق ضوء السيارة الكاشف ثم يطفئه”- ص20، و”أخذ القطار باتجاه (المرسى) والتوقف هناك لوقت لا يمكن تحديده”- ص31، و”هي قبالته، هو قبالتها ايضاً، يجلسان على طرف مائدة الطعام، أمامها وفوق الطاولة قالب الحلوى”- ص77، و”فأخذها بحنان جنائزي عاشق، وراح يعانق قامتها الثرة، وينسل خصلات شعرها الوارف الذي كانت أفياؤه العذراء وكره في لحظات العراء والتأرجح في الأماكن”- ص78.
بقي ان من طريف ما لاحظناه، في خطوة الربيعي العودة إلى مسيرته الأولى، استمرار ظهور المآخذ التقنية والبنائية التي كانت قد اخذت تظهر في مرحلة تراجعه الأخيرة من مراحل تلك المسيرة. نعني بشكل خاص (الأفقية) التي كانت من نتائج ضعف عنصر مهم من عناصر البناء الدرامي للعمل القصصي، ألا وهو عنصر الصراع، فأدت بذلك إلى إضعاف الشد الذي يبقى ضرورياً، مع كل ما يمكن أن يقال عن الطرق الجديدة في كتابة القصة والرواية. فمع الإقرار بأن القصة القصيرة تُعنى أساساً بتصوير مواقف معينة، أو لحظات عابرة، أو أحداث صغيرة، أو اجزاء من أحداث، فإن ذلك لا يعني انعداماً تاماً للصراع، بل يبقى هذا الصراع ضرورياً وبالقدر الذي يتلاءم مع طبيعة القصة القصيرة. وفي كل الأحوال يعتمد الربيعي عادةً أسلوباً بنائياً وتقنياً بعينه يغلب على معظم قصص المجموعة، ويتمثل في بدء القصة من منتصف الحدث او الخط الحدثي، وبدون مقدمات غالبا، ليعود الى بداية الحدث باستخدام تقنية الفلاش باك وباعتماد صيغتي ضمير المتكلم وضمير الغائب، بالتناوب احياناً وبالتداخل بينهما في أحيان أخرى. وفي ظل هيمنة تقنية الفلاش باك وسيلة اساسية بيد القاص المعاصر، يُبدي الربيعي شغفاً غير اعتيادي به. وليس هذا بجديد في تجربة القاص، بل هو غلب على بناء القصة القصيرة التي يكتبها، وربما إلى حد التطرف السلبي في نتاجات النصف الثاني من السبعينيات، كما قصص مجموعة “الخيول” وفي رواية “الوكر” مثلاً. وتعلقاً بهذا، وإذا سمحنا لأنفسنا أخيراً أن نكون معياريين، فإننا لا يمكن، ومع كل ما قد نأخذه على بعض قصص المجموعة، إلا أن نرصد، وكما يمكن أن نكون قد بيّنا، التجاوز الذي حققه الربيعي لكثير من كتابتاه القصصية والروائية التي ظهرت خلال تلك المرحة، حتى وإن لم تعُد بنا تماماً إلى إنجازات ما قبلها، نعني كتابات أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، حين أبدع أعمالاً مثل “السيف والسفينة”، و”الوشم” و”عيون في الحلم” التي سيبقى لها شأن غير عادي في مسيرة الادب القصصي العراقي.


المجموعة القصصة الثانية:
مركزية المرأة أم مركزية الرجل
في مجموعة “السومري”

(1)
“كُسيت المدينة بلون رمادي شاحب، فبدت وكأنها مشيدة من الرمل، حتى خضرة سعف النخيل فقدت نضارتها من حدةِ لسعِ الشمس وتراكم الغبار الذي تجرفه الريح من المساحات الشاسعة الخالية من أي زرع والتي تسوّر المدينة من جهاتها الأربع”- مجموعة (السومري)، ص5.
قد لا تثير هذه الأسطر، التي يفتتح بها عبد الرحمن مجيد الربيعي مجموعته القصصية “السومري”- 1993، ما يذكرنا بأسلوب الكاتب وعوالمه التي نعرفها في أعماله نهاية الستينيات والنصف الأول من السبعينيت تحديداً، فإنها تبقى بالتأكيد تثير أكثر من وشيجة بالكثير من كتابات جيله عموماً. من ذلك مثلاً وصفيتها وتعاملها مع مدينة العصر العربية، وأسلوب تصوير عالمها أو عوالمها من خلال عينَيْ البطل المثقّف المأزوم. والواقع أن مثل هذا لا يتمثّل في هذه الأسطر ولا في القصة الأولى “هناك في تلك المدينة” عموماً فحسب، بل في عموم قصص المجموعة التي تضمّ ثلاث عشرة قصة قصيرة، وثماني قصص قصيرة جداً سمّاها الكاتب “أقاصيص”([3]).
إذا ما كانت هذه الملاحظة لتعني ظاهرياً تشخيص سلبية فإنها تنطوي أيضاً على إيجابية التألق الفني وهو عينه الذي عرفناه في غالبية مجاميع الكاتب القصصية السابقة، وخبرة التعامل الواعي حدّ الألفة والمعايشة مع مدينة العصر العربية وهموم إنسانها. نقول هذا ونحن نعرف أن المدينة هي محور رئيس ضمن اهتمامات الربيعي الدائمة، كما هي محور اهتمامه في هذه المجموعة، كما في قصة “هناك في تلك المدينة” التي تتناول المدينة من خلال غربة البطل عنها من جهة والألفة التي تستثيرها فيه من جهة ثانية ما يقود إلى استهجانه ملامح التغيير فيها التي تبدو له سلبية. وتعلّقاً بالمدينة ومركزيتها الفاعلة في قصص المجموعة تحضر قصة “السومري” لتكون المدينة فيها هم البطل أو سبب بعض همومه الموجعة، و”الباب والوصية” التي تعكس آثار الحرب فيها. وواضح ضمناً أن غربة البطل الداخلية والخارجية عند الربيعي هي نتاج هذه الصلة غير الاعتيادية بين إنسانه ومدينته، وإحساسه الطبيعي أو غير الطبيعي بفقدان هذه المدينة أو افتقادها. فأنْ يكون هذا الإنسان، مثلاً، بعيداً عن المدينة سنوات لم يكن ليعني نسيانه لها بقدر ما يعني تأجيج صلته بها لتظهر هذه الصلة واضحة وفاعلة بمجرد أن يعود إليها:
“وفي مدخل السوق لفتتْ نظري قطعةٌ كبيرة سوداء (الشهيد المقاتل محمود حسّان الظاهر استشهد في قاطع البصرة بتاريخ 22/7/1987)، وتوقفتُ عند الاسم، اسم والده بالذات، فقد كان زميلي في المرحلة المتوسطة”- المجموعة، ص10.
وربما لهذا كان تعامل الربيعي مع نوع معين من النماذج الإنسانية، وبالتحديد المثقفين الذين للمدينة تأثير عميق فيهم، لسبب أو لآخر، مثل الصحفي والفنان، كما في قصة “نهار عراقي”، والشاعر والناقد والأستاذ الجامعي، كما في قصة “البرتقالة”. ولأن هذه القصص تتعامل مع هذه الفئة التي يعرفها الكاتب بالطبع أكثر من أية فئة أخرى من الناس، فإنك لتحسّها- نعني القصص- كأنها تخرج من صميم وصدق التجربة التي نفترض أن القصص ولديتها حتى وإن لم تكن هي من تجاربه الحقيقية فعلاً، ومن حساسية المثقف تجاه التجارب والأشياء وأيضاً الزمن. فلأن المثقف هو بطل الربيعي، في غالبية قصص المجموعة، كما هو مرة أخرى في غالبية قصص الكاتب، فإن الزمن قد يلعب دوراً حيوياً في صياغة علاقة هذا البطل بالمدينة. وتعلقاً بالقصة كما يكتبها المؤلف، فإن هذا الدور يتعدى أن يكون في المعنى وفي تكوين الشخصية أو بنبائها، ليكون دوراً تقنياً ودلالياً يؤدي في النهاية، وفي الغالب، إلى أن تنبني القصة على التنقّل بين الماضي والحاضر، عبر تقنية الاسترجاع أو الارتجاع (الفلاش باك) بوصفها واحدة من تقنيات تيار الوعي الذي شغف به الربيعي مبكراً مقارنةً بآخرين من مجايليه من كتاب القصة العراقيين والعرب عموماً. وقد تقوم هذه القصة على ذكريات لها أهمية للبطل في حاضره، إذ تعيده إلى ماضٍ مفتقد يتمثل في تجربةٍ له في مدينته تعود إلى ما قبل زمن القصة، لكنه يعود ذهنياً أو تداعياً أو عبر الفلاش باك إلى التجربة، وحدثياً ومادياً إلى المدينة لتحضر بالضرورة أشكال من التعارض أو المقارنة ما بين ما كان وما هو كائن، وما يترتب على ذلك من تاثيرات في البطل، كما في قصة “شيء من هذا القبيل” التي هي استذكارات تنهمر على بطلها الذي يكون في طريقه للقاء صديق وزميل دراسة بعد فراق طويل.
(2)
وتعلّقاً بالزمن وتقنياته وببناء القصة عموماً، فإن الربيعي يواصل مسيرته التي بدأها من نهاية الستينيات وبداية السبعينيات مع روايتيه القصيرتين “الوشم”، و”عيون في الحلم”، وقصص مجموعات “وجوه من رحلة التعب”، و”المواسم الأخرى”، و”عيون في الحلم” وغيرها، حيث الرغبة في التلاعب بالزمن وتوظيفه تقنياً لقصته، مع شغف قد يتخطى أحياناً الحاجة الفنية والموضوعية بالتغيير والتجديد في هذا المجال. وهو ما ينجر على تبديل ضمير القص من متكلم إلى غائب وبالعكس، وتناوب القصة بين أكثر من وجهة نظر واحدة، أو في أساليب تقديم الحدث وتقنياته، وكل ذلك في القصة الواحدة، كما في قصة “أحزان”.
إن الامتداد الزمني المتمثّل في وقوع الأحداث غالباً في زمنين، قد صبغ عوالم الربيعي وشخصياته بالتغيير من زاوية ما يشكله هذا التغيير من مبعث أسى ومعاناة وهموم لإنسان القصة، كما هو فعلاً للإنسان في الحياة، فللإنسان العربي المعاصر تحديداً، الذي هو مصدر نماذج الكاتب في قصصه:
“وقف خالد قرب عمود كهرباء مجيلاً نظره في المكان محاولاً أن يستجمع ما بقي في ذاكرته منه ولكنه لم يستطع أن يلتقط شيئاً. كان كل شيء قد تغيّر، هُدّت بيوت وشُيّد غيرها، كما بُنيت دكاكين جديدة سيطرت على أغلبية الواجهات”- المجموعة، ص5.
و:
“هذا الرجل الذي يضع على رأسه غطاءً سميكاً ويلفّ جسمه بروب يبدو عليه القِدم اتّقاءً من البرد.. كان في يوم مضى شيئاً آخر، كان أنيقاً ومعطراً ومتنفذاً.. ولا أحد يقول له: لا، لكنه بالتأكيد قد مرت به سنوات لاحقة سمع فيها كلمة لا كثيراً وحتى من أفواه الذين كانوا يقولون له نعم”- المجموعة، ص106. ولهذا نجد مفهوماً أن يصرخ بلط قصة “هناك في تلك المدينة” لاعناً: “قاتل الله الزمن، إنه أكبر عدو للإنسان”- المجموعة، ص13.
(3)
إن القارئ ليلمح بسهولة وباقتناع غير متردد أن المرأة تشكّل محور القصة الربيعية أو مركزها، وهو ما يبدو واضحاً أن ينطبق على عموم قصص الكاتب، وليس على قصص هذه المجمعة فقط، مما يعني ضمناً، وتبعاً لذلك، أنها همّ الكاتب وموضع عنايته. وذلك كله ليبدو ظاهرياً صحيحاً، لكننا نستطيع بشيء من التأني والتأمل والاستقراء التحليلي لقصص أي مجموعة كتبها طيلة مسيرته الإبداعية، تكشف لنا غير ذلك تماماً، إذ يظهر واضحاً أيضاً أن الرجل هو محور القصة الربيعية. ويكون هذا مفهوماً إذا ما عرفنا أن البطل الربيعي نرجسي لا يرتضي، انطلاقاً من نرجسيته هذه، إلا أن يكون في مركز القصة ومركز اهتمام الكاتب، خصوصاً أن هذه النرجسية لا بد أن تكون من نرجسية مَنْ وراءها، سواء أكان المؤلف أم غيره. أما المرأة فهي أداة وهمّ من هموم البطل أو المؤلف، تكبر أهمتها في القصة أو تصغر تبعاً لما تؤديه من وظيفة رسم شخصية البطل- الرجل ونفخه أو محاولة تحجيمه. ومن هنا نستطيع أن نفهم أنْ تكون المرأة سهلة الوقوع في غرام الرجل وفي الاستجابة لدعواته الشبقة، كما في قصة “السومري”، أو حبه القلبي، كما في قصة “أحزان”، خصوصاً أن بطل الربيعي في سفر أو ترحال دائم، يجعل العلاقات هامشية، ولا تكون المرأة فيها إلا أداة، كما قلنا، لخدمته في حلوله أو مروره بهذا المكان أو ذاك، أو وسيلة وقتية أو دائمية- بحدود امتداد القصة- لإشباع غروره، هي باختصار لا تؤدي من دور غير التعبّد في معبد الرجل، فكان مألوفاً جداً كلام كالذي تقوله (هي) له في قصة “أحزان” مثلاً:
“- كم أنت قوي! أستطيع أن ألقي عليك بكل ثقلي وأنام بين يديك، مطمئنة. منذ أن عرفتك لم أجد شيئاً عصياً عليك، كل الأشياء في متناولك، أي رجل أنت!؟ أي حبيب!؟”- المجموعة، ص79.
نقول ذلك رغم ما قد يبديه المؤلف بشكل مباشر أو غير مباشر، أو عبر راويه أو بطله من محاولة إظهار مثل هذه العلاقة على أنها عميقة. ويبقى صحيحاً أيضاً القول إن المرأة والحب هما شاغلا الكاتب، كما هما شاغلا أبطاله. ولذا فقد كان هناك غالباً رجل وامرأة، وهو وهي، وعاشق ومعشوق.. كما في قصص “امرأة تغرق.. رجل يغرق”، و”ثلاث بطات من الكريستال”، و”وجه لامرأة ما”. ولا يقلل من مركزية هذه الموضوعات المحدودة أن تكون هناك قصتان أو ثلاث من المجموعة موضوعاتها قد تبدو بعيدة عنها كالحرب، كما في “هناك في تلك المدينة”، و”الباب والوصية”، والثقافة والمثقفين، كما في “دليل الحيران في طالع الإنسان”، و”قراءة في تاريخ لوحة، وهموم الإنسان اليومية، كما في “الباب والوصية”، و”ثلاث بطات من الكريستال”، وفلسفة الحياة، كما في “التي لا تعرف.. الذي لا يعرف”.
وعلى أية حال، ما كان ليعني اختلاف الموضوعات تأثيراً في الجانب الفني أو أن الكاتب كان قد عرض ذلك كله- ما دام يكتب قصصاً- من خلال الأحداث وتطورها. لكن ذلك لم يتحقق غالباً، فكان أن طرح أحياناً فكره أو موضوعاته دون أن يعني كثيراً بإطارها الدرامي. لكنْ كان ممكناً لبعض تلك الفكر والموضوعات أن تتجنب التأثير السلبي لذلك، لطبيعتها التي تتيح للقاص عرضها بشكل حالات ومواقف، مثل موضوعات هموم الإنسان اليومية وبعض تأزمات المثقفين، وهذا ما كان فعلاً، إذ استطاعت قصص أن تخرج من دائرة الضعف رغم ضعف الجانب الجانب الدرامي فيها. بل وتميز بعضها بفعل جمالية تعامل الكاتب مع موضوعاتها وبعث الحياة في شخصياتها وعرض ذلك كله بلغة خاصة، مثل قصتي “البرتقالة” و”الكاستيل” وغيرهما.
بقي أن نقول، في كلمة أخيرة هي وجهة نظر مبنية على نظرة استقرائية خاصة، إننا إذا كنا نأخذ على الكاتب بقاءه أسير أفقية بعض القصص، فإننا يجب أن نثبّت أيضاً أن تجاوزه للأفقية في قصص أخرى وخصوصية موضوعاتها وصبّ ذلك كله في قوالب تصوغها لغة متماسكة ينفرد الربيعي في شاعريتها غير المُثقلة على القصة، قد منح مجموعته القصصية التي بين أيدينا هوية المجموعة الجيدة، وميّز بعض قصصها لتسجل مؤشرات استمرارية الحياة في شخصية الكاتب الفنية التي كنا نخشى أن تبتلعها هموم غير الهمّ الفني، مثل “هناك في تلك المدينة”، و”البرتقالة”، و”السومري”، و”الكاستيل”، و”دموع”.


[1] ) نتجاوز هنا مجموعته “صولة في ميدان قاحل”- 1984- كونها ضم قصص البدايات.
[2] ) عبد الرحمن مجيد الربيعي: نار لشتاء القلب، بيروت، 1986.
[3] ) عبد الرحمن مجيد الربيعي: السومري، دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد سنة 1993.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

محي الدين زنكنة دراسات تطبيقية مقارنة

الكافكاويةفي روايات محي الدين زنكنه أ د. نجم عبدالله كاظمأستاذ النقد والأدب المقارن والحديثكلية الآداب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *