هناك في فج الريح: عبد الرحمن الربيعي
ذكورية الخطاب الروائي
قراءة في ضوء منهج التحليل النفسي
( 1 )
أول شيء استحضره ذهني بعد إكمال قراءة رواية الروائي والقاص العراقي الرائد عبد الرحمن مجيد الربيعي “هناك في فج الريح”، هو تجربة الكاتب السابقة بكل ما فيها من إنجاز واختراق وألق وقليل من تراجع في مراحل من مسيرته الإبداعية. لكن الأهم إحساسي كأني بالربيعي، في هذه الرواية، هو كما كان في رواياته بداية السبعينيات ومنتصفها، حيث التميز في الفن بناءً ولغةً وأسلوباً، والموضوع سياسةً ومحليةً وحضوراً خاصاً للمرأة. وكما ربما يمكن للقارئ أن يستنتج من إشارتنا هذه بكل ما نزعم أنها تنطوت عليه، على قصرها، من جوانب عديدة نأمل أن نكشف عنها. وللحجم الكبير للرواية، سنتوقف في قراءتنا التحليلية للرواية، عند مجموعة محاور، في ضوء منهج (التحليل النفسي) الذي سنتوقف بداية وباختصار عنده.
ترجع نظرية التحليل النفسي وتطبيقها نقدياً إلى عالِم التحليل النفسي الشهير سيجموند فرويد، الذي هو رائدها قبل أن يلحق به آخرون اتفقوا أو اختلفوا جزئياً أو كلياً معه لعل أشهرهم يونغ، وأدلر، وبودوان. فقد قسّم فرويد الذهن البشري أو جهازه النفسي على ثلاثة مستويات هي: الشعور أو الوعي، وما قبل الشعور أو ما قبل الوعي، واللاشعور أو اللاوعي. والأخير هو الميدان الرئيس للتحليل النفسي، وهو يشتغل اعتماداً على صراع ثلاث قوى رآها فرويد في ذهن الإنسان أو جهازه النفسي هي():
الأنا Ego: هي مركز الشُّعور والإدراك الحسي الخارجي، والإدراك الحسي الداخلي، والعمليَّات العقليَّة. وتعمل (الأنا) على توافق الشخصية مع البيئة، وتحقيق التوازن، وحلِّ الصِّراع بين مطالب (الهو) ومطالب (الأنا العليا)، وعليه إذا استطاع أن يوازن بين (الهو) و(الأنا العليا) والواقع، عاش الفرد متوافقاً، أما إذا تغلب (الهو) أو (الأنا العليا) على الشخصية أدى ذلك إلى اضطرابها. وتنمو الأنا عن طريق الخبرات التربويَّة بين مرحلة الطفولة وما قبل الرُّشد بشكل خاص، وهي تمثل شخصية الفرد في أوضاعه الطبيعية والسوية.
الهو Id: ويمثل اللاشعور، وهو مستودع الغرائز الفطريه، وهو المكان الذي يحوي جمله هائله من الأفكار والعمليات العقلية المكبوتة التي يمنعها (الأنا)- الشعور- من الظهور لأن المجتمع يرفضها. و(الهو) يمثل الإنسان الخام قبل ان بتطبع بعادات وتقاليد مجتمعه.
الأنا العليا Super-ego: وتمثل شخصية المرء في صورتها الأكثر تحفظاً وعقلانية، حيث لا تتحكم في أفعاله سوى القيم الأخلاقية والمجتمعية والمبادئ، مع البعد عن الأفعال الغرائزية. وهذا الجانب يعتبر الجانب المثالي من الشخصية. ويشتمل على رقابة زاجرة تُعرف عادة باسم الضمير. و(الأنا العليا) تقوم بدور الشرطي الرادع، أو الحارس اليقظ.
وجود هذه القوى، والعلاقات، وربما الصراع أحياناً، فيما بينها داخل الإنسان، هو الذي يفرز سلوكه سوياً أو غير سوي، ومن خلاله تتمثل الممنوعات بين الدفع للظهور وخرق القوانين والعوائق، والكبت وضبط الإنسان لها. والفن أدباً وغير أدب يترجم ذلك حين يمر الفنان، أثناء العملية الإبداعية، بما يشبه الحالة العصابية، لتكون النتيجة أن هذه الممارسة، نعني الفن أو الإبداع، تترجم أوضاع الفنان الطبيعية وغير الطبيعية، ولاسيما النفسية بما فيها من تأزمات وعقد وأمراض ومكبوتات. وعليه ووفق التحليل النفسي، الإبداع ليس إلا حالة خاصة قابلة للتحليل، لأن كل عمل فني ينتج عن سبب نفسي. وانطلاقاً من هذا الربط عُني النقد النفسي تطبيقياً بثلاثة مجالات أو حقول فرعية، هي شخصية المبدع، وعملية الإبداع، وتحليل العمل الأدبي. أما مقالنا هذا فيعنى بالحقل الثالث. إذ أن منهج التحليل النفسي يربط بين العمل الفني ونفسية صاحبه، وعليه فالعمل يدل على شخصية صاحبه. ولأن كل عمل فني، من منطلق التحليل النفسي، هو ناتج عن مسبب نفسي في مبدعه، فهو صالح لأن يكون محلَّ تحليلٍ نفسيّ.() “ولعل السمة التي لا يتجاوزها التحليل النفسي هي أنه يتبع كافة خيوط العمل الأدبي إلى وعي ولا وعي الذات: ظروفها النفسية وسيرتها الذاتية وتاريخ نموها. ويصبح العمل تعبيراً عن رغبة ما ومحاولة إشباعها سواء كانت الرغبة ناتجة عن علاقة المرء بذاته أو بالبيئة أو العالم من حوله”()، وعندما يحول بينها وبين الإشباع عائق ما، كالتحريم الديني أو الحظر الاجتماعي وأعراف القوم وتقاليدهم. والناقد في تعامله مع العمل الأدبي تحليلياً نفسياً، وفقاً لذلك، وكما هو حال التحليل النفسي، يؤوّل العمل “بتوضيح المعنى الكامن لمادة ما (…) فننهمك بدورنا في التأويل مستعينين ببعض العناصر المعلّقة، مما يسمح لنا بتعديل تأويل لآخر (…) لأنه ليس من تأويل يمكنه استنفاد جميع احتمالات معنى كلامٍ ما أو حدث معيش أو تخيّل.”()
( 2 )
انتقالاً إلى رواية “هناك في فج الريح”، تحضر السياسة فيها، وكما حضرت من قبل في جل أعمال الربيعي الروائية والقصصية، وغالباً بشكل مقنع، خصوصاً حين يعود ببطله إلى الماضي حيث العمل الحزبي في العراق، وأيضاً حين كان مع الحزب الشيوعي قبل أن يتركه، ولكن لعل أحد أهم ما يُستذكر من ذلك هو علاقة كانت له مع رفيقة حزبية، فحال تلك العلاقة حال ما يتعلق بالأحداث في القرن الماضي، وقبل العدوان الثلاثيني على العراق، وضمن ذلك أحداث سنة 1991 وما بعدها، وخروج البطل من الوطن قبل ذلك. وحين قلنا الأهم ما يتعلق من ذلك بالماضي، فلأننا لا نريد أن يُفهم من كلامنا عن السياسة أنها الأهم في الرواية وفي حياة بطلها، بل إنْ هي إلا مما يصبّ في إضفاء التفرّد على شخصية البطل الرجل، تحديداً والرواية، أم هل نقول الروائي، تهيّنا لنتقبل ما سيدو عليه من سحر وتأثير في النساء تحديداً. فنحن نحس، بعد البداية الإولى، بأهمية المرأة في حياة البطل ويومه، لذا فإن السياسة في شخصية البطل وحياته تأتي بشيء من تكلّف، وتحديداً ما يتعلق منها بالعراق وبالأحداث والوضع فيه، وواضح أنها تصبّ في جهد إضفاء الوطنية عليه، كما من الواضح أن الكاتب يريدها له،، لتأتي محشورة في حياة (حسان الزيدي) اليومية. وفي كل الأحوال وضمن ذلك، واضح أن الراوي، ومن خلفه الكاتب، أراد أن يرسم صورة سوداء للواقع السياسي في العراق المعاش وهيمنة الحزب على كل شيء وكل الناس بمن فيهم المثقفون، وهو إذ لم يقع في ذلك بما وقع فيه الكثير من أدباء الخارج حين لم يقدموا غالباً إلا عراقاً سيئاً في كل شيء()، فإنه استهدف على ما يبدو، وهذه المرة كغيره من كتّاب الخارج، أن يصب ذلك في صالح رسم شخصية بطله نموذجيةً أو، على الأقل، إيجابية، ولتكون مغادرتها العراق في هذه الحالة موقفاً إيجابياً. هنا نقول أنْ تتبنى الرواية ويكون لها موقف هو شيء طبيعي ومقنع وربما حتمي أو على الأقل ضروري. ولكن أن يأتي بعض هذا فجأة ومباشرة، كما يفعل الربيعي مع قضية تهجير العراقيين ذوي الأصول الإيرانية، ليمنح روايته بعداً ما امتلكته أصلاً، فهذا غير مقنع، خصوصاً حين يفعله في مكان متأخر جداً من الرواية، وتحديداً في (ص168-186)، وقبل أن يعود في صفحاتها الأخيرة تماماً إل مسارها حيث الجنس والأصدقاء الفلسطينيون والبعد لا مادياً فقط بل روحاً عن الوطن.
ولكي لا يُفهم كلامنا هذا خطأً على أنه موقف من الرواية أو من السياسة فيها، بينما هو موقف من افتعال الموقف الملتزم للبطل وما هو بالتزام مقنع فعلاً، بل هو، كما قلنا، مما يصبّ أو سيصبّ في إضفاء ما يشبه الهالة على البطل الرجل، وواضح أن الرواية تريد له أن يكون متميزاً ومتفرّداً ليبرّر ذلك جاذبيته للنساء. ولذا، وأيّاً كانت طبيعة السياسة في حضورها وتوظيفها فنياً، فمقبول أن نقول إن الرواية، في في أحد مستوياتها، رواية سياسية، فهي تعبر، وبشكل حِرَفيّ خَبِره الربيعي،عن قضيتين سياسيتين ثقافيتين: الأولى قضية المثقفين العراقيين الذين عانوا من حكم الحزب الواحد وهيمنته، فنفذ منهم من نفذ بجلده وثقافته وذاتيته وإبداعه وهجّ إلى أرض الله الواسعة. وربما لهذا يأتي ذكر شخصيات مثقفة حقيقية، منها عدنان المبارك، المقيم في عمّان، بوصفه صديقاً لـ(حسان). أما القضية الثانية فهي قضية الفلسطينيين وأزمتهم الدائمة، ولكن المتمحورة بشكل خاص في الرواية، حول انتقالهم، ممثّلين بمنظمة التحرير ومَن من حولها، إلى تونس وتجربة وجودهم فيها، ثم تهيّؤهم للمغادرة في أعقاب أوسلو والعودة إلى الأرض المحتلة، كما هو معروف على أرض الواقع. أما ما يجمع ما بين القضيتين، فهو، ومما نعرفه على أرض الواقع، الارتباط الروحي والعقائدي والقومي الدائم بين العراقيين وفلسطين والفلسطينيين، وفي الرواية، عمل العراقي (حسان) في أحد الأقسام التابعة للمنظمة في تونس. وهكذا يكون مقنعاً أو على الأقل جميلاً أن تنتهي الرواية بمغادرة (حسان) تونس رفقة الفلسطنيين المغادرين باتجاه فلسطين، حاملاً لجواز فلسطيني ممنوح له من منظمة التحرير. عدا ذلك، لا تقنعنا كل التزامات (حسان) المحكيّة، وتحديداً في تعبيرها عن مواقف لا نكاد نلمسها تجاه الوطن، وهي تتوزع ما بين ما يراه في يومه الحاضر، وما يستحضره عن نفسه وعلاقاته في الوطن في الماضي، كما أشرنا. وعندنا، أن كل ذلك نابع من نرجسية البطل التي لا تكاد تختفي من كل ما يأتي به من كلام وسلوك وموافق وادعاءات، ليس في السياسة فقط، بل أكثر من ذلك، وضوحاً وتعبيراً عن نفسها، في علاقات البطل بالمرأة، مما سنتوقف عنده في الفقرة التالية.
( 3 )
هنا تحديداً، نعني في نرجسية البطل، تشكل الرواية امتداداً لجميع روايات الكاتب، وبدون استثناء، بدءاً من نرجسية بطل “الوشم” المقنعة حينها، ومروراً بأبطال “عيون في الحلم” و”الأنهار” وانتهاءً ببطل “خطوط الطول خطوط العرض”. الواقع أن نرجسية البطل وربما نرجسية الكاتب، أو من يتمثّله الكاتب من أشخاص حقيقيين يعرفهم، تكاد تكون أكثر مقاتل قصص الربيعي ورواياته، أو بتعبير أدق شخصياته. فمع أنها نرجسية تتمثل في البطل المركزي تحديداً لكل رواية من رواياته، فإنها، إذ تجعل من الروائي منحازاً لهذا البطل ليرسمه دائماً متفرداً في كل شيء، تصيب الشخصيات الأخرى بما يسلبها كل شيء غالباً، وإذا ما فلت بعضها من هذا السلب، فإنما ليصبّ في النتيجة في صالح البطل كأن تكون تلك الشخصية صديقاً للبطل أو أداة إشادة وإعجاباً به. وكل ذلك وهو يأتي في الفن التعددي والأبعد عن الانحياز واللاموضوعية. وما كان هذا ليكون لو أن الكاتب أراد أن يقدم الشخصية النرجسية، بمعنى أن تكون هناك قصدية في تقديم هذا النوع من الشخصيات، كأن تكون قضية الرواية هي النرجسية التي كثيراً ما تكون مرضية. لكن القصدية التي نحس أن الروائي يريدها عادةً هي تقديم شخصية بطل أيجابي افتراضاً، سرعان ما تقتلها النرجسية، في وقت لا يستطيع الكاتب إلا أنْ ينحاز إليها وهي في أبشع صور نرجسيتها، وكأنها تمثّله، والنتيجة تكون شخصية البطل في التحليل النقدي الموضوعي سلبية يُصيب فنيتها خلل حين ينحاز السرد إليها. وهكذا تأتي ما نراها إيجابية متكلّفة للبطل، في هذه الرواية، كما رأيناها من قبل في أعمال أخرى، مثل “الأنهار”، و”القمر والأسوار”، وإلى حد ما “عيون في الحلم”، وكلها يجاهد الكاتب في سبيل تقديم بطل كل منها مثالياً وما هو، في واقع الحال الذي تقدمه الروايات نفسها، بمثالي في جوهره وسلوكه، بل هو فقط بقصدية الكاتب غير المقنعة، الأمر الذي يؤدي إلى تحويل ما يريده الكاتب إيجابية بطله إلى مثالية نرجسية قد تصير أحياناً مرضية.
معروف أن (النرجسية)() أصلاً تعني افتتان المرء بنفسه دونه غيرها، انطلاقاً من شعوره بأهمية ذاته وشغفه بأن يكون محط اهتمام الآخرين كونه الأكثر تميّزاً وتحقيقاً للإنجازات والنجاحات مما يتأتى غالباً، خصوصاً حين تضطرب هذه النرجسية، من الوهم، مع ما قد يكون فيه من صحة وحقيقة، الأمر الذي قد يقود إلى الغرور. والنرجسية قد تعني أيضاً، وتفرعاً من ذلك، عشق هذا المرء لنفسه حد الشذوذ. إذا ما كان من النادر، لطبيعة شخصية المبدع فناناً أو أديباً، أن لا تنحو شعوراً وسلوكاً وإبداعاً نحو النرجسية لتظهر في إبداعاتهم، فإنها أكثر ما ظهرت النرجسية في الأدب كانت في الشعر، وسبب ذلك واضح وملومس جداً، وهو ما معروف من طبيعة شخصية الشاعر، وبالتالي يندر أن لا يعبّر شعر عن ذلك. وإذا ما كان أبرز وأشهر من يحضر شخصيةً وشعراً في الشعر القديم هو المتنبي، فإن أكثر من يحضر في الشعر الحديث نزار قباني وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وأدونيس وغيرهم، وكلهم قد عبرت عن النرجسية شخصياتهم والكثير من أشعارهم. أما في غير الشعر، فإنها غالباً ما تنحسر، لكنها قد تتصاعد عند أدباء بعينهم، وكما تعبّر نتاجاتهم الأدبية، الروائية والقصصية، عن ذلك، ومن هؤلاء الروائي الكبير عبد الرحمن مجيد الربيعي، في الكثير جداً من أعماله الروائية والقصصية، ومنها “الوشم” و”عيون في الحلم” و”القمر والأسوار” والوكر” و”خطوط الطول خطوط العرض”، وأخيراً روايته التي بين أيدينا “هناك في فج الريح”.
وهكذا يحضر بطل الرواية، كالعادة رجلاً يجذب النساء، فالواحدة منهن، عن معرفة أو من أول لقاء، على حد سواء، تنبهر وتهيم به، وربما تفقد كل اتزان لتبدي، كلاماً وفعلاً، استعداداها لتسليمه نفسها، سواء أكانت امرأة ناضجة أو فتاة صغيرة أو كبيرة أو امرأة غير متزوجة أو متزوجة. ومن طريف ما نجد من نرجسية هذا البطل، وتحديداً في علاقته بالنساء، وانشغال الكاتب الواضح بتعزيز ذلك فيه، ليكون المركز وتكون النساء الهامش أو المحيط، هو علاقته بـ(راضية) التي يرسمها الرجل علاقة قائمة على تعالي البطل، في جاذبيته، عن أن يكون هو الراغب بل المرغوب، وهذا أحد أكثر ما لا يتنازل الروائي عنها أبداً في أي عمل من أعماله، مقابل ذوبان (فاتن) غير الموضوعي فيه حد التحرك نحوه مسحورة أو على الأقل راغبةً دائماً، كما في الأمثلة الآتية:
“بعد ذلك اللقاء بيومين ظهرت ثانية وهي ترتدي الفستان نفسه. اقتربت منه وهو يرسم بانشغال ناسياً كل ما من حوله، وتطلّع إليها وهي منتصبة أمامه. فدماها الحافيتان كأنهما تتلذذان بحفائهما وهي تغمسهما في العشب.”- الرواية، ص50.()
و:
“وبعد فترة قصيرة رآها في ضوء النافذة التي أشعلتْها وهي تقف واضعة كوعيهاعلى حافتها موقنة أنه يراها في ذلك الوضع. ولم تمكث طويلاً إذ أطفأت الضوء وانسحبت إلى الداخل.”- الرواية، ص51
و:
“وقبل أن تبتعد، عادت لتقول له وكأنها تهمس بسر:
“- أنا أخرج كل يوم في السابعة والنصف صباحاً لآخذ الباص باتجاه المدينة.
“وردد بدعابة: هل هذه دعوة للحاق بك؟
“- افهمها كما تشاء.”- الرواية، ص54.
هذا يجعلنا واثقين، ورجوعاً لتأريخ قراءتنا لأدبه ودراسته، من أن الربيعي لا يتحمل أن يجعل من بطل روايته الرجل، وكما أبطال كل رواياته، هو الراغب في أي شخص صديقاً أو قريباً أو حبيبةً أو عشيقة أو صديقةً، بل هو المرغوب دوماً. هو لا يبالي بالمرأة بالقدر الذي تبالي هي به رامية نفسها دوماً عليه. وحين يقترب بطله، بفعلِ طبيعة الأشياء والمنطق، من فعل ما يخالف طبيعته ونرجسيته هذه، فإن السارد، ومن ورائه المؤلف، لا بد أن يجعله يتراجع عن ذلك ليعود إلى النرجسية.
ولنوضح ما نذهب إليه وندلل عليه، لنقرأ الآتي عن بطل الرواية:
“عندما تسلل إلى منزلها للمرة الأولى، ظن أنه لن يعاود الكرّة. ولكنه أعادها.”
هنا يبدو سرد الحدث عادياً، والبطل يظهر فيه طبيعياً وتحديداً في سلوكية الرجل مع المرأة، وكما يمكن أن تكون الرواية كلها لو كانت بهذه الصيغة. ولكن حقيقة الأمر أن سرد الحدث لم يكن هكذا بل أصل النص، الذي هو برأيي أحد مفاتيح فهم شخصية البطل على أنها نرجسية، وربما المؤلف من ورائها، خصوصاً أن الراوي راوي خارجي يتوزع بالتأكيد ما بين المؤلف والبطل، هو الآتي:
“عندما تسلل إلى منزلها للمرة الأولى بطلب ملحّ منها ظن أنه لن يعاود الكرّة. ولكنه أعادها”- الرواية، ص54.
وهكذا، فإن الكاتب يُخل بذلك حين يتدخل بنرجسية قاتلة، ليجعل الآخر، الذي غالباً ما يكون المرأة، هو الراغب، وليعود بطله مرغوباً ومعشوقاً ومتعالياً ومستغنياً، ولا يمكن له أن يكون راغباً حتى بالمرأة. وهو كذلك مرغوب وجذاب ومثير، إن لم يكن رجولياً وجنسياً، كما هو الحال مع النساء، فبثقافته وشخصيته وفنه ومجالسته بالنسبة للرجال مثقفين وموظفين وعابري سبيل، بل حتى عمال مطاعم ومقاهٍ. فهو الساحر الجذاب اللامبالي الذي لا تخلو ساعة من حياته من امرأة راغبة به حتى وإن كانت عابرة سبيل كما هو حال راكبة الباص (فاتن). وهو يحرص على إزالة أي ظن حتى ولو كان ضعيفاً قد يراود قارئه بشيء خلاف هذا، أو أن يكون هناك حدث أو تصرف من بطله أو شخصية أخرى قد يوحي ولو برغبة عابرة من البطل، وهو ما يعكسه المثال السابق مع (راضية)، والمثال الآتي الذ ترويه (فاتن):
“إنني مأسورته، فرشَ عليّ شباك الاستحواذ بسهولة، رغم أنه لم يتقصّد شيئاً من هذا، بل تصرّف معي بعفوية لم أرَها عند الذين تاملت معهم. أحسّني طيبعة له، أذهب معه في كل دروب المدينة وأشاركه الجلوس في أي مقهى شعبي، لنحتسي الشاي ونثرثر، وأحياناً أتركه مع دفتر رسومه لينصرف عني إليه وتكبر فرحتي عندما يلتفت إليّ ليخطط جزءاً منّي، مرة يدي وأخرى ساقيّ المندسين في بنطلون جينز أو عنقي أو عينيّ.”- الرواية، ص16.
هذا بظني، في بعضه على الأقل، من تراكمات أمراض الرجل الشرقي، ولكنْ المتضخمة جداً في رواية الربيعي. يمكن لنا أن نفهم أن البطل في رواية الربيعي يعبّر عن مركزية الرجل، ليكون الرجل هو المركز أو الأصل، والمرأة هي الطرف أو الهامش. وباعتقادي كل تعبيرات الربيعي النرجسية غير السوية إنْ هي إلا تعبيرات عن الحرمان الجنسي والعاطفي وربما المادي الذي يكمن في شخصياته الشرقية وخلفياته هو التي نعتقد أنها تغذت كثيراً، وتحديداً في مراحل مبكرة من حياته، بتجارب شباب جيله، فجاء التعبير عندنا تمثيلاً لحال صورتهم وقد صارت عنده وكأنها صورة نمطية قارة عنهم، من وليست تعبيراً عن تجربة كما قد يتوهم البعض، وتعبيراً تعويضياً، لأنها لو كانت نابعة من واقع وتجربة لجاء تعبيرها طبيعاً ومتوازناً. و”التعويض Compensation هي حيلة دفاعية يلجأ إليها الفرد عندما يعاني من بعض مشاعر النقص والقصور والحرمان في إحدى نواحي حياته، وذلك من أجل التغلب على الشعور بالدونية والوصول بالذات إلى الشعور بالتقدير وتخفيض درجة القلق. هي محاولة الفرد للنجاح في ميدانه لتعويض فشله أو عجزه الحقيقي أو المتخيّل في ميدان آخر”()، كما هو حال الذي يعتقد بأن شكله فبيح ولن يلقى القبول فيلجأ إلى الغناء أو الشعر أو العزف مثلاً ليحصل على ذلك القبول.
تعلّقاً بالشخصيات عموماً، من ناحية الرسم والتقديم والحضور، نرى أن شخصيات الربيعي، وبعد بطل رواية "الوشم" (كريم الناصري)، وهي شخصية خالدة في الرواية العربية، وبعض شخصيات "عيون في الحلم" و"الأنهار"، وإلى حد ما (القمر والأسوار)، صارت ، كما هي في هذه الرواية، تمر غالباً عابرة فتظهر وقبل أن تسجل حضورها تختفي فتُنسى. فأنت لا تحس بحياةٍ للشخصيات، ولا إقناع أحياناً، والسبب الرئيس هو هيمنة البطل لا على الرواية بل على الكاتب بحيث لا تكتسب أي منها أي اهتمام إلا بحدود ما يعزز ذاتية البطل و(أناه) المتضخمة، خصوصاً وهي عادة ما تكون، وكما تناولنا هذا سابقاً، نرجسية، بتطرف غالباً. والسبب الآخر، وهو متفرّع من السبب الأول، هو المرور العابر للكثير منها بسبب المكانة غير الموضوعية التي يُتيح الروائي لبطله المركزي أن يحتلها، والسبب الثالث هو ظهور بعضها متأخراً في الرواية، وكل ذلك حضر في رسم وتقديم شخصيات "هناك في فج الريح"، وهكذا تظهر في هذه الرواية شخصيات تمر سريعاً، بعضها بوصفها أصدقاء عراقيين قدماء أو اصدقاء فلسطينين حاليين، ومعظمها لا تظهر إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية، مثل (شكيب الخزرجي)، الذي نُفاجأ قليلاً بظهوره المتأخر، وتحديداً في ص150، وتتعزز المفاجأة حين يكشف لنا الراوي بأنه صديقُ عمرٍ للبطل، ثم نفاجأ أكثر حين يختفي بعد أسطر. وهكذا الأمر بالنسبة لـ(العربي الخطاب) التونسي الذي يُعرّفنا به البطل الراوي في أعقاب تشييع صديقه (صالح عثمان)– في ص166- قبل نهاية الرواية بخمسين صفحة بوصفه صديق (صالح)، مع أننا لا نسمع به أبداً قبل ذلك. والأمر ينسحب على شخصية (أبو جورج) الذي يطل علينا فجأة في ص171 ليأخذ البطل إلى الطبيب، و(أبو الليل) ويظهر في ص174. وما يزيد من الخلل الفني في هذا، أن غالبية هذه الشخصيات تظهر بدون مبرر فني، ولا نقول حياتي لأن هذا يقع على أرض الواقع، ونحن لا نأخذ كل شيء من الواقع بتفصيلاته.
تعلّقاً بالشخصيات النسائية تحديداً، هي تكتسب خصوصية أو خصوصيات، منها ما يتعلق بتشخيصنا لنرجسية البطل، وبما عرضناه عن موقف الروائي من أبطاله وشخصياته، ومنها ما يتعلق بكونها نسائية. أهم هذه الشخصيات اثنتان هما: فـ(فاتن عبد العزيز) وهي طالبة حقوق تونسية على أبواب التخرج يلتقي بها البطل في الباص لتصير صديقة له، ورغم كل الوله التي تحمله له كما هي حال أية امرأة تلتقي ببطل الربيعي، أي بطل له، لا يسمح للعلاقة أن تتطور لتصير علاقة عشق وجسد، و(راضية) وهي معلمة صديقة للبطل تسكن هي وزوجها السيئ وابنتيها في الطابق الأرضي من الفيلا التي يسكن (حسان) فيها نزيلاً عند فرنسية قبل انتقاله مستقلاً في شقة، وتصير عشيقة له وتُظهر من الشبق معه ما يتوافق مع طبيعة البطل النرجسية. المهم نحن لا نكاد نلمح من أهمية أو قيمة أو حتى معنى لحياة كل من هاتين الشخصيتين والأخريات من معنى بدون البطل وبدون عطف أو التفات من. ص19. بل حتى مدينة (فاتن) لم تعرفها كما ستعرفها حين تلتقي (حسان) والنرجسي، ومن خلفه الراوي أو الكاتب. ص44. حتى مع أن فصولاً قليلة يتصدرها عنوان (فاتن عبد العزيز) وتُروى بلسانها بصيغة ضمير المتكلم، بينما تُروى الفصول عموماً بضمير الغائب.
خلال ذلك كله، لا يتخلى الكاتب عن نرجسية بطله، بل يعزّزها في كل كلمة أو حدث أو علاقة أو سلوك يأتي به، أو تأتي به الشخصيات الأخرى، فهو لكي يبرر لـ(حسان)، مثلاً، إقامته علاقة جنسية مع (راضية) المتزوجة، وفوق ذلك تكون شبقة وهي تلاحقه لترمي نفسها في أحضانه، ولا يكون- نعني (حسان)- مخطئاً في ذلك، وهو لو كان على أرض الواقع لكان مخطئاً فعلاً، ولا يكون مستغلاً لها، وهو لو نظرنا إليه على أنه إنسان من الواقع لوجدناه مستغلاً لها فعلاً، يجعل من بطله يوماً يقوم، وبدون مبرر مقنع فنياً وموضوعياً، بل بسعي منه لتهيئة المبرر له لإقامة هذه العلاقة غير الشرعية بمراقبة زوج (راضية) فيراه يسكر ويأتي البيت متأخراً وربما يضربها وربما يضرب بنتيه، ص51-52.
وتعلّقاً بالجنس، فمهما حاول الكاتب أن يظهره وكأنه تعبير عن واقع، أو عن نفسية البطل أو وضعه النفسي، أو للتعبير عن أوضاع شخصيات أخرى، أو تظاهراً بالجرأة وبتجاوز التابو، فإنه في الغالب، وخصوصاً حين يعمد إلى الجنس الفاضح، فإن يصير بشخصياته ومماراسته ووصفه غاية بحد ذاته، بل هو يقترب من أن يكون، في هذا، من نوع البورنو، كما في تكرار مشاهد الجنس كما يمارسها (حسان) و(راضية) في صفحات ليست من مسار السرد بل مخصصة لهذه الغاية وبالمشهد بعد المشهد. ص133-137. هذا كله يحيلنا إلى ملاحظة عامة تشتمل على هذا كله، وهي عما نسميها توقفات الربيعي- الوقفات- غير المقنعة ضمن مسار الرواية، ونحن نعرف أن أي فعل في الرواية يجب أن يكون له لزوم وإلا صار حشواً أو لغواً يجب حذفه، وهو ما نجده كثيراً في هذه الرواية. من ذلك مثلاً وصف المعطم والطعام في أعقاب تشييع (صالح عثمان) الذي نفترض أنه حدث جلل أو على الأقل مهم للبطل، وإن لم يعن هو الآخر شيئاً لا لمسار الرواية ولا لفنها. ومثل هذا لا نجد لحادثة فقدان (إيمان) لعذريتها أية علاقة بمجرى الرواية، ولا تقدم لها شيئاً. والأمر ينسحب على تفصيلية بعض الأحداث غير المهمة.
في مقابل هذا، ولكن بما يعززه، ولا يتناقض معه، كما قد يعتقد القارئ، وانطلاقاً من إحساس ورأي شخصيين، أود أن أقول، وأنا أتفهم أن يتفق معي البعض وأن لا يتفق معي آخرون، بمن فيهم الروائي، إنني لم أرَ كاتباً، في كل ما قرأت من أعمال قصصية وروائية وغيرها، كان قاسياً مع شخصية من شخصياته كما أجد الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي مع بطلته (هدى)، الأمر الذي يجعلني أفكر بدراسة هذه الظاهرة عند الكاتب في وقت ما، وأقول عند الكاتب وأنا أجده يفتقد الموضوعية في التعامل مع غالبية شخصيات غالبية أعماله وليس مع بطلته هنا، ولكنه جسد هذه الموضوعية هنا كما لم تتجسد فيه في تعامله مع أي من الشخصيات الأخرى وفي أي من أعماله الأخرى. وحين أقول أفكر بهذه الدراسة فإنني أعني أن أفعل هذا من منطلق معين كأن يكون منطلق المنهج النفسي سعياً ومحاولةً للوصول إلى تفسير هذه الظاهرة غير العادية. والكاتب لا يحرر بطله منه، أعني من الكاتب.
وتعلّقاً بالشخصيات عموماً، من ناحية الرسم والتقديم والحضور، نرى أن شخصيات الربيعي، وبعد شخصيته (كريم الناصري) الخالدة، والكثير من شخصيات "عيون في الحلم" و"الأنهار"، وإلى حد ما (القمر والأسوار)، صارت ، كما هي في هذه الرواية، تمر غالباً عابرة فتظهر وقبل أن تسجل حضورها تختفي فتُنسى. لا تحس بحياة للشخصيات والسبب الرئيس هو هيمنة البطل، كالعادة، على الكاتب بحيث لا تكتسب أي منها أي اهتمام إلا بحدود ما يعزز ألوهية البطل. والسبب الآخر هو المرور العابر للكثير منها، والسبب الثالث هو ظهورها المتأخر في الرواية. شخصيات تمر سريعاً إذ تظهر بوصفها أصدقاء عراقيين قدماء أو اصدقاء فلسطينين حاليين بل معظمها لا تظهر إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية، مثل شكيب الخزرجي- ص150- الذي يظهر فجأة صديقاً له بل صديق عمرة، ليختفي بعد أسطر، والعربي الخطاب التونسي وصديق صالح عثمان الذي يظهر هو الآخر فجأة بعد تشييع الأخير ليدعوهم على العشاء. وهكذا يكون غير ملائم أبداً أن يعرفنا به البطل الراوي –في ص166- قبل نهاية الرواية بخمسين صفحة بهذه الشخصية. الشخصية الأخرى هي أبو جورج الذي يطل علينا فجأة في ص171 ليأخذ البطل إلى الطبيب، وأبو الليل في ص174.
( 4 )
كثيراً ما تظهر شخصيات بدون مبرر فني، ولا نقول حياتي لأن ذلك على أرض الواقع، ونحن لا نأخذ كل شيء من الواقع بتفصيلاته [قيل في هذا في خضم الحديث عن الفن الروائي]، كما هو حال شخصيات مثل… . فإنها كثيراً مما تختفي أيضاً بدون هذا، كما هو حال شخصيات مثل شكيب الخزرجي وفيصل حمادي وغيرهما. بل حتى صالح عثمان صديق حسان التونسي/ المذيع، ولهذا فحين يموت فجأة في حادث تسرب غاز تنجو منه عائلته ويموت هو ليأتي الفصل (24) في أعقاب هذا الموت، فإنه يأتي زائداً تماماً ولا يقدم أي شيء لمسار الأحداث وما كان ليؤثر إطلاقاً في الرواية لو أنه حذف. وكل هذا يذكرنا بـ(كريم الناصري) في “الوشم”، و(سليم) في “عيون في الحلم”، والأكثر بـ(صلاح كامل) في “الأنهار”. المعلومات في ص 128 عن (حسان)، تلتقي مع المعلومات عن شخصيات (كريم الناصري) في “الوشم”، و(سالم) في “عيون في الحلم”.
تعلّقاً بالشخصيات النسائية تحديداً، هي تكتسب خصوصيات منها ما يتعلق بما عرضناه عن موقف الروائي من أبطاله وشخصياته، ومنها ما يتعلق بكونها نسائية. ففاتن عبد العزيز: طالبة حقوق تونسية على أبواب التخرج يلتقي بها البطل في الباص لتصير صديقة له، ورغم كل الوله التي تحمله له كما هي حال أية امرأة تلتقي ببطل الربيعي، أي بطل له، لا يسمح للعلاقة أن تتطور لتصير علاقة عشق وجسد. وراضية: معلمة صديقة وجيران تسكن هي وزوجها السيء وابنتيها في الطابق الأرضي من الفيلا التي يسكن حسان فيها نزيلاً عن فرنسية قبل انتقاله مستقلاً في شقة، وتصير عشيقة شبقة له. عدا ذلك، قد لا يكون للبعض لاسيما النساء، كما لفاتن وراضية، من قيمة ولحياتهم معنى بدونه وبدون عطف أو التفات من. ص19. حتى مدينتها لم تعرفها كما ستعرفها حين تلتقي حسان والنرجسي المجنون الذي خلفه راوياً كان أو كاتباً. ص44. حتى مع أ، فصولاً قليلة يتصدرها عنوان (فاتن عبد العزيز) وهي تُروى بلسانها بصيغة ضمير المتكلم، بينما تُروى الفصول عموماً بضمير الغائب.
يسعى الراوي أو الكاتب لكي يبرر لإقامة (حسان) بعلاقة جنسية مع (راضية) دون أن يكون مخطئاً أو مستغلاً لها، فيقوم (حسان) يوماً، وبدون مبرر مقنع، بمراقبة زوجها في سعي من لكاتب لوضع المبرر له لإقامة هذه العلاقة فيراه يسكر ويأتي البيت متأخراً وربما يضربها وربما يضرب بنتيه، ص51-52. وهو أيضاً يجعلها شبقة وهي تلاحقه لترمي نفسها في أحضانه. وتعلّقاً بالجنس، فمهما حاول الكاتب أن يظهره وكأنه تعبير عن واقع، أو عن نفسية البطل أو وضعه النفسي، أو للتعبير عن أوضاع شخصيات أخرى، أو تظاهراً بالجرأة وبتجاوز التابو. حين يدخل الجنس الفاضح، فإن هذا الجنس يصير بشخصياته ومماراسته ووصفه غاية بحد ذاته، بل هو يقترب من أن يكون في هذا من نوع البورنو، كما في تكرار مشاهد الجنس كما يمارسها (حسان) و(راضية) في صفحات ليست من مسار السرد بل مخصصة لهذه الغاية وبالمشهد بعد المشهد. ص133-137.
هذا كله يحيلنا إلى ملاحظة عامة تشتمل على هذا كله، وهي عما نسميها توقفات الربيعي- الوقفات- غير المقنعة ضمن مسار الرواية التي عرفناها من قبل في (الأنهار) و(القمر والأسوار) و(الوكر) تتكرر هنا كثيراً سواء أكانت في تقديم شخصيات عابرة، أو وصف أطعمة ومشاريب ومطاعم ومقاه، وأشياء طارئة- كما في ص166- او ارتجاعات لا تقدم شيئاً. فلنلاحظ مثلاً وصف المعطم والطعام في أعقاب تشييع صالح عثمان الذي حدث مهم افتراضاً للبطل، وإن لم يعن هو الآخر شيئاً لا لمسار الرواية ولا لفنها. أي فعل في الرواية يجب أن يكون له لزوم وإلا صار حشواً أو لغواً يجب حذفه، وهو ما نجده كثيراً في هذه الرواية. لا نجد لحادثة فقدان إيمان لعذريتها أية علاقة بمجرى الرواية، ولا تقدم لها شيئاً، ولا تعبر عن شيء تعلقاً بالرواية. وهو حين يتذكر أي شيء يخطر في باله حدثاً أو شخصية أو ظاهرة، فإنها تأتي دون تهيئة، تفتقد عادةً الانسجام مع السياق، كما في ص170. لغو كثير، فحتى حين يطب شيئاً في مقهى مثلاً عليها أن نقرأ تفاصيل الطلب وتنفيذه بتفصيلية لا تقدم شيئاً أكثر من الإثقال على السرد، كأن يشرح نوع المشروب وأنواعه وكيف يُشرب..إلخ. لغة الستينيين غير السردية أو القصصية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“Compensation التعويض هو حيلة دفاعية يلجأ إليها الفرد عندما يعاني من بعض مشاعر النقص والقصور والحرمان في احدى النواحي الحياتية ، وذلك من أجل التعويض عن ذلك بالشعور بالتقدير وتخفيف درجة القلق، كما يقوم الفرد الذي لا يعاني من الحرمان العاطفي والجنسي وعدم تحقيق النجاح على مستوى العلاقات مع الجنس الآخر، بالتعويض عن ذلك إبداعاً أدبياً أو فنياً ينجح فيها، وفي الوقت نفسه تحقيق ما يتمناه ويرغب فيه ولا يستطيع تحقيقه على أرض الواقع، في هذا الإبداع.
ومثال ذلك ما يقوم به الفاشل دراسياً من محاولات متكررة من أجل التفوق في مجال آخر غير التحصيل الدراسي كالمهارات المهنية مثلاً ، فيتغلب بذلك على شعور ذاته بالقصور أو النقص في الجانب التحصيلي .
او الذي يعتقد ان شكله قبيح ولن يلقى القبول فيلجأ الى الغناء والشعر او العزف ليحصل على ذلك القبول .
او الذي لايستطيع ان يؤدي دورة بالشكل المطلوب في عائلته فيقوم بدور آخر ويحاول ان يبرع فيه لتعويض دورة الاساسي .”()
فالتعويض هى محاولة الفرد النجاح في ميدان لتعويض فشله أو عجزه الحقيقي أو المتخيل في ميدان آخر مما أشعره بالنقص .