عبد الرحمن مجيد الربيعي: القمر والأسوار
نص دراستي في كتاب “الرواية في العراق وتأثير الرواية الأمريكية فيها”
تأتي “القمر والأسوار”– 1976– رواية ثانية ضمن سلسلة أعمال الربيعي الواقعية القومية، وهي أضخم أعماله وواحدة من أطول الأعمال الروائية العراقية. وربما كان الامتداد الزمني الطويل نسبياً والعدد الكبير للشخصيات قد هيأ لها أن تكون بهذه الضخامة، رغم محدودية المسرح لأحداثها الرئيسة. الرواية تتعامل مع البداية الحقيقية لوعي الشعب العراقي وتصاعد النشاط السياسي للحركات القومية التي بدأت تكتسب زخماً أخذ يتضح تدريجياً، على أرض الواقع، نعني ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي شهدت فيها الساحة العربية عموماً أحداثاً كبيرة متتالية تساوقت معها وتبعتها تبدلات حيوية في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ليس هناك من حبكة رئيسة واضحة يمكن أن نتلمس حدودها، بل إن ذلك يكاد يضيع وسط عوالم وأجواء عنيت بها الرواية ولكنها لا تلغي نجاحاً ما في عكس ظروف وحياة المرحلة التي استقى الكاتب أحداثه منها. “القمر والأسوار” تتعامل مع هذه الأجواء والعوالم من خلال تركيزها على حياة محلة صغيرة في مدينة الناصرية الجنوبية، تسكنها عوائل فلاحية ترتبط بروابط الهموم والفقر وفي كونها قد نزحت كلها من الريف إلى المدينة. الكاتب يجعل هذه المحلة الصغيرة جداً مسرحاً انعكست عليه صراعات الساحة الكبيرة جداً وخفاياها وتبدلاتها وهمومها لعراق ما بعد الحرب العالمية الثانية في جُلّ مفردات واقعه. فأنت تجد الحركات السياسية، وتتلمس الفقر، وتعيش صراع الناس من أجل لقمة العيش، وتحسّ بشكل مطرد بالحياة المتغيرة للبلد سلباً وإيجاباً، وتتعرف على عادات الناس الشعبية لاسيما القروية والريفية. والواقع أن معالجة المفردة الأخيرة– العادات القروية والريفية والموروثات الشعبية ومفردات الحياة اليومية للناس– قد أخذت الكثير من الرواية، فتكرر ظهورها حد أن كانت أحياناً هدفاً مقصوداً لذاته سواء أكان ذلك من وعي المؤلف كاملاً أم من جموح قلمه. إن هذا الميل للكاتب أو جموح قلمه في الاهتمام بهذا الجانب في أساسه قد أدى أحياناً إلى أن تكون الصور التي رسمها الربيعي لذلك على حساب تسلسل الأحداث وانسيابيتها. وأمثلة ذلك كثيرة، كالمشهد الذي يترك فيه الكاتب سير الحدث في الفصل الرابع من القسم الثالث ليعرج على وصف الماحول، ظاهرياً ليعكس الجو العام للحدث، لكن الكاتب في الواقع سرعان ما يخرج عن مسار هذا الهدف ويبتعد عنه، فينسى الجو العام الذي أراد أن يجسده، وينسى أن ذلك الوصف للماحول إنما هو عنصر مساعد للحدث أو للقارئ ليعيش هذا الحدث وليس هدفاً بحد ذاته. المشهد يصور محاورة بين مجموعة من أفراد المحلة، يبتدئ فيها بكشف (جبار) عن همه وخوفه على عمله – نقل الناس عبر النهر بزورقه:
“- لقد بدأوا ببناء الجسر الثابت كما تعلمون، وطَرْدُنا من العمل بات وشيكاً، وأنا أفكر ماذا استطيع أن أعمل وأنا في مثل هذه السن؟
**
“- سيحلها الله.
“- لا تفكر لها مدبر.
“كان الجو ساخناً ومشحوناً برائحة السمك المجفف الذي ينشره سكان الزقاق في مثل هذا الموسم على حبال الغسيل حتى يجف جيداً ليكدّس بعد ذلك في أكياس ويحفظ طعاماً للشتاء القادم حيث يُسلق مع رؤوس البصل في طبخة خاصة يسمونها بـ(المسموطة)، وكانت تشكل الطعام الرئيس لهم مضافاً إليها التمرالذي يباع بأسعار زهيدة في أكياس من خوص النخيل. وعندمايملأ الفقراء أجوافهم بالسمك المجفف والتمر يمتلكون القوة آنذاك على العمل ومواصلة الجهد.
“قال حميد: يا جماعة نسيت أن أقول لكم بأن مأمور البلدية قد جاء صباح اليوم وهدد بقطع مواسير المياه من الزقاق إذا لم نكف عن رش مياه الغسيل أمام بيوتنا أرجوكم أن توصوا عوائلكم”- الرواية، ، ص97-98().
ولقد رسخت هذه الظاهرة، إضافة إلى ظواهر أخرى، سمة مهمة من سمات الرواية، تلك هي الفوتوغرافية والتسجيلية. إن نظرة إلى العالم الذي تعاملت معه يكشف لنا عن أن الربيعي قد ملأ الكتاب بكل ما أمكنه مشاهدته ورصده ومراقبته أو معرفته عن هذا العالم. ولقد أدّى توجه الكاتب هذا بعمله إلى الغرق في تفاصيل كثيرة، كان بالإمكان الاستغناء عن الكثير منها لصالح الرواية التي افتقدت بذلك ما يسميه تشيخوف (الكياسة) أو (الرشاقة) حين يقول: “حين يستخدم المرء أقل ما يمكن من الحركات على عمل أو فعل معين فإن ذلك لهو الكياسة”(). ولعل ما يمكن أن يرتبط بذلك أيضاً مما أثّر في الرواية سلبياً هو السرد المباشر للأحداث التي سادها والتتبع الملح للأحداث والشؤون السياسية. وبالإضافة إلى هذه المآخذ يقع الربيعي بما وقع فيه من قبل من أخطاء أشّرناها في بعض أعماله السابقة. من ذلك على سبيل المثال أنه أحياناً ينسى في الأخير ما يقوله في البداية مما يحدث تناقضاً أو إرباكاً أو عدم اتساق في الأحداث أو الوصف أو رسم الشخصيات ووصفها. كما أن السرعة الواضحة التي يظهر أنه قد كتب فيها روايته قد أثرت سلبياً في اللغة مما أدى إلى أن يفقد أسلوبه الحلاوة والجمالية التي اتسمت بها معظم أعماله القصيرة والطويلة الأولى.
من الواضح أن تحديد بطل الرواية من خلال تعيين شخصية بالذات من شخصياتها ليس أمراً طيعاً في أيديناً، ذلك أن “القمر والأسوار” قد اعتمدت ما يصطلح على تسميته بالبطولة الجماعية والتي هي متجسدة هنا في (المحلة) بكيانها وأهلها. إن هذه المحلة هي– كما أشرنا سابقاً– عينة من واقع المجتمع الذي تعامل الكاتب معه في زمن معين. بعبارة أخرى أن البطولة تتمثل في الناس الذين يسكنون ويتحركون في هذه المحلة ويصنعون أحداثها داخلها أو من خلال علاقتها أو احتكاكها بالعالم خارجها. وعلى أية حال، أن ذلك لا يمنع من تحديد شخصيات رئيسة غطت معظم مساحة الرواية وكانت أبطال أحداثها– إن صح التعبير– وهذه الشخصيات هي: (الشيخ علي، وهاتف، وكامل، وهاشم، وعزيز). وقد حاول عبد الرحمن الربيعي أن يعطي الشخصية الأولى (الشيخ علي) بعداً عميقاً يجعل منه رجلاً فاضلاً ومثقفاً ثقافة ذاتية واسعة وذكياً وقرّاءً من الطراز الأول، وعليه فهو يستطيع دائماً توعية الناس بما هو صحيح ويؤشر لهم ما هو خطأ، وأن يلقي عليهم (محاضراته) الغنية والشاملة لمختلف الموضوعات. وهنا يبرز اعتراض موضوعي يسنده الواقع والمعرفة على هذه الصورة والخصوصية اللتين يضفيهما الكاتب على هذه الشخصية. فالقارئ العراقي، إن لم نقل العربي، يدرك جيداً أن مثل هذا الشخص، وهو المتخصص بالسحر وقراءة الطالع والشعوذة وكتابة التعاويذ والمرتزق من ذلك كله، إنما هو بعيد كل البعد عن الصورة التي عمل على رسمها له. ونماذج (الشيخ علي) كانت تملأ مجتمعنا قبل عقدين من السنين بل لا يزال القليل منها حتى الوقت الحاضر شاهداً على ما نقوله.
لقد وزع الربيعي الشخصيات الرئيسة الأخرى على الاتجاهات السياسية المختلفة التي كانت ترسم الخارطة السياسية زمن وقوع أحداث الرواية– بعد الحرب العالمية الثانية– فهناك الشيوعية ممثَّلةً بـ(هاتف)، والدين ممثَّلاً بـ(كامل)، والقوى الوطنية التقليدية ممثَّلة بـ(هاشم)، وهناك أخيراً الحركات القومية الجديدة والنامية بسرعة وقوة، ويمثلها (عزيز). والكاتب ينحاز إلى هذه الشخصية الأخيرة، بما يعني انحيازه للحركات القومية الجديدة. لكن هذا الانحياز، الذي هو في عمومه غير مباشر هذه المرة، يأتي مقنعاً تماماً، فالكاتب ينجح في كسب تعاطفنا مع هذه الشخصية والقوى التي تمثلها متجاوزاً في ذلك الانحياز غير المقنع للكاتب الذي رأيناه في رواية (الأنهار) مثلاً، سواء أكان في رسم الشخصيات وعدم تدخله بشكل مباشر في تحريكها، أو في حواراتها وأفكارها بما يتساوق مع الأحداث والظروف التي تقع فيها هذه الأحداث من جهة، والعقائد التي تقف وراء الشخصيات، من جهة أخرى. فلنقرأ مثلاً الحوار الآتي بين (عزيز) و(هاتف) الذي يجسّد نجاح الكاتب في حقن انحيازه الضمني بعناصر الإقناع وروحه:
“… قبل أسبوع فتح حواراً مع هاتف. وقد قال له:
“- الذين تدافع عنهم رضوا أن تكون فلسطين لليهود.
“وقد رد هاتف: إن الوضع الدولي كان يتطلب هذا.
“- لكن الوضع العربي، عواطف الناس، طموحاتهم لا ترضى به، ألم تفكرّوا بهذا؟ ألم تعرفوا تاريخ هذه الأمة وصمودها بوجه الغزوات؟.
“-أنت تحلم يا عزيز.
“- ولماذا لا؟ أنت أكبر مني سناً يا هاتف لكنك لا تقرأ، ومعلوماتك أحادية الجانب وتردد ما تسمعه فقط.
“- وهل هناك خطأ فيه؟
“- نعم يجب أن توسّع دائرتك.
“- أنت مثلاً. هل تمثل جهة سياسية؟
“- الآن لا، ولو كانت الجهة التي تمثل طموحاتي موجودة لما ترددت عن الانتماء إليها…
“- حسناً، والأحزاب القائمة أذن؟
“- أحزاب المعارضة هي أحزاب وطنية بلا شك، ولكن قربي منها أو بعدي عنها يتحددان من قضية فلسطين. جرحها كبير في أعماقي. كيف تستلب أرض لنا وتضيع؟ ولذا مهمتنا كبيرة في استردادها…”- الرواية، ص218-219.
والكاتب يستخدم في رسم شخصياته، الطريقة التقليدية المباشرة، مكتفياً بإعطاء صورة خارجية وعامة وغير مرتبطة بدواخلها ولا بالأحداث والأفكار والحوارات إلاّ بحدود ضيقة، مما جعل من غالبيتها شخصيات مسطحة. فمع أن القارئ يتذكرها ويميزها بسهولة متى ما ظهرت أو تكلمت في الرواية، إلاّ أنه سرعان ما ينساها بعد الانتهاء من الكتاب، خلافاً لشخصيات خلقها الربيعي في رواياته وقصصه السابقة كشخصية (كريم الناصري) في رواية “الوشم”، على سبيل المثال.
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …