سابع أيام الخلق

عبد الخالق.. وسابع أيام الخلق .. انطباع
ميسلون هادي
لا أنوي في هذا الحـيـز الضيق أن أخـوض في تفاصيل عمل أدبي قرأته وأعجبت به، على
عـادة جـرت بتلخيص أحـداث ذلك العمل عند عرضه في الصحافة وتقديمه، مكتشفاً جاهزاً،
للقارئ المشغول أو البعيد عن مثل هذا النوع من الاكـتـشـافـات. فالرواية التي
أتحدث عنها اليوم، وهي (سابع أيام الخلق)، لا تحـتـمـل مـثل هذا التلخيص والعـجـالة في
العرض، بسبب طبيعتها الصعبة أولاً، ولكونها مرتبطة ثانياً بروايتين أخريين سابقتين لها
هـمـا (الراووق) الصـادرة عن دار الشـؤون الثـقـافـيـة الـعـامـة عـام 1986، و(قبل أن يحّلق
البـاشق) الصادرة عن نفس الدار عـام 1990، وبالرغم من ذلك فإني سأذكرها بطريقة أخرى،
وأوجـز عـرضـهـا بالقول إن رواية (سابع أيام الخلق) هي عـدة روايات مكتـوبة داخل رواية
واحـدة، أو هي عـمـل يـنمـو بأطراد ويـتـوسع لتـلافي، مـا يـعـتـبـره المؤلف على لسان بطله (الروائي)،
نقصاً لا يمكن تلافيه إلا عن طريق اتخاذ المخطوطة هيأتها الناميـة باستمرار
مـعـتـبـرأ هذه المخطوطة كالمتحف وجـهـاً آخـر لتاريخ المدينة مكاناً وزماناً، ومثلما يحاول هذا
المتحف استكمال هذا التاريخ عن طريق جمع العينات الآثارية، يحـاول (الروائي) الـقـيـام
بالعمل نفسه بواسطة الكلمات.
والروائي (داخل الرواية) مـتـتـبـع لـعـدة شخصـيـات مـهـمـة تـحـاول تدوين (السيرة المطلقية) لمدينة الأسلاف، متقص لآثارها من خـلال (دفـتـر مـلاحظات) أو (كـاسـيت) أو (مخطوطة).. حيث يقابل هذا النمـو الروائي للسيـرة المطلقـيـة نمواً آخـر لمتـحـف مـدينة الأسلاف، الذي يضم في قاعاته الست ما يساعد الروائي على إتمام مخطوطتـه تـلك، وكـأن المتحف والروائي متلازمان وكفيلان بإنهاض أحدهما الآخر إلى الوجود أو أن تلك الرواية، كما جاء على لسان الشاعر صديق الروائي، ستغدو على شاكلة المتحف مزيجاً من الفوضى والـتـنـافـر ظاهرياً في حين هي في باطنـهـا بمنتهى الدقة والنظام.
وأثناء ما يخبرنا هذا (الروائي) كيف كتب روايته جامعاً بها ما تفرق على ألسنة الرواة واصـلاً إلى المحظور الذي لم يروه أحـد، تكون الرواية قد أصبحت بين أيدينا مكتملة (ككتاب مطبوع)، وإن لم تكتـمـل كـمـخطوطة أو كـعـمل مفتوح سيتعقب أثره الروائي، فيما يبدو، مرة أخرى.
إن عملاً أمسك بخيوط عديدة ومتشعبة بما فيها الحقيقي والمفترض المروي والمسموع والمكتوب، تتداخل مع بعضها البعض بشكل يصعب السيطرة عليـه أو فض اشـتـبـاكـه، إن عملاً مثل هذا يتطلب منا أن نتوقف عند المقدرة المتميزة لكاتبه عبدالخالق الركابي في تتبع أثر كل خيط على حـدة، ثـم حـيـاكـتـه مع الخيط الآخر بطريقة نساج ماهر وجـعل ذلك النسيج هو الذي يـتـخـلـق أمـام أعيننا في النهاية كرواية مثيرة للدهشة، ألا يقولون في العامية للصبور الهادئ ذي النفس الطويل بأن
عنده (خُلق)، بتفخيم اللام وقلب القاف كافاً، وهذه الكلمة هي ما كانت تتردد في ذهني، وأنا أتتبع مسار المتاهة، التي صنعها لنا الركابي، بحـذق ومكر شـديدين، عندمـا جـعـل الروائي السابع داخل الرواية ينضم إلى سلسلة الرواة الستة للسيرة المطلقية وهم (عبدالله البصير) و(مدلول اليتيم) و(عذيب العاشق) و(السيد نور) و(ذاكر القيم) و(شبيب طاهر الغياث)، وذلك الروائي السابع الذي يكتب خارج المتن ليصبح داخله هو ليس عـبـدالخالق الركابي نفسه، بل شخصية أخرى خلقها لتحل محله وتصفف الأحداث من جديد مضيفة الرقم (7) الى سلسلة الرواة والمراحل والأقـسـام التـي كـُتـبـت بـهـا السيرة.
إذن فـإن المتـاهة هي نفـسـهـا، التي لازمت الروائي السابع في تتبع السيرة، لازمت الروائي الركابي في جـمـع مـادتـه من وثائق ومصادر وآثار تلك السيرة، وقد أحاط (الاثنان)، إذ كانا ينفصلان ويتوحدان وكأنهما اثنان، ـبمتاهتهما الدائرية تلك بحرفية عالية وصبر شديد و(خُلق) طويل، وهذه المقدرة لوحدها هي مما أشير اليه هنا كعنصر نجـاح لافت للنظر في هذه الرواية يصطف راتباً عناصر نجاحها الأخرى.
وإذا كان من البديهي إن مثل هذه المقدرة لا تتوفر إلا لكتاب كبار ومحترفين تترجم أعمالهم إلى جـمـيـع اللغـات، وتتـصـدر قـوائـم أفـضل المبيعات، أو قـمـم الـتـرشـيـحـات للـجـوائز والمسابقات الأدبية، فان كاتبنا الكبير عبدالخالق الركابي، الذي قد يجهله ويجهل أعماله الكثير من أبناء بلده، إن لم نقل حتى أقرب الناس اليه، هو واحـد من الذين يسيرون في هذا الطريق بجدارة، لأنه نذر نفـسـه للكلمـة وخلص لهـا خلوصاً تاماً وحميماً، ويكون من الأفضل بعد ذلك أن يلتفت الآخرون إلى هذا السائر المأخوذ بهذا الطريق الصعب، أما اذا لم يلتفتوا فهذا لن يقلل من ألق أعـمـالـه، كـمـا لن يقلل من اشتياقه الى ذلك الطريق.
جريدة العرب، 25-7-1997

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *