عبد الحق فاضل، مجنونان

عبد الحق فاضل: مجنونان
نص دراستي للرواية في كتاب “التجربة الروائية في العراق في نصف قرن”
وإذا كان أيوب، مع تجاوزه لغالبية الأعمال التي سبقته، قد أخفق في تقديم رواية فنية كما قلنا، فإن عبد الحق فاضل قد استطاع أن يفعل ذلك عملياً، من خلال ما حققه في “مجنونان” من إتقان للفن ووعي لحرفياته مع سيطرة شبه تامة على العالم الروائي. ويبدو أن وراء هذا قد كانت قراءات متواصلة للآداب الأجنبية والعربية الحديثة، مما تبع ذلك استيعاب واع لطبيعة الفنون القصصية، وخصوصاً أشكالها الواقعية المتمثلة في الآداب القصصية الروسية والفرنسية والإنكليزية التي لا بد أنها كانت تصل يديه، الأمر الذي مكّنه من التألق مسجلاً سبقاً غير اعتيادي في مسيرة الرواية. ويكفي أن نقول، في هذا، إن “مجنونان” هي أفضل عمل روائي أو قصصي طويل عراقي خلال أربعة عقود (من النشأة إلى بداية الستينيات)، وإنها ما زالت تحتل مكانة في تاريخ الرواية العراقية، مع أن الرواية، ونقول ذلك بدايةً، غريبة في موضوعها وأحداثها، وتبدو غير منسجمة واقعياً مع المجتمع العراقي في النصف الأول من القرن العشرين. وهذا تحديداً الذي دفع الدكتور عبد الإله أحمد إلى القول في هذا العمل محقّاً: ” مضمون الرواية يستند إلى فكرة ذهنية ذات طابع نفسي عميق، مما يذكرنا بالروايات الذهنية في الأدب الأوربي الحديث، وبأدب توفيق الحكيم الذي أقامه إلى قضايا ذهنية”().
ملخص الرواية أن (صادق شكري) صحفي وأديب ذو أطوار على شيء من الغرابة، يُعجب بكاتبة صحفية (صفية) من خلال كتاباتها. ويتطور إعجابه بما تكتبه إلى حب من دون أن يراها. يكتب لها رسالة يكشف فيها عن إعجابه بها، فيتلقى منها ردّاً عنيفاً وقاسياً. وتشاء الصدف أن يتزاحم يوماً مع فتاة على سيارة أجرة زحاماً يقودهما إلى الاتفاق على المشاركة بها. وكما قد يتوقع القارئ يكتشف بطلنا، بعد تعارف وحديث قصير أن الفتاة هي فتاته التي أحبها وكتب لها وردّته دون أن يراها. ولذا يقدم لها نفسه باسم (صدقي). وقبل أن يمضي وقت طويل على هذا اللقاء يتطور التعارف إلى علاقة صداقة تحمل بذور حب لا شك فيه. وبعد حين يحاول (صادق) أن يكشف لـ(صفية) عن شخصيته، بأن يسألها أولاً عن رأيها بـ(صادق شكري) لتفاجئه بكلام شديد القسوة عنه، الأمر الذي يدفعه إلى التراجع عن كشف سره لها، ويغادرها حزيناً غاضباً وسط استغرابها، إذ لا تجد تفسيراً لردة فعله. وتقفز الرواية بنا سنتين من الزمن يلتقيان بعدهما من جديد في بيت (فوزي)، صديق (صادق)، الذي يعرف القارئ أنه أخو (صفية)، وهنا يكرر محاولته للكشف عن حقيقة شخصيته، فيكرر سؤالها عن رأيها بـ(صادق شكري)، ويتكرر ردها أيضاً أكثر عنفاً هذه المرة بعد أن تظن أنه يغار منه إذ يسألها عنه، فيتركها غاضباً وسط استغرابها مرة أخرى. ولا يزول غموض ذلك لها إلا بعد أن يأتي أخوها ليخبرها بأن (صدقي) هو (صادق شكري). عندها فقط تعرف كل شيء، فتنطلق خلفه معلنةً:
“… سأذهب إليه.. إني أحبه، أعبده. إنه لا يستطيع أن يعيش دوني”().
في تناول الرواية نقول بداية إذا كان مما يؤخذ عليها غرابة هذه الأحداث، فإن الإكثار من الصدف واعتماد المفاجأة عنصراً فاعلاً في حبكتها تعزز هذا المأخذ بلا شك. ولكن ذلك لم يصل إلى أن يكون عامل إضعاف بيّن لفنيتها، بل لا نذهب مع عبد القادر حسن أمين حين يقول عن هذا: “ولقد أفسد جو القصة وأبعده عن واقع الحال، فلا يُعقل إطلاقاً أن يُفاجأ صادق شكري بتعيينه نائباً في البرلمان، من غير أن يطرق سمعه أمر جليل كهذا الأمر، ولا يُصدق أن يلتقي صادق بصفية في بيت فوزي، وقد خفي عليه أنها أخته…”(). إن المقدرة غير العادية للكاتب والاتزان في التعامل مع مفردات عالم الرواية وطبيعة الأسلوب الرصين للعمل قد خففت كلها من التأثير السلبي لهذا المأخذ. ومن هنا، ومع عدم التطابق أو ضعف الانسجام بين عالم الرواية المتخيل والعالم الحقيقي في مجتمع عبد الحق فاضل وقارئه، فإن الكاتب ينجح في تهيئة هذا القارئ ليعيش جو الرواية غير الاعتيادي دون أن تكدّر هذا غير الاعتيادية قراءته عليه. وما كان لذلك أن يتحقق دون ثقافة الكاتب وتمكنه من الفن الذي يتعامل معه واستكماله لشروط هذا الفن وعناصره في وقت ما كان الكثيرون ممن يزاولون الكتابة فيه يعرفون حق معرفة. من ذلك مثلاً رسم شخصياته التي لا نظنها تختفي من ذهن القارئ بعد إتمام قراءة الرواية. وربما كان في استخدامه لتقنية الفلاش باك ما يعكس نضج هذا الجانب عنده. أما البناء فقد أخرج عملاً شبه متكامل، تنسجم جوانبه فيما بينا بدقة، “وقد حقق الكاتب انسجاماً جيداً بين الشكل والمضمون. ويبدو أنه قد أدرك خلافاً لغيره من الروائيين الذين كتبوا القصة في العراق… أن للرواية شكلاً يجب أن ينسجم مع مضمونها… وأن الرواية تخضع لأصول خاصة فيها المعاناة والمكابدة والبناء المحكم، الذي يقوم على أسس فنية متينة، وليست عملاً سهلاً هيناً يسهل على أي إنسان القيام به”().
لقد نجح الكاتب في منح عناصر روايته الفنية اهتماماً متوازناً، ولم يسمح لأي منها أن تتنامى وتتألق على حساب الأخرى، “فقد تضافرت لإنجاح هذه الرواية الخصائص الفنية… فالحبكة المحكمة، والسرد المتدفق، والتحليل النفسي العميق الذي ينفذ إلى دخائل الأبطال، والنفَس الطويل، والحوار الذي يُدار بقدرة مسرحية باهرة، والذي اعتمد عليه المؤلف اعتماداً كبيراً في تطوير أحداث روايته وفي بنائها. كل ذلك قاده إلى أن يكتب عملاً روائياً بديعاً”().

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *