النكوص (هنا) .. الحضور (هناك)
قراءة لرواية “في الهنا” لطالب الرفاعي
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
تبدأ رواية “في الهنا”- بلاتنيوم بوك، الكويت 2014- للروائي الكويتي طالب الرفاعي، بالجملة الاقتتاحية الآتية التي قد تنفرز لها دلالة في متن الرواية، تماماً كما لعتبة العنوان:
“وحدي هنا في غرفتي رقم (33)، في الدور الأول من مبنى (المدرسة القبلية) التابع للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، في منطقة (المباركية)، قرب أسواق الكويت القديمة.”- الرواية، ص7.
وتوافقاً مع أن يكون لهذه الجملة بالـ(أنا) و(هنا) دلالة، جاءت الرواية بضمير المتكلم على لسان من بدا بداية أنه بطل الرواية، (طالب)، ولكنه لن يكون كذلك فعلاً، وهي تضرب على وتر الأنية. لكن هذه الأنية ليست ذاتية بحتة حد النرجسية، بدليل مغادرة بؤرة الرواية، التي تبدو في البدء وكأنها ستكون قضية (طالب)، لهذه الشخصية إلى أخرى، بل هي الأنية المثيرة لما في النفس من جهة أولى، والمعبّرة عن وجهة النظر من الآخرين من جهة ثانية، والمؤدية إلى الكشف عن يبدأ غامضاً أو على الأقل غير مصرح به من جهة ثالثة. هذه الأنية، تبقى بمواصفاتها هذه حتى حين تنتقل الرواية، في الفصل الثاني، إلى (أنا) شخصية أخرى، هي (كوثر) بل حتى حين يحضر، ضمن ذلك ضمير المخاطب وتحديداً المخاطبة، نعني وضمن (أنا) المتكلمة (كوثر). ومن خلال التنقل بين (أنا طالب) و(أنا كوثر)، و(هو الاخرين) ضمن ذلك وباعتماد وجهات النظر التي تعبّر عنها هذه الضمائر، نتعرف على (حدّوته) الرواية وهي تتجمع لنا تدريجياً وبشكل سلس، من خلال: أولاً (طالب) الذي يقترب حضوره وأفكاره واستحضار حكاية (كوثر) من أن يكون قصة إطار ولكن بخطوط عامة فقط، وهو يقدم ما يقدمه لنا من الحكاية بضمير المتكلم (أنا) وضمن ذلك ما ضمير الـ(هو)، ثانياً: (كوثر) باحتلالها مركز الرواية وبطلتها وعرض حكايتها مع (مشاري) بضمير المتكلمة ـ(أنا)، ثالثاً: (كوثر) أيضاً ولكن بضمير المخاطب (أنت) الموجّه بما يشبه المناجاة إلى (مشاري)، وهي المناجاة التي تقدم لنا من خلالها غالبية تاريخ علاقتها بـ(مشاري)، بدءاً من قولها: “أنا كوثر رفعتُ عنك غطاءاتك الهشّة…”- الرواية، ص14.
ومن البداية، حين تنطق (كوثر) بهذه الجملة المباشرة، تُعلن بشكل واضح عن المكاشفة وفتح الحساب ما بينها امرأةً وبينه رجلاً، وبخطاب واضحة هيمنة وجهة النظر الأنثوية عليه التي ستكون، برأيي، على حساب وجهة نظر (مشاري) الذكورية، بل حتى على حساب وجهة نظر (طالب) شبه الحيادية، بتبرير فني هو أنه خارج الخط الحدثي الذي يبدأ بالهيمنة على الرواية، وبترير موضوعي فكري يصل في أنثويته لا إلى مقاومة الموقف الذكوري المتمثل في (مشاري) فحسب، بل إلى تحييد موقف الآخر المتمثل في (طالب) حتى وهو يقترب من أن يكون حيادياً أصلاً، وكأنها تريد النأي عن ما يشبه الاستلاب الذي يبدو وكأن (طالب) يعيشه بالـ(هنا):
“عدتُ إلى هُناي (…) ومن ركنها أطلّت الوحدة تشير لي فاتحةً صدرها”- ص9.
و
“منذ بداية عام 2009 وأنا مزروع بصمت في هناي. البعض يردد في غرف المجلس الوطني الغارقة في سوالفها: (طالب الرفاعي مجمّد).”ص44.
و
“هنا في سجن غرفة مكتبي، يقرصني (الدسك) في ظهري (…) في أحيان كثيرة أشعر كأن روحي عطشة لشيء لا أعرف كنهه (…) احتاجت الوحدة لسنتين كي تثق بي وتأمن لي وتستأمنني على رفع نقابها المجدور، وصادفتها وأنا أزيح الغطاء عن بئر آلام قلبي كي أتسامر معها وأبثّها همومي.” ص82.
( 2 )
في العودة إلى افتتاحية الرواية، “وحدي هنا في غرفتي رقم (33)، في الدور الأول من مبنى (المدرسة القبلية) التابع للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، في منطقة (المباركية)، قرب أسواق الكويت القديمة”، تبدو لنا الآن كأن المؤلف أراد، حين فصّل في تحديد الـ(هنا) الحقيقية، أن يقدم الواقع المحلي بكل ما قد يتوارد في أذهاننا عنه من حياة وتقاليد وقيم خاصة، وربما ضمن ذلك الباترياركية، بينما تأتي (كوثر) وكأنها (هناك) مقابل (هنا) لتقدم الانتفاض على ذلك، وهو ما سيبدأ يتضح تدريجياً. وهكذا، بعد صفحات قلائل من بدء الرواية، وتحديداً حين ينكشف لنا في اليوم الأول أنه سيُعقد قران (مشاري) و(كوثر)، يتضح أنها مبنية بناءً دائرياً، تنطلق فيه من مشروع هذا القران لتعود بنا في فلاش باك يبدو أنه سيكون خط الرواية الذي يقدم لنا قصة (مشاري) و(كوثر). بعبارة أخرى انطلاقاً من الحاضر يسترجع السرد، عبر الفلاش باك، علاقتهما ذات الأربع سنوات، وتحديداً من وجهة نظر (كوثر) ليُعيدنا إلى حياتها في بيت أهلها وكيف تنشأ قوية وتواقة دوماً لامتلاك إرادتها، حتى وهي وسط بيئة باترياركية، لأنها مدللة أبيها أكثر من كل أخواتها الأربع، وكيف عزلها ذلك عن أخواتها، ثم كيف انجرّت، بسبب ذلك وبسبب أبيها ومكتبته، إلى الكتب والقراءة والاعتماد على النفس.
( 3 )
مع الحضور المحوري للمرأة، الذي به تكاد الرواية تكون رواية المرأة شخصيةً وهويةً ومرغوبةً وفاعلةً، أرى وانطلاقاً من وجة النظر الأنثوية، كما أعرفها وأؤمن بها، أن هذه المرأة تبقى متشبّثة بكل خصوصياتها النسائية، ومن ذلك توقُها للحمل وعشقها لذلك، دون مغادرة النزعة النسوية التي تتبنى وجهة النظر الأنثوية شبه المتحررة المنطلقة من الإيمان بـ(أنا) الأنثى، ربما كما يعبّر عنه بقوة المقطع الذي تخرج فيه (كوثر) مع (مشاري) في سيارتها، وتحديداً حين تقول له:
“أترضى لزوجتك الخروج مع رجل؟”، فينتفض بعبارة زجر “إلزمي حدودك” ص19.
فتفهم محقّة أنه لا يرتضي لزوجته أن تكون مثلها، لتتصاعد فيها نزعة (أنا) الأنثى المتشبّثة بالذات والكرامة، فتُوقف سيارتها وتُنزله بغضب وتتركه على قارعة الطريق مذهولاً، بفعلٍ نراه مقنعاً تماماً، وتحديداً حين يأتي بأسلوب المخاطب القوي:
“تركتُك واقعاً تلفّك حيرة الدهشة، وتحركتُ بسيارتي شاعرة أنني تخلّصت منك، رميتك كأي ورقة (كليكس) متّسخة.” ص20.
وهو أمر جلعها تراجع نفسها ولا تتردد في طرح كل ما قررته واختارته بشأنه، فتقول:
“مشاري، لا أعرف سبباً محدداً جعلني أنجذب إليك، وكأنه لا سبيل للتأمل في الحب والمحبوب معاً. فحين يهيم أحدنا بالبحث عن الحب فهو يعمى عن حال المحبوب. ولحظة تُتيّم بالمحبوب، فأنت دون أن تدري تنساق إلى شواطئ وغابات من الجنون والألم!”- الرواية، ص29.
هنا نعتقد أن اقتناعنا بانتفاضة امرأة في مجتمع محافظ هو المجتمع الكويتي، لا يحول دون أن يبدو غريباً، وربما غير مقنع بعض أفعال (كوثر)، من ذلك بشكل خاص أن تسكن وحدها في شقة. إن أحد أبسط حقوق الفرد المتهيئة إلى حد كبير، حين يكون رجلاً، أن يسكن مستقلاً، لكن هذا لا ينطبق على هذا الفرد حين يكون امرأة، كما تفعل (كوثر). لكن هذه الغرابة تزول، أو على الأقل تخف، حين نعرف أن أهلها يقاطعونها منذ اتخاذ قرارها الحاسم بخروجها من بيت العائلة إلى سكن مستقل وحدها، خصوصاً وأنها لا تستطيع تنفيذ قرارٍ كاملٍ تماماً، إذ هي لا تنفّذه إلا بعد وفاة أبيها الذي، مع كل حبه لها، وثقافته وتحرّره لا يستطيع أن يتجاوز كل شيء من عائلة وقيم سائدة وعُرف وتراكمات الزمن فيسمح لها بذلك بيسر، فيقول لها: افعلي ما تشاءين ولكن بعد وفاتي، وهو ما يكون فعلاً، الأمر الذي يجعل من فعلها مقبولاً، إن لم يكن مقنعاً تماماً لنا، على المستويين الفني والموضوعي. ولعل أكبر تحدٍّ كان في ذلك أنها تفعل ما تفعله حتى بعد تهديد عمّها (باقر) بقتلها مما يعني أنها لم تفعل ذلك في حياة أبيها لا خوفاً منه بل حبّاً له واحتراماً لإرادته، لكن طالب الرفاعي أراد من ذلك تعبيراً عن الإرادة النسوية المستقلة وغير المترددة التي عمل على أن تمتلكها بطلته، ويتعزّز الاقتناع بهذا الفعل بما وضحناه، وفوق ذلك هو يفسر لنا ذلك على لسان بطلته التي تقول:
“اقتنعت أن خروجي للسكن في شقة سيؤمّن لي حياة صافية؛ حياة تخصني. لا أرمي بظلال ضيقي على أحد، ولا يثقل عليَّ أحد بأي شيء. تاقت روحي أكثر لأن يكون لي مكان أتحرك وأعيش فيه بحريتي، دون أن ترصدني عين ويستوقفني صوت. وقلت أحدّث نفسي: لا شيء يجمعني بأمي وأخواتي. نحن أسرة وأهل بالاسم فقط! صور كاذبة أمام الناس، ولا شيء آخر.”- الرواية، ص117.
( 4 )
وفي العودة إلى خط الرواية- علاقة (كوثر) و(مشاري)- لا تصرّح الرواية، حين تنتهي العلاقة بالزواج، بأي وجهة النظر هي التي تنتصر: وجهة نظر المرأة المستقل بأن يجري الأمر كما تريد، وتحديداً بأن ينفصل (مشاري) عن زوجته ليكون لها، أم وجهة النظر الذكورية التي يعبر عنها (مشاري) مرةً بأن يقترب وضعها معه من وضع عشيقة، فالنهاية لا تكون حاسمة في الموقف من وجهتَي النظر هاتين، حين يتزوجان، ولكن مع إبقاء الزواج سرّياً مؤقتاً.
في وقفة سريعة أخيرة، نقول لأن الرواية، قضيةً وأحداثاً وشخصيات، تتعلق بالذات، وبالمشاعر والأحاسيس، وما تقود إليه من تداعيات وغَوْر في أعماق الشخصيات، وهي تتعامل مع المرأة والنسوية، فقد كان ضرورياً أن تكون لغتها متوائمة مع ذلك كله، وهو ما نعتقد أن الكاتب قد نجح فيه. هو ينتقي كلماته وعباراته بذكاء بل بأناقة- إنْ صح التعبير- وبتوفيق غالباً، بحيث تأتي معبّرة بدقة وجمالية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالمشاعر والأحاسيس، وتفصيلية الحب وعلاقته، وكل ذلك بإقناع وتأثير نظنه يتحقق في القارئ.
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …