صورة المرأة الغربية من المنظور العربي في الرواية العربية المعاصرة

صورة المرأة الغربية في المنظور العربي
في الرواية العربية المعاصرة

د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ النقاد والأدب المقارن والحديث
كلية الآداب – جامعة بغداد

صورة المرأة الغربية في المنظور العربي
في الرواية العربية المعاصرة
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ النقاد والأدب المقارن والحديث
كلية الآداب – جامعة بغداد
مقدمـة
مع كل ما قد يكون هناك من خلاف حول تعريف الأدب المقارن ومفهومه، وتبعاً لذلك تحديد حدوده، فإن مجالاته التطبيقية قد صارت معروفة، وتقترب من أن تكون متَّفقاً عليها. ومن هذا المتّفق عليه أن الميدان الرئيس الذي لا خلاف عليه لهذا الفرع المعرفي هو الأدب. وإذا ما سلّمنا بهذا الميدان المتفق عليه، وتجاوزنا ما مختلف عليه مما قد يتعدى الأدب وقد لا يتعداه، فإننا سنجده يتوزع على مجالات وفروع تُمارس الدراسة المقارنة فيها، وهي([1]):
1-الأفكار والموضوعات.
2-الأجناس الأدبية، وانتقالها ما بين الآداب القومية المختلفة.
3-التيارات الفكرية والمذاهب الفنية.
4-الشخصيات الأدبية المتخيّلة والنماذج البشرية المختلفة.
5-تأثير كاتب ما من أمة ما في أدب أمة أخرى.
6-صوره بلد أو أمة ما ومتعلّقاتهما ما في أدب بلد أو أمة أخرى.
7-مصادر الكاتب الأجنبية وعوامل انتقال الأدب من لغة إلى لغة.
“وعادة ما تتداخل هذه الفروع ببعضها، وتنبني الدراسة المقارنة الواحدة على أكثر من فرع منها. بقي من الواضح أن محور اهتمام الأدب المقارن بكل فروعه، أو الدراسات المقارنة والتأثير والتأثر، في ضوء مفهوم المدرسة الفرنسية خصوصاً، هو بشكل خاص (نحن والآخر)…”([2])، سواء أكانت مثل هذه الدراسات تُعنى بتأثير الآخر فينا، أم تأثيرنا فيه”. ومن هذا تحديداً، أو تعلّقاً به يأتي محور (الشرق والغرب) أو (نحن والآخر)، الذي ستخوض فيه ورقتنا، من خلال موضوع فرعي محدد.
إن (الشرق والغرب) أو (نحن والآخر) فكرةً وممارسةً، تكتسب أهمية في مجالات كثيرة، حين تجيء لتعني (نحن العرب أو المسلمين والآخر الغرب والغربي)، وضمن هذه المجالات الأدب الإبداعي والدراسة التي تتناوله ضمن ميادين الأدب المقارن. وفي هذا السياق الأخير تأتي ورقتنا لتُعنى بهذه الموضوعة كما تتمثل في بعض أهم نماذج الرواية العربية المعاصرة، وتحديداً في العقود الثلاثة الأخيرة. ولكن لسعة هذا الموضوع واشتماله على أفكار أو ثيمات فرعية عديدة، ومنها صورة الغرب والغربيين أو صورهم، كما تتمثل في الرواية المعنية، فقد شكلت إحدى هذه الأفكار موضوعاً محدداً لورقتنا، نعني بذلك “صورة المرأة الغربية في المنظور العربي في الرواية العربية المعاصرة”. وهي الصورة التي سنمهّد لها بالتعرض بتركيز لتناول الأدب العربي، ولا سيما الرواية، للقاء الشرق أو العرب والغرب، ولنظرة العربي إلى الغرب والغربيين كما تمثَّلته الرواية العربية التي شكلت كلها محور (نحن والآخر).

المبحث الأول
(نحن والآخر) في ضوء لقاء الشرق والغرب
في الرواية العربية
تعود بداية علاقة العرب والشرق بالغرب، في العصر الحديث، إلى بداية القرن التاسع عشر. ولما كانت أولى الكتابات التي اشتملت بعض ما قد يمتّ بصلة ما إلى الفن الروائي، مع أنه لم يكن منه بالتأكيد، قد ظهرت بعد العقود الأولى من ذلك القرن، فقد كان من الطبيعي أن تكون تلك المرحلة الممهدة لظهور الرواية هي بداية اهتمام الرواية العربية بموضوع اللقاء بين الشرق والغرب، وفي ضوئها (نحن والآخر). ولكن لم نكن لننتظر من تلك المرحلة شيئاً ذا أهمية في هذا المجال، بل كان لنا أن ننتظر مراحل تالية عن تلك البداية من مسيرة الرواية، وبشكل أنضج تمثّلاً وفناً في الرواية الفنية. وعموماً يمكن للمتتبع لمساري لقاء الشرق والغرب وتطور الرواية العربية، أن يجدهما، وفقاً لطبيعة تمثُّل هذه الرواية لذلك اللقاء فنياً وفكرياً، يمرّان بالمراحل الآتية([3]):
المرحلة الأولى، وهي المرحلة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر تقريباً إلى الحرب العالمية الأولى، وكانت كتاباتها عبارة عن وصف للغرب أو لبعض جوانبه، وقد انتبهت إلى ظواهر الأمور مع اهتمامات خاصة ببعضها. وكل ذلك مع غلبة التعميم ونقص الوضوح عادة، وحتى في حالة بيان الرأي أو الآراء فإنها تكون في “شكل الانطباعات الشخصية”([4]). كان أهم من مثلّ هذا محمد المويلحي في “حديث عيسى بن هشام”- 1905.
المرحلة الثانية، وهي الممتدة من الحرب العالمية الأولى إلى نكسة حزيران 1967. وقد شهدت التأسيس الفني للرواية العربية، وانفتاح العرب أكثر على الغرب وإسهامهم الفاعل في زيادة العلاقة به وترسيخها وتفعيلها. روايات هذه المرحلة وصلت، في ظل التأسيس الفني للرواية وتطورها، إلى “ما يسمح للكاتب بتعديد وجهات النظر والخطابات حول إشكالية متعددة المستويات والأبعاد، وتتطلب من “الحوارية” في الأذهان والأساليب والنصوص أكثر مما تتحمله من الرؤى والمواقف الحدية والأحادية”([5]). ولعل هذا كان وراء تباين مواقف أبطال هذه الروايات، ومواقف البطل الواحد من الغرب والإنسان الغربي. أهم أعمال هذه المرحلة: “عصفور من الشرق”- 1938- لتوفيق الحكيم و”قنديل أم هشام”– 1944- ليحيى حقي، و”الحي اللاتيني”– 1953- لسهيل إدريس، إضافة إلى إمكانية ضم رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”-1970– وإن كانت تاريخياً ضمن المرحلة التالية. ويرى جورج طرابيشي أن “الحي اللاتيني” تحديداً “استطاعت ما لم يستطع غيرها: أنْ تكون أنموذجاً للرواية التي تعالج العلاقة الحضارية بين الشرق والغرب من خلال العلاقة الجنسية بين المثقف الشرقي والمرأة الغربية”([6]). ولعل ضمن أنجح ما تعبر عنه روايات هذه المرحلة عموماً أنها “تتخذ هذه القضية– قضية التلاقي– من (المرأة) إطاراً لصورة العلاقة التصادمية أو التصالحية بين الشرق والغرب”([7]).
المرحلة الثالثة، وتمتد من بعد نكسة حزيران إلى الوقت الحاضر، ونعني إلى الاحتلال الأمريكي للعراق وما عناه ذلك من عودة صريحة وجديدة للاستعمار والهيمنة الأجنبية على العرب. وقد جاءت روايات هذه المرحلة أكثر استيعاباً لثنائية الشرق والغرب، ولكن مع بعض الارتباك الذي أحدثته، في أذهان المثقفين، حروب الخليج والاحتلال الأمريكي للعراق. فقد بدا أبطال غالبيتها، مثلاً، أكثر إيجابية وانضج وعياً في تعاملهم مع الغرب، خصوصاً حين قدموا شخصيات غربية وشرقية في لقاءات تراوحت ما بين إنسانية وفكرية وندّية- إن صح التعبير- مع ميل إلى الاتزان والثقة في التعامل مع ذلك. ولكن مع بقاء التعبير الصريح أو الضمني عن رفض طروجات الآخر وسلوكياته.
تكتسب هذه المرحلة الأخيرة عندنا أهميةً متقدّمة، كونها، أولاً تشمل الفترة المعاصرة المعاشة غالباً. وهي، ثانياً تأتي بعد أشكال متنوعة ومتبدلة وربما متطورة من تناول لقاء الشرق والغرب، وهي أشكال كان من الطبيعي أن تقود التناول الإبداعي نحو نضج أكثر اعتماداً على التراكم التاريخي والمعرفي والإبداعي والتجربيّ. وهي، ثالثاً شهدت على أرض الواقع اشتباكات وتنوعات في الآراء والصور والمواقف من الغرب، في ظل وقائع جديدة عديدة. وهي، رابعاً مرحة شهدت دخولاً جامحاً وكولونيالياً جديداً لأمريكا إلى ساحة الاشتباك بين الشرق والغرب، بعد أن كانت هيمنة الحضور لأوربا ولا سيما بريطانيا وفرنسا. كما أنها، خامساً، أحيتْ فكرة صراع الحضارات، أو قوّتها لتكون في النتيجة محوراً نقاشياً وجدلياً صاخباً وحيوياً في كل مضامير الحياة والمعرفة، منها الأدب. والمرحلة، أخيراً وتعلقاً بجل ما سبق، تأتي في ظل تحول العلاقة بيننا وبين الغرب إلى إشكالية حقيقية، فرضت نفسها على كل مجالات المعرفة تقريباً من فكر وسياسة واجتماع وتربية وعلم نفس وتاريخ وأدب ونقد. ولهذه الأسباب نفسها، إلى جانب ما شهده العقدان الأخيران، وتحديداً من حرب الخليج الثانية في سنة 1991، إلى الاحتلال الأمريكي للعراق في سنة 2003، تزداد أهمية روايات النصف الثاني من هذه المرحلة، وهي ما شكلت المادة الأساسية لورقتنا.
إذن من الواضح والمفهوم أن روايات العقود الثلاثة الأخيرة تقريباً التي عالجت أو تناولت محور (الشرق والغرب)، أو (نحن والآخر)، ستكون مادة مختبرنا النقدي، وتحديداً التي قدمت المرأة الغربية بالطبع. بعبارة أخرى، واستناداً لذات الأسباب التي قدّمناها تواً، سترتكز دراستنا على تلك الروايات التي ظهرت في الفترة من 1991 إلى 2003، ولكن مع عدم استبعاد ما ظهر قبلها وما بعدها ضمن المرحلة الأوسع الممتدة من بعد نكسة حزيران إلى الوقت الحاضر. ولعلنا لا نبتعد عن الدقة إذا ما وجدنا، من خلال متابعتنا للرواية العربية في هذه المرحلة، أن من أبرز الروايات التي قدمت، ضمن محور (نحن والآخر)، صورة المرأة الغربية، الروايات الآتية:
موسم الهجرة إلى الشمال: الطيب صالح 1970
ليلة في القطار: عيسى الناعوري 1974
سباقات المسافات الطويلة: عبد الحمن منيف 1979
يوميات السيد علي سعيد: عدنان رؤوف 1979
نورا: ناجي التكريتي 1981
وتشرق غرباً: ليلى الأطرش 1987
العزف في مكان صاخب: علي خيون 1987
الثلج الأسود: محمد أزوقة 1988
أمس كان غداً: كاظم الأحمدي 1992
ذاكرة الجسد: أحلام مستغانمي 1993
بهاء طاهر: الحب في المنفى 1995
الميراث: سحر خليفة 1997
كم بدت السماء قريبة: بتول الخضيري 1999
التوأم المفقود: سليم مطر 2001
عمارة بعقوبيان: علاء الأسواني 2002
الرقص على الماء: محمود البياتي 2002
الحدود البرية: ميسلون هادي 2004
عابر سرير: أحلام مستغانمي 2004
استعادة لما سبق، نجد أن الروايات العربية، سواء أكانت تلك التي ظهرت في المرحلة التي ندرسها أم التي صدرت قبلها، وربما التي ستصدر بعدها، قد اهتمت بلقاء الشرق والغرب استجابةً لكتّابها لهذا اللقاء بتمثّل أشكاله ومناقشة قضاياه أحياناً، وتجسيد رؤاهم له غالباً. وكان ذلك طبيعياً في ظل انفتاح العرب على الغربيين، وبشكل أكثر تحديداً الأوربيين قبل أن يشمل الأمريكان في وقت لاحق، وانفتاح الغربيين على العرب، ليطرح ذلك بالضرورة علاقة كل من الطرفين مع الطرف الآخر في ظل الاختلافات الكثيرة ما بين الاثنين. وكان من الطبيعي أن تقود هذه الاختلافات الكثيرة إلى اتخاذ الأدباء العرب في تناولهم لموضوعة العلاقة بالآخر المواقف المختلفة منه ومن إقامة العلاقة معه وفقاً لقوة المؤثرات والظروف المختلفة، لكنها في خطوطها الأساسية، ومن ناحية إيجابية الموقف وسلبيته، تتدرج عادةً وفق المواقف الآتية:
1)الحماسة للآخر وللعلاقة به.
2)الموقف الحيادي أو غير المنحاز للقاء ولا لمعارضته.
3)رفض الآخر.
4)الصدام بالآخر ومقاومته.
وإذ تتعدد صور وأشكال الغرب والغربيين في هذه الروايات، مع لقاء بعضها ببعض أحياناً، فإنها بتعبير آخر تتراوح ما بين تقديم هذا الغرب عادةً بوصفه الغرب المستعمر، والغرب المتحضر، وأحياناً الآخر الغريب عنّا جنساً وعاداتٍ وقيماً وسلوكياتٍ…إلخ. والكثير من هذا يتمثل عادةً في شخصيات- رئيسة أو ثانوية- تقدمها الروايات. ومن هذه الشخصيات المرأة الغربية التي تراوحت عادةً بين أن تكون شخصية غربية بما يعنيه توصيف (غربية)، بمعزل عن جنسها رجلاً أو امرأةً، وبين أن تكون، في أنوثتها والصورة التي تُقَّدم بها هذه الأنوثة، رمزاً على أمر أو ممنى ما يتعدى دلالاتها الإنسانية. بعبارة أخرى وكما قد تمثله أية شخصية غربية ترد في الرواية العربية، قد تكون المرأة الغربية نموذجاً للغربيين، وقد تمثل واحداً من أوجه الإنسان الغربي والغرب عموماً، وربما رمزاً له أحياناً. وأياً كان هذا الذي تمثله، فإننا نرى ابتداءً أن الصورة أو الصور التي تظهر فيها في الرواية لا بد أن تمثل بدرجة ما نظرة العربي إليها على أرض، والأهم من ذلك، وتبعاً لما قلناه عنها، أنها لا بد أن تمثّل بدرجة أو بأخرى نظرة العرب إلى الغرب والغربيين. ولكن يجب أن نقول هنا إن ذلك كله إنما يقترب أكثر من الدقة حين تصل هذه الصورة أو الصور إلى درجة أن تسجل نمطاً أو أنماطاً، وما معرفة ذلك إلا بالتعرض لبعض أهم الروايات التي وردت فيها، وهو ما سيكون موضوع المبحث القادم.

المبحث الثاني
صور المرأة الغربية في الرواية العربية
كان الطبيعي أن تأتي المرأة في الرواية، كما في أي جنس أدبي بل كما في الواقع، أولاً بصفتها العامة إنساناً أو شخصية كأي شخصية أخرى، نعني بمعزل عن صفتها الأنثوية، وكما تكون في أي مكان أو مجال حياتي أو عملي أو وظيفي: في المدرسة والجامعة وموقع العمل وإلى حد محدود في العائلة أو البيت. ومن هذه الشخصيات في رواياتنا: السكرتيرة الإنكليزية في رواية “السابقون واللاحقون”- 1972- لمسيرة المانع، والشخصيات الأمريكية في رواية “الرحلة”- 1987- لرضوى عاشور، والأمريكية ست البيت الذي يسكن فيه أبو البطلة عند وصوله إلى أمريكا، في رواية “الميراث”- 1997- لسحر خليفة، والبريطانية (لورا) في رواية “العزف في مكان صاخب”- 1987- لعلي خيون، وبعض الشخصيات العابرة في رواية “سباق المسافات الطويلة”-1979- لعبد الرحمن منيف. والمرأة، ثانياً قد تحضر بوصفها امرأة تحديداً، أي بحضور أنثويتها وخصوصيتها التي تفرّقها عن الرجل، ومعها تحضر غالباً، على الأقل في العمل الأدبي وعنه قصدية واعية أو غير واعية من المؤلف، الأحاسيس الخاصة والسلوكيات المختلفة بسبب من هذه الأنثوية المختلفة عن تلك التي للرجل. وكان من الطبيعي أن نعير هذا الحضور الأخير الاهتمام الأول في دراستنا. فغالباً تعني هذه الشخصية ما تعنيه، وفي كثير من الأحيان ترمز إلى ما نرى أنها ترمز إليه، بسبب من خصوصيتها هذه- أنثويتها- أو انطلاقاً منها. ولكن هذا لا يعفينا من الالتفات إلى الحضور الأول، لأسباب ثلاثة: أولها كونها امرأة تعني بالضرورة، علمياً ومنهجياً، وجوب إدخالها في عملية الرصد والإحصاء والتفحّص والتحليل النقدي. ثانيها أن مثل هذا الرصد والإحصاء والتفحص والتحليل النقدي الذي يشمل كل مادة أدبية يقوم بدرجة كبيرة على الاجتهاد الشخصي للناقد، وقبل ذلك للقارئ، وعليه فما نراه في حضور الشخصية النسوية، كونه من النوع الأول للحضور أو النوع الثاني، قد يراه غيرنا غير ذلك. ثالث الأسباب هو أن الحضور حين يكون من النوع الأول الذي قد لا يعنينا كثيراً للوصول إلى النتائج الحاسمة في دلالة المرأة في العمل الروائي، قد ينطوي وهو بهذا الشكل من الحضور على بعض الدلالات الثانوية التي تعزز دلالة نتوصل إليها من خلال شخصيات أخرى، خصوصاً حين تكون هذه الدلالة أو المعنى مما يُرصد في الشخصيات الغربية الحاضرة في الأعمال الروائية. وعلى أية حال، وعوْدٌ على بدء، ستبقى الشخصية التي تعنينا أكثر بالطبع هي الحاضرة بصفتها النسوية أو الأنثوية، والتي كان حضورها في الصور الرئيسة الآتية:
صورة المرأة المنفلتة.
صورة المرأة المتسلطة والمريبة.
صورة المرأة الإنسانة والمعتدة بنفسها.
صورة المرأة المنفلتة: لا بد من الإشارة بدايةً إلى أن هذه الصورة هي الوحيدة من بين الصور التي سنلتقطها، ستكون خاصة بالمرأة تحديداً، بينما سيمكن رصد الصور الأخرى أحياناً في الرجل الغربي أيضاً، وبما يعني أن تبديل الشخصية النسوية في الصور الأخرى إلى رجل لم يكن في كثير الأحيان ليغير منها شيئاً بما في ذلك دلالتها ودلالة صورتها، بينما لا يمكن افتراض مثل هذا الفعل والنتيجة مع شخصية المرأة بهذه الصورة. والآن هل كان من الطبيعي أن تأتي صورة المرأة الغربية منفلتة أو غير ملتزمة بضوابط الشرف؟ سؤال ورد إلى ذهني من مدة طويلة، حتى قبل أن أفكر في دراسة حضور الشخصية الغربية، رجلاً أو امرأة، في الأدب، وتحديداً حين بدأت ملاحظتي لمثل هذا الحضور يتحول إلى رصد هذه الصورة في العديد من الروايات والقصص القصيرة العربية. وأقول الحق إن ما أفترضها إجابة مقنعة، لي على الأقل، قد جاءتني، أول ما جاءتني، عملياً أو على أرض الواقع من مدة طويلة. فقد حدث أن سافرت يوماً في نهاية السبعينيات من القرن الماضي في إيفاد رسمي إلى أحد البلدان الأوربية، وكان برفقتي موفد آخر. وحين وصولنا إلى عاصمة ذلك البلد فوجئت برفيق سفري، الذي كان بحدود معرفتي به هادئاً ومتّزناً وملتزماً، يبادر فور وصولنا إلى الانطلاق في الفندق وخارجه وفي مكان عملنا المفترض بحثاً عن امرأة وقد غادرته تلك الصفات التي أعرفها فيه من هدوء واتزان والتزام، مفترضاً أن بإمكانه الحصول على أية امرأة من حوله. وبالطبع لسنا هنا بصدد القول إن ظنه، بالشكل الذي كان يتصوره، قد خاب، وإنْ لم يعدم إيجاد شيء مما يبحث عنه. هذه الحادثة جعلتني ألاحظ أن صورة المرأة المنفلتة أو الخليعة أو السهلة أو على الأقل المتحررة بغير حدود، كما هي إلى حد بعيد صورة المجتمع الغربي عموماً الذي لا يحكمه اجتماعياً شرف ولا أخلاق، ترتسم في أذهان جل من هم من حولي من الناس. ووجدت أن وراء هذه الصورة عن الغرب والغربيين إنما هو السينما والتلفزيون، حين عٌرض الغرب علينا من خلالهما مجتمعاً غريباً علينا بكل مقاييس الحياة والمجتمع والدين، إلى جانب ما قدمه عن الغرب محدودو الثقافة وأنصاف المتعلمين الذين قصروا عن فهم ما أتيح لهم أن يرونه، وربما عمد بعضهم إلى تقديم صور غير حقيقية حين راحوا يدّعون مفاخرةً أو مباهاةً بمغامرات حب وجنس كانوا يعرفون أنها لم تكن سهلة في مجتمعاتهم، إن لم تكن مستحيلة غالباً. ,مع أن الكثير منا قد عرفوا ووعوا أن ذلك ليس هو الحقيقة تماماً، سواء أكان ذلك من خلال العلاقات التي قويت كثيراً بين العرب والغرب، أو من خلال المعايشة والتعرف عن قرب على الغرب والغربيين اللتين تهيأتا للكثير من الناس، فيبقى، مع هذا، الكثير من الناس، بمن فيهم مثقفون وأدباء، يفهمون الغرب كما فهمه أسلافهم، فيكوّنون الصور عنه كما كونها أولئك الذين سبقوهم. ومن هذه الصور التي تكونت لدى الناس، نتيجة لذلك، صورة المرأة المنفلتة أو الخليعة أو على الأقل المتحررة بغير حدود، خصوصاً إذا ما عرفنا أن بعض مفردات هذه الصورة، أو بعض حضورها إنما يقوم على أصل حقيقي أو واقعي. وهنا وتعلقاً بهذا نعتقد أن نظرتنا إلى الآخر كثيراً ما تنطلق كلياً أو جزئياً مناّ، ومن قيمنا ومُثلنا وعادتنا، ومن فهمنا نحن النسبي للقيم والشرف والأخلاق، لتتصف هذه النظرة بغير قليل من الأخطاء في المنظور المطلق للشرف والأخلاق. ولعل هذا يبرر أن تتسلل هذه الصورة حتى إلى أذهان المتعلمين والمثقفين، بل الأدباء. وهو ما كان وراء حضور مثل هذه الصورة في الرواية العربية حضوراً واضحاً، وإن تفاوتت نماذجه من حيث درجة ما تتصف به- الانفلات والخلاعة والتحرر.
إذن لم يمكن غريباً أن تحضر صورة المرأة هذه في بعض الروايات التي ندرسها هنا. فهي عادة امرأة متحررة وغير محتشمة، حتى حين تكون مرتبطة بالزواج، كما هي حال الإنكليزية (ماري)، في رواية علي خيون “العزف في مكان صاخب”. ينقل لنا البطل (عماد) أول لقاء له بـ(ماري) زوجة عمّه قائلاً:
“… عادت (ماري) من العمل، فأذهلني شكلها المثير، شقراء فاتنة طويلة، بملابس لا تستر ملابسها الداخلية البيضاء… وأشّرت بأصابعها بعد أن قرصت أنفي ، ودخلت وأنا أبصر من خلال ثيابها الرقيقة ملابسها الداخلية…
“اقتربت مني وعبثت بشعري وهي تقول:
“- إماد.. إماد.. حلو إماد.. فانتستك.. فري فانتستك.. باي.
“وأشّرتْ بأصابعها بعد أن قرصت أنفي ودخلتْ وأنا أبصر من خلال ثيابها الرقيقة ملابسها الداخلية”([8]).
ويعمّق من الدلالة التي تريدها الرواية لصورة هذه الشخصية، كما أرادها الروائي، أنه لا يجعل من سلوكها هذا استثناءً بل هو الأصل، حين يتكرر. ففي مكان آخر من الرواية يقول البطل:
“… فتحتُ الباب. دخلتُ ودعتني للدخول. غابت لحظة لا أدري في أي غرفة، كنت خلالها أحدّق كالمخبول في صورتها الكبيرة بالشورت القصير تمسك بمقبض كرة التنس وتبتسم ابتسامة عريضة. عادت بقميص شفاف بعد أن تخلّصتْ من رافعة الصدر، ولم ألمح تحت القميص سوى سروالها الداخلي الأبيض الصغير”([9]).
وفي نهاية الرواية تترك هذه الزوجة زوجها لتهرب مع أمريكي .
وإذا كان الكثير الكثير من مواصفات المرأة الغربية يأتي غالباً مقارنةً بالمرأة االشرقية، أو من منطلق الفهم الشرقي أو الإسلامي أو العربي، فإنه يتعدى ذلك أيضاً لتأتي المرأة متحررة من ضوابط الشرف والأخلاق حتى بالفهم العام للشرق والأخلاق، حين تتمتع بحرية منفلتة تصرفاً وفهماً للعلاقات بين الجنسين وللعلاقات الزوجية، مع محورية الجنس في حياتها وسلوكياتها، وكما مثّلت ذلك بوضوح (ماري) في المثال السابق. وهي أحياناً، كما كانت في نظرة العربي التقليدية القديمة لها، سهلة ومستجيبة لرغبات الآخرين- العرب عادةً- بها واشتهائهم لها. ففي رواية “الرقص على الماي” لمحمود البياتي:
“كل شيء تقريباً متاح لدى سارة. فهي لا تمانع- أو هكذا تزعم- من إقامة علاقات مع أي رجل يستهويها في شارع أو مقهى أو بار، مع شاب، شيخ، متزوج.. فهي تعتقد أن ممارسة الجنس الحر حق طبيعي، مثل ممارسة طقوس العبادة أو النشاط السياسي. لا تميّز بين علاقة زواج وعلاقة ليلة واحدة مع سائح”([10]).
وهذا الموقف الأخير من العلاقات ما بين الجنسين، بما فيها الزواج، كثيراً ما يتكرر في الروايات، بهذا الشكل أو ذاك. فها هي البريطانية أم بطلة رواية “كم بدت السماء زرقاء”- 1999- تناقش زوجها العراقي بقوة و(عدم حياء) يقترب من أن يكون تبجحاً وتهتّكاً، على الأقل بالمنظور العربي التقليدي، حول موضوع علاقاتها بأجانب والسهر معهم بمن فيهم من قد يكون لها علاقة غير عادية به، وضمن ذلك سأمها وعدم احترامها لارتباط الزوجية، فتقول له برمة بما يرى زوجها أن الآخرين يتقولونه بشأنها وبشأن علاقاتها غير المقبولة:
“- لا يهمني ما يقولونه. أنا سئمت هذا الارتباط. أُحب السهر مع مجموعة الأجانب متى شئت، دون أن تفسد عليّ ذلك… ألا تفهم أن حياتي انفصلت عن حياتك؟ نحن لا نعيش أو نتعايش حتى، فقط نحيا معاً في بيت واحد.
“- ما دمتِ في هذا البيت ستحترمين بعض تقاليده.
“- إذن عدنا إلى أن الذنب ذنبي. يا رجل أنا أريد الانفصال النهائي. لا أريد أفضالك، ولا تذكيرك لي بأنك سيد الدار…”([11]).
أما البريطانية (المسز فليمن) في رواية “أمس كان غداً”- 2199- لكاظم الأحمدي، فهي تتخطى كل حدود الالتزام الأخلاقي، وحدود الشرف وفق أي منظور، حين تقيم علاقة غير سوية مع الحدث (عقيل)، حتى وإن لم يكن واضحاً ما إذا كان تطور العلاقة إلى اتصال جسدي حقيقياً أم تخيّلاً، وحتى إذا فهمنا هذه العلاقة بما هو قد تبدو عليه أحياناً حين تستهدف من تعريته مثلاً غير ما يُفهم من ظاهر الفعل، إذ تجعل منه موديلاً للرسم، لأنها في هذا الفعل ذاتها تتخطى حدود الرسم، ولذا ليس غريباً أن يترك تأثيره غير السوي في الصغير الذي ينقل لنا الوقائع:
“وأنا في بيت فليمن، كنت أشعر بأنني أحمل زيادة من اللحم بين فخذي، كان لحماً عصياً ووقحاً في حركته- وهي تضعني أمامها- توقفني عارياً إلا من لباسي المدرسي… كانت تضع لوحة عريضة مربعة ذات مساند وأرجل طويلة، ترتفع عن الأرض بارتفاع ساقين، ومن تحتها أرى ساقَي زوجة فليمن عاريين- لأنها- في هذا اليومن ترتدي بنطوناً قصيراً، ضيقاً، أبيض، وقميصاً شفافاً أبيض- يكاد لا يمسك جسدها… وأرى جسدها أحمر، قانياً من وراء الميص.. كل شيء يظهر من وراء القميص.. أرى صدرها والكرتين الملمومتين الدافقتين تصطرعان تحت لمعان ضوء خفيّ…”([12]).
ويعزز قصدية ما تفعله (المسز فليمن) استمرارية هذا الفعل على طول الرواية.
ولعل أبعد علاقات المرأة الغربية الجسدية عن التهتك والانفلات، كما نراها في الروايات العربية، تأتي غير مقبولة أو على الأقل غير ملائمة لوجهة نظر العربي، كما تبدو مثلاً (كاترين) في رواية أحلام مستغانمي “ذاكرة الجسد”([13]).
صورة المرأة المتسلطة والمريبة: لعل هذه الصورة، وهي تظهر بشكل محدود، جزء من كلٍّ تمثله الكثير من الشخصيات الغربية عموماً، وبمعزل عن كونها رجالاً أو نساءً. ومثل هذا التعالي والمظهر التسلّطي والتصرف، الذي كثيراً ما يبدو غير مألوف للآخرين، يدعو إلى الاستغراب الذي قد يصل أحياناً إلى حد الريبة، مما يجعل من بعض هذه الشخصيات، التي تأتي بهذه الصورة، مريبة. ولكن، من جهة أخرى، قد يكون مأتى هذا التصور الذي يكوّنه الآخرون عن هذه الشخصيات، هو نظرات ربما تكون مسبقة لمن هم وراء العمل الروائي، نعني الروائيين أو لمن يمثلونهم على أرض الواقع عن الغرب والغربيين، ولا سيما النساء منهم.
ومرة أخرى قد تأتي صورة الشخصية المريبة، كما تظهر في الرواية العربية، مما تراه الشخصيات العربية، من نوايا وأفعال غير بريئة وغير إيجابية لذلك الغرب والغربيين على أرض واقع الرواية المتخيّل، وربما كما يراه الروائيون هو على أرض الواقع الحقيقي. فحين قلنا، في تناول المثال السابق، إن التعالي والتسلط حين يأتيان من امرأة في بيئة غير معتادة على ذلك فتدعوان إلى استغراب الآخرين الذي قد يصل إلى حد الريبة بهذه الشخصية فإن بطلنا الصغير هذا يصل إلى هذه المرحلة وهو يرقب تصرفات سيدته البريطانية (المسز) مريبة فعلاً.
في رواية “أمس كان غداً”، تكاد شخصية البريطانية (المسز فليمن) التي عرفناها في الفقرة السابقة تكون السلطة العليا على عالم الرواية بشخصياته، بمن فيه زوجها (المستر فليمن) والحدث، بطل الرواية (عقيل) الذي ينقل لنا الأحداث متمركزةً حول السمز فليمن نفسها التي عادةً بما يثير استغرابه بتسلطها وسلوكها، وهو الاستغراب الذي يتطور ليبدأ بملاحظة أن كل ما تقوم به أمور غير عادية، وربما غير سوية، بما في ذلك ما تقوم به معه وتصرفاتها مع زوجها ورعايتها لكلبتها أشا:
“خطر ببالي أن أرى كيف تنام (أشا) وأين؟ وطلبتُ من السيدة أن تريني غرفة الكلبة المدللة، ولكنني فوجئت بغضب السيدة، غضب لم أكن أتوقعه، بل أنني تصورتها سوف تلقي بي خارج البيت”([14])
ليكتشف فيما بعد أن الغرفة مملوءة بأجهزة غريبة تثير الريبة أكثر.
ومن خلفية مشابهة ومختلفة في الوقت نفسه تأتي رؤية بطلة رواية “وتشرق غرباً” لليلى الأطرش، الصغيرة (هند النجار) لشخصية سائحة أمريكية استوقفتها وجذبت نظرها عرضاً، وما وجود السائحة ذاته عارضاً بدلالة ما سيكون أولاً، وطبيعة المشهد الذي تدخل به هذه الشخصية إلى الرواية وإلى ذهن البطلة ثانياً، لتكون- نعني شخصية السائحة الأجنبية– مريبة فعلاً:
“تجمهر السائقون، وأبطأ بعض المسرعين ، ونزل متطفلون من باصاتهم حين علا اللغط حول امرأة أجنبية لا بد أنها سائحة، في منظرهـا العام ما يستوقف.. فالسياح عادة يسيـرون في جماعات وهي وحيـدة بلا دليـل، جاءت في غير المواسم التي يتدفق فيه السيـاح إلى القدس.. وفي حيرتها وسط المتطفليـن بدت كقطة مذعورة يشـدك خوفها فتحدق إليها وتتابعها.. شقراء في نهايـة العقد الثالث من العمر… متوسطة الجمال والقامة، تتدلى من عنقها كاميرا مغلقة ، وفي يدهـا ورقة صغيـرة تقرأ ما فيها وتعيـده ، ويحيرها ارتفاع اللغظ حولها فيزداد توترها وعصبيتها”([15]).
وعندما تتطوع (هند) لمساعدتها بمحاولة معرفة ما تريد، تكتشف أنها أمريكية تسأل عن كنيسة معينة تثير استغراب (هند). وهنا تصف الروائية من خلال بطلتها هذه الكنيسة بقصدية تبرير استغرابها من جهة، وتهيئة لها ولنا لنرتاب بهذه السائحة من جهة ثانية:
“لماذا تسأل سائحة أمريكية وحيدة عن كنيسة صغيرة لا يدخلها من البلدة أحد، ولا تفتح أبوابها إلاّ نادراً…، وليس فيها إلا راهب واحد وناطور يعيش قرب البوابة الحديدية التي لا تفتح إلا أيام الميلاد مرة واحدة، وليس حولها إلا بيوت متناثرة ومتباعدة …
“وجدت نفسها تعرض على السائحة أن تصحبها إلى كنسية المهد في بيت لحم أو حقـل الرعاة في بيت ساحور، فهما الأشهر، ويتدفق عليهما السيـاح، ولكن السائحـة أخرجت من حقيبتها خارطة رُسم عليها مكان تلك الكنيسة واضحاً، وأصرت أن هذا ما تريده فقط.. وعندما لمحت الحيـرة في عيني هند حدثتها عن أم مريضة قعيدة الفراش، وأنها قرأت عن تلك الكنيسة النائية فأرادت أن تزورها، ولكنها لم تستطع، فجاءت الابنة لتصورها وتحمل إليها صورها وقليلاً من ترابها”([16]).
وإذ انتهت سويعات مرافقتها للسائحة التي كانت كل تصرفاتها خلالها غريبة وتوحي بالريبة([17])، بقيت (هند) بعد ذلك مستغربة وأحياناً مستريبة مما رأته من تلك الأمريكية الغريبة الأطوار، حتى حين كانت تحاول تعليل ما رأت لتقنع نفسها بذلك وبأنه ليس غريباً، “ولكن أليس بعض السياح مجانين”([18])، يبقى فيها ما يريبها حتى بعد سفرها. ولكن بنفس الروح الطيبة، ولكي لا تسئ الظن بما أبدته السائحة كتبت إليها على العنوان الذي تركته لها، لتكون النتيجة المؤكَّدة والمؤكِّدة للارتياب:
“عادت الرسالة بعد أسابيع من الانتظار، وقد كُتب على طرف مظروفها بخط أحمر كبير: العنوان غير موجود”([19]).
عندما تأتي هذه الشخصية الغربية متعالية فإنها تأتي على ما يبدو مما خبره العربي الحقيقي، فانتقل إلى المتخيّل، في تجاربه الطويلة السابقة مع الغرب والغربيين من تصرفات متعالية، خصوصاً في العهد الكولونيالي حين كان الغرب ينطلق فعلاً من هذه النظرة المتعالية في سلوكه وتعامله مع الآخر الدونيّ. وهي نظرة إذا كانت متأتية أحياناً من التفوق التكنولوجي والصناعي للغرب، فإنها ربما أتت، أو على الأقل تمثّلت للآخر الشرقي، من عنصرية، وربما أيضاً ترجمةً لصراع الغرب الحضاري والديني مع العرب والشرقيين والمسلمين. ومرة أخرى قد تتسع مثل هذه الصورة لتتعدى المرأة إلى الشخصية الغربية في تمثيلها لعنصرية الغرب ونظرته السلبية إلى الشرق والإسلام والعرب، وما تؤدي إليه من معاداة للعرب ممثلين بالوطن العربي وبالمهاجرين. بقي أن نشير، تعلقاً بصورة المرأة الغربية هذه، إلى أن واحداً مما قد يكون سبباً في أن يقدم الروائي مثل هكذا صورة عن الغرب والغربيين هو ما يراه- محقاً أو غير محق- معاداة صريحة وكرهاً يحمله الغرب، ولا سيما أمريكا، للعرب، كما ينعكس في أبرز صوره على القضية الفلسطينية.
صورة المرأة الإنسانة والمعتدة بنفسها: إذا كانت هذه الصورة هي من صورة الغربي الإنسان المتحضر عموماً، فإن بعض ذلك يأتي بما هو مقصود للمرأة الغربية، خصوصاً حين يأتي ذلك صراحةً أو ضمناً، وكلاماً أو سلوكاً، وفي وعي الشخصية العربية التي تتعامل معها أو في لا وعيها، في سياق المقارنة ما بينها وبين المرأة الشرقية أو العربية. وهنا تأتي هذه الصورة إيجابية عادةً في دلالتها كما في شكلها، ولكن قد يُقصد بها، حتى وهي مع هذا المعنى والدلالة، ما هو أبعد من ذلك، كما هو حال تقديم شخصية الأمريكية (جانيت) في رواية محمد أزوقة، بدءاً من الإطلالة البسيطة عليها بين الطائرة ومطار عمّان:
“بقيت جانيت جالسة حتى خف الزحام، ثم قامت إلى الخزانة التي فوق رأسها وأخرجت لفائف الخرائــط والرسومات الهندسية وحملت حقيبتها اليدوية الجلدية العزيزة التي ترافقها حيثما ذهبت …
“… فتحت حقيبة ملابسها الوحيدة أمام الموظف، ابتسم لبساطة محتوياتها وأشار إليها بإغلاقها والتقدم”([20]).
“فمن الواضح أن الكاتب يصور هنا كياسة ورقّة ومدنية سلوك الغربيين مقارنة بالشرقيين أو العرب. ولكن هل هذا مقصود لذاته؟ لا نظن، فما سيأتي بعد ذلك سيغير مثل هكذا فكرة قد تخطر في بال القارئ”([21]). فهي سرعان ما تُبدي إعجابها بالأردن من منطلق سعى الروائي إلى أن يبدو موضوعياً حين صورها بإيجابية كما رأينا ملمحها الأول، فتقول في مخاطبةً مجموعة من الأردنيين صباح اليوم التالي لوصولها:”أيها السادة ، كنت أعتقد أننا نحن الأمريكان نحمل قصب السبق في الاندماج بالعمل لكن بعد هذه الجلسة بدأت أغير رأي”([22]).
لكن هذا على أية حال لا ينسف إيجابية الصورة لهذه المرأة الغربية، و”برسم يقترب من أن يكون نموذجياً لشخصية بطلته… وبما يتلاءم مع ما قد لا يستطيع أي منا إنكاره في الحضارة الغربية من التقدم العلمي والتكنولوجيا والتفوق الفكري والاجتماعي والثقافي. فهو يضفي على بطلته مزايا قد تظهرها من جوانب معينة مثالية شكلاً وسلوكاً وثقة بالنفس وتمكناً من مهمتها”([23]). عندما يسألها (سعيد):
“- وما هي طموحـات المرأة الأمريكيـة أكثر من الوضع الحالي؟ إياك أن تقولي إنّكن تفكرن باحتلال البيت الأبيض مثلاً”.
تجيب: “وما الذي يمنع ؟”([24]).
وعندما يدور الحديث عن حرية المرأة و”حركة تحرير المرأة الأمريكية” تقول:
“آمل أن تعلم أن حركتنا هذه ستنير السبل أمام كل نساء الدنيا، حتى تعرف كيف تتعامل معكم معشر الرجال”([25]).
عدا ذلك قد تظهر لنا المرأة الغربية إنسانة، حين تجسّد ذلك في تفكيرها وسلوكها، وربما حتى في علاقاتها الحميمة وفي ممارسة الجنس. ولعل الفرنسية (فرانسواز)، في رواية أحلام مستغانمي “عابر سرير” هي أبرز من مثلت هذه الصورة أو الشخصية، بحيث جذبت انتباه البطل العربي في الرواية:
“ذلك أن فرانسواز مهووسة بالمبادرات الخيرية، وكأنها تذرت نفسها لمساعدة بؤساء البشرية الذين يتناولون على قلبها وعلى سريرها حسب مستجدات المآسي في العالم… وكنت أراها، حسب نشرات الأخبار، تسارع لتلبية نداء الإغاثة لهذه الجهة أو تلك…
“كان في فرانسواز شيء من الطيبة الممزوجة بسذاجة الغربيين في التعامل مع الآخر، والذي يتحكم فيها منطق إعلامي يبسط الأشياء، ويقسّم العالم إلى خيّر وشرير، وحضاري ومتخلف، ولازم وغير ضروري”([26]).
ومن الشخصيات الغربية النسوية والرجالية التي تبرز الانتباه في الرواية العربية المعاصرة، شخصية اليونانية المقيمة في مصر بشكل دائم (كريستين) في رواية علاء الأسواني “عمارة يعقوبيان” التي أحدثت ضجة بما قدمته من واقع متخيَّل مع الاعتقاد بأنه قائم على واقع عاشه الروائي أو خبره أو اطلع عليه لمجتمع مصر، أو القاهرة تحديداً ممثّلاً بمجموعة شخصيات تعيش في عمارة. ما وراء الضجة هو قتامة هذا الواقع وسلبية أناسه ممثلين بشخصيات تراوحت ما بين السقوط والانحراف والشذوذ والفساد والتمرّد. أما ما يجذب إلى شخصية (كريستين) التي هي الشخصية الأجنبية الوحيدة في الرواية، فهو أنها الشخصية الوحيدة في الرواية التي تنأى عن أي من تلك الأوصاف السلبية، وبما يمكن أن يعني- أسمحت لنا مناهج النقد الحديثة بذلك أم لم تسمح- أن مثل هكذا شخصيات وأناس هم الوحيدون الأنقياء في مصر أو قاهرة اليوم. وهكذا وسط السقوط العام في عالم الرواية، وخصوصاً من ظل ما يتعرض له صديقها المصري زكي الدسوق وبثينة السيد من إهانة وفضيحة مدبَّرين من أخت الدسوقي بداعي الرغبة في السيطرة على ميراث التي أسقطت كل المثل والقيم الأخلاقية وما تفرضه القرابة والتقاليد والأعراف، لم يكن غريباً أن تضفي (كريستين) هذه حياة الحب والصدق والإخلاص حين تُعد لصديق العمر (زكي الدسوق) و(بثينة) حفلة زواج في المكان الذي تمتلكه هي الأجنبية ولا يحمل حتى اسماً عربياً، (مطعم مكسيم)، قبل أن تذهب إلى بيتها لتتهيأ هي نفسها لهذه المناسبة:
“… ولما عادت بعد ساعة، بثوبها الأزرق الأنيق وماكياجها المتقن الهادئ وشعرها المصفف (شينيون) إلى أعلى على طريقة الخمسينيات، كانت الفرقة الموسيقية قد وصلت وعكف أعضاؤها على ضبط آلاتهم… [وحين يصل زكي] اندفعت كريستين ناحيته وعانقته وقبّلته بطريقتها الحميمة:
“- تبدو كنجوم السينما.
“هكذا هتفت بحماس ثم تنهّدت ونظرت له ملياً قائلة:
“- كم أنا سعيدة من أجلك يا زكي..!! لقد فعلت ما كان عليك أن تفعله من زمان”([27]).

المبحث الثالث
مستويات العلاقة بالآخر
في ضوء صور المرأة الغربية في الرواية العربية
لأن جل الصور السابقة للمرأة الغربية، قد جاءت في أعمال إبداعية (روايات) هي بالتأكيد، وبدرجة أو بأخرى، فكرية وربما سياسية وفلسفية، ومكتوبة بأقلام نخبة اجتماعية، هي نخبة الروائيين، لا يكون مقنعاً أن نكتفي بمعانيها ودلالاتها الظاهرة، بل لا بد من أن تعني أكثر من ذلك. ولأن هذه الصور تنطلق من النظرة إلى علاقة الشرق والغرب، أو (نحن والآخر) وتصبّ معاني ودلالات فيها، كان لا بد أن تقدم معانيها ودلالاتها فهماً لهذه العلاقة، وعليه فهي تعني، في تعددها واختلافها، مستويات من الفهم والرؤيا للعلاقة بالآخر. بعبارة أخرى أن العديد من الشخصيات النسوية التي قدمتها الروايات المدروسة، قد جاءت لتكون أكثر من ظاهرها، من خلال الصور التي قُدمت بها. وعموماً قد تُقدم أي من تلك الصور، أو معظمها في معرض مقارنة صريحة أو واضحة أو ضمنية بينها وبين المرأة العربية أو الشرقية، وفي الغاية المقصود الأبعد، أو الإيحاء غير المقصود الأبعد، مقارنة صريحة أو ضمنية بين الشرق والغرب، أو بين الحياة في المجتمع العربي والمجتمع الغربي، أو بين القيم العربية والغربية. وفي ظل مثل هذه المقارنة، وبحثاً عما تعنيه هذه المقارنة الضمنية أو الصريحة، أو ما يمكن أن توصلنا إليه مما يجب أن يكون أهم من هذه المقارنة، نعود إلى القضية الأولى التي انطلقت ورقتنا منها، تلك هي لقاء الشرق والغرب أو (نحن والآخر) التي تؤرق الملايين هذه الأيام، وهي القضية التي نصوغها هنا بصيغة السؤال الآتي: هل للقاء بين الشرق والغرب، أو بيننا وبين الآخر، حين يكون هذا الآخر الغرب، أن ينجح؟ الواقع أن روايات مختبرنا البحثي حاولت، ومرة أخرى صراحة ً أو ضمناً، أن تجيب على هذا التساؤل من خلال الشخصيات النسوية الغربية التي قدمتها. ولأن فهم الإجابة أو استنباطها في كل رواية يتوقف على الصورة التي ظهرت بها، فقد كان من الطبيعي أن تتعدد الإجابات وتختلف بتعدد تلك الصور واختلافها بعضها عن البعض الآخر، ولتكون النتيجة مستويات من النظر إلى هذه العلاقة وفهمها وإمكانية تحقّقها أو نجاحها.
ويكتسب السؤال عن العلاقة بالآخر الغربي، وكما تثيره صور المرأة الغربية التي تقدمها لنا النماذج الروائية أهمية في ورقتنا كون المرأة أبرز الرموز التي يعبر بها في الأدب عن الوطن أو الأوطان وعن العلاقات، كما هي، في الحقيقة، تكاد تعني على أرض الوقع. ورجوعاً إلى مجموع تلك الصور نجد أن مستويات العلاقة ودلالاتها هذه بين الشرق والغرب، أو بيننا وبين الآخر، لا تكاد تتعدى ثلاثة هي:
المستوى الأول، ويعني رفض اللقاء بالآخر.
المستوى الثاني، ويعني الريبة بالآخر والتحفظ على العلاقة.
المستوى الثالث: ويعني أحد أمرين: النظرة الإنسانية إلى الآخر وإمكانية إقامة العلاقة به، ونظرة الإعجاب بالآخر والدعوة أو ربما التحمس لإقامة العلاقة به.
المستوى الأول: وهو كما قلنا يعني، صراحةً أو ضمناً أو استنباطاً، رفض اللقاء والعلاقة بالآخر انطلاقاً من تعبير بضع الصورة التي تقدمها الروايات لنا للمرأة الغربية، عن عدم إمكانية إقامة مثل هذه العلاقة مع الآخر الغربي. وعادةً ما يعبر عن هذا المستوى من المعنى والدلالة بأحد أمرين أو بكلاهما معاً. الأمر الأول حين تقدَّم المرأة الغربية لنا منفلتة أو خليعة أو على الأقل متحررة تحرراً لا ينسجم مع قيم الشرقيين أو الإسلام أو العرب وعاداتهم، إن لم ينسف هذه القيم، وكما رأينا ذلك في صورة (ماري) زوجة عم بطل “العزف في مكان صاخب” حين ينقلها لنا، وفي سلوك الزوجة البريطانية ومواقفها في رواية “كم بدت السماء بعيدة” لبتول الخضيري. الأمر الثاني الذي يعبَّر به عن هذا المستوى من العلاقة بالآخر، قد يؤدي إليه الأمر الأول. وهو إخفاق علاقة الحب أو الزواج بين البطل أو الشخصية العربية في الرواية وهذه المرأة، كما هو واضح في نهاية علاقة الزواج بالشكل الذي انتهت به بين الزوج العراقي والزوجة البريطانية في رواية بتول الخضيري السابقة، وكما فشلت علاقة زواج (خالد) بطل رواية ميسلون هادي “الحدود البرية” من الأمريكية من (أنستازيا)، “حين صادرته زوجته بتلبسها لبوس الممتلك له فتعرضه كشيء غريب من الشرق البعيد “للرائح والغادي من أصدقائها حتى ملّت وكفّت عن الزهو بملكيتها لأثر من آثار الصحراء البعيدة”([28]). ولذا ما كان لهذا الزواج إلا أن يثمر مسخاً أو موتاً، ابنته بنتاً بلا أرجل ولا أيد. وهكذا يرفض كل هذا الدمج غير الطبيعي، فيطلّق زوجته ويعود إلى الوطن([29]).
ومسألة فشل الزواج حين يتحقق قد تبدو متوقعة دوماً وعادية، كما تعبر راوية سحر خليفة في “الميراث” مثلاً، حين تحكي مثل هكذا واقعة:
“ابتدأت القصة في نيويورك حين جاء الوالد من القرية وتزوج امرأة أميركية، طبعاً أمي، وحصل على البطاقة الخضراء، ثم الطلاق كالعادة”([30]).
إذن التعبير الأهم والأبرز عن هذا المستوى هو عبر عدم إمكانية إقامة علاقة في الرواية بين الرجل العربي والمرأة الغربية، أو فشل هذه العلاقة، أعلاقة حب كانت أم علاقة زواج. فهو يعبر عندنا تعبيراً كثيراً ما قد يصل إلى قوة التعبير الصريح عن رفض علاقة العرب أو الشرقيين أو المسلمين بالآخر، الغرب والغربيين، على الأقل في ظل ما هو عليه مما يعبّر عنه الغربيون كما تمثّلهم في مساق دراستنا المرأة الغربية، ولكن دون يعني هذا بالطبع اقتصار مثل هذا التعبير عن هذا الرأي أو الموقف على المرأة. وهكذا وجدنا إخفاق محاولات ذلك معبراً عنها غالباً بزواج عربي بغربية. ولعل هذا يفسر ردة فعل أم (هند) وأبيها في رواية ليلى الأطرش “وتشرق غرباً”، حين يعرفان بزواج ابنهما (حسام) الذي في أمريكا من الأمريكية (كاتي):
“ارتسم على وجه مريم النجار [الأم] ذلك الجزع الحائر في وجه أم أفلت طفلها يدها في الزحام فضاع… طلبت منهم أن لا يخبروا أحداً أيّاً كان بما يعرفون… كيف عرف شكري النجار[الأب]؟.. متى أخبرته زوجته وكيف؟ لا أحد يعرف.. ولكنه لم يثر صارخاً معربداً.. تجهمت تعابير وجهه المتعب، ولم يذهب للعمل بعد الظهر”([31]).
المستوى الثاني: يكاد هذا الستوى يكون درجة أخرى من المستوى السابق، ولكن لأهمية الفرق بينهما الذي سيتّضح بعد قليل، رأينا أن نفصله في مستوى مستقل. فبينما تعبر صورة المرأة الغربية، أو الروايات، أو الروائيين في المستوى السابق عن رفض قاطع للآخر، على الأقل وكما قلنا في ظل الغرب كما هو في واقع الروايات التي ترد فيها، والحكم دائماً بالموت على أية علاقة به حباً أو زواجاً، تعبر صور هذا المستوى عن تحفظ أو تردد في إقامة العلاقة، مع تقبّل ضمني لإمكانية ذلك لو تهيأ غير ما ما يتهيأ فعلياً في حاضر أحداث الروايات التي ترد فيها، كما في بعض علاقات بطل رواية “الرقص على الماء”:
“فاجأتني سارة بالمجيء وأنا أتهيأ للخروج. كانت سكرانة ومزاج رائق. أبلغتها أنني ذاهب لإنجاز عمل ما. رفضت مرافقتي. قلت:
“- اخدمي نفسك إذن. تعرفين البيت”([32])
أما هذا التحفظ من إقامة العلاقة فيأتي انطلاقاً من الريبة في الآخر، وهي الريبة التي رأيناها تنشأ نتيجة سلوكيات الآخر التي قد تكون شريرة أو رديئة أو معادية كما هي في المستوى الأول، أو– وهذا مهم جداً هنا- من عدم فهم العربي للغربي والغربية أو الشك فيهما وبمواقفهما، أو عدم فهم الآخر الغربي له، الأمر الذي يعني أن التقارب والعمل على فهم كلّ للآخر، ممكن إذا ما تهيأت له ظروف غير الظروف التي يفشل فيها.
المستوى الثالث: في المستوى الأخير هذا من مستويات العلاقة والموقف من الآخر، تبرز مفارقة طريفة، ولكنها قد تعني الكثير في موضوعنا، خصوصاً إذا ما أردنا أن نربط المتخيّل والتعبير الروائي ببعض ما نراها مرجعياتها على أرض الواقع. هذه المفارقة تتمثل في أنه أكثر المستويات حضوراً من حيث الأمثلة التي تعبر عنه، ولكنه أقلها من حيث التعبير عنها عبر شخصيات وأحداث روائية رئيسة. وهذا يعني عندنا أن الروايات كلها أو الروائيين كلهم الذي كتبوا عن الآخر وتبنوا أو عبروا غالباً، كما رأينا، عن مواقف متشددة أو رافضة أو غير إيجابية من الآخر لتكون شخصياتهم وما تعبر عنه من حيث الموقف من الآخر ومن العلاقة بالآخر ضمن المستويين السابقين، إنما يفعلون ذلك، على ما يبدو، انطلاقاً من واقع يحيط بهم ويرون فيه ما يفعله الغرب وما يتخذه من مواقف سلبية أو غير ودية من الآخر الشرقي والمسلم والعربي، فلا يكون أمامه إزاء ذلك إلا أن يعبر بالشكل أو الأشكال التي يعبر أو تعبر الروايات عنها كما رأيناها في المستويين السابقين وفي المبحث السابق. ولكنه انطلاقاً من قيم أخرى ومن نفس إنساني عادةً ما يميز أي أديب أو فنان، لا يكون متحمساً أو راغباً عادةً بالمواقف السوداوية أو السلبية، أو علاقات الكراهية والعداء، ولذا فإنه يحاول أن يوصل مثل هذه المعاني عبر شخصيات ثانوية أو حوادث جانبية، لعل خلاصتها القول: مع كل ما عليه الغرب والغربيون فإن اللقاء ممكن فيما لو…! وكل رواية لها تكملة لما بعد هذه الـ(لو). ولعل هذه هي نظرة العربي العقلانية للآخر الغربي ولكن في ظل تبدّل الآخر، والمتمثلة في إمكانية إقامة علاقة مع الغربية في ظل النظرة الإنسانية للشخصية العربية الروائية إلى الآخر الغربي والموقف الإيجابي منه من جهة، وتغيير نظرة الآخر إلينا وتبديل أساليب علاقته معنا. ووفقاً لا يعود غريباً أن يلتقي الشرق والغرب عبر الشخصية النسوية الغربية حين تكون هذه الشخصية بموصفات معينة، هي موجودة بلا شك، “من ذلك مثلا الإشارة الصغيرة، لكن الجميلة والمعبرة، التي ترد في رواية أخرى لسحر خليفة، هي “مذكرات امرأة غير واقعية”، حين تلتقي بطلتها على طائرة بامرأة ايرلندية فتنقل لنا على لسان البطلة هذا اللقاء بنفس إنساني جميل”([33]):
“فقد اكتشفت أني أجلس إلى جانب فنانة آيرلندية تعزف البيانو في قصور الثقافة. ابتسمتُ لها فابتسمتْ لي، خاطبتها واستعنت بما تبقى في الذاكرة من اللغة الغربية. وبلهفة المحروم من دنيا الناس وارتداداً لعالم كنت ما زلت أحمل له كل أشواق التفاح أقبلت عليها. من أنت وماذا تفعلين وكيف تزوجت وكيف طُلّقت وكيف بدأت من جديد؟ عازفة بيانو؟ حرفة أم ولوج الجنة؟ والأجنحة؟ بلى بلى، هتفت باندفاع طفلة وأنا أستمع إليها. أعرف هذا الإحساس، جربته. وبلهاث حكيت وعبّرت وعبرت إليها. وكانت تكبرني بسنوات كثيرة وتجارب تمتد من محيط إلى محيط، وهتفت بشباب أصغر منها بعشرين سنة: بلى بلى. والتقينا.
“ورأتني ساهمة أفكر فربتت على كتفي وابتسمت:
“لشعبينا قصتان متشابهتان. وأنا وأنت متشابهتان.
“صدمتني المقارنة فتلعثمت. تمتمت ويدي على صدري:
“- أنا… أنا.. لا أعرف.
“وعدت أحلم من جديد بالأجنحة والطيران وانفتاح الشرنقة”([34]).
ولعل شخصية السويسرية المسؤولة عن القضايا الإنسانية في مطار جنيف في رواية “التوأم المفقود” لسليم مطر، تلتقي مع هذه الأيرلندية، حين يجد بطلها (غريب) في ضياعه واغترابه، تعاطفاً إنسانياً منها، وهي تقول له: “إن كنت عشتَ الحرب ودمارها وخيباتها، فأنا عشت آثار الحرب والخيبة في أب وأمي”([35])، ليتطور هذا اللقاء، وفي نادرة في الرواية العربية، إلى زواج يُرزق منه وليداً وكأنه يعبر عن نجاح اللقاء بين الشرق والغرب..

خاتمة ونتائج
إذن بعد أنواع من تمثّل الرواية العربية لصورة الغرب، وللعلاقة معه، ولحالة (نحن والآخر) عبر عقود طويلة، شهدت المرحلة الممتدة مما بعد نكسة حزيران في العام 1967 تمثّلاً حمل الكثير من الجدة، وكان من مسببات ذلك بالطبع ما شهدته العلاقات العربية مع الغرب، ولا سيما مع أمريكا، من تبدلات جوهرية تمثّلت تحديداً في تمحور الغرب، ومرة أخرى أمريكا بشكل خاص، حول مساندة إسرائيل ضد العرب. هذا التبدل أو لنقل التطورات في مواقف الغرب وعلاقاتهم بالعرب كان من الطبيعي أن يترك أثره على العرب ومواقفهم من الغرب، وبالتالي على الأدب الذي يتعامل مضموناً مع هذه المحور- العلاقة مع الغرب أو نحن والآخر- ليتمثّله، ولكن انطلاقاً من فهم الأدباء، وهم في دراستنا الروائيون، لذلك. وكان من الطبيعي أن تتعدد رؤى هؤلاء الروائيون إلى هذا الموضوع لينعكس في أعمالهم التي تتناول العلاقة مع الغرب. من ضمن ما عبر عن ذلك الصورة التي قدمتها الروايات للمرأة الغربية.
لقد وجدت دراستنا هذه المرأة تأتي على ثلاث صور هي: المرأة المنفلتة، والمرأة المتعالية أو المريبة أو المتسلطة، والمرأة الإنسانة والمعتدة بنفسها. وانطلاقاً من أن شخصية المرأة الغربية في الروايات العراقية كان لا بد أن تعنى بشكل أو بآخر، وبقصدية أو بغيرها، تعني صورها هذه في اختلافها مستويات من فهم العلاقة بالغرب أو للكيفية التي تريد الرواية أن تقول أنها يجب أن تكون. فكانت هذه المستويات، وفقاً لتلك الصور، ثلاثة هي: مستوى رفض اللقاء بالآخر الغربي، على الأقل وهو بالصورة التي تراه الروايات عليها، ومستوى التحفظ على هذه العلاقة مع إمكانية أن تتحقق يوماً، ومستوى القبول بالآخر وبالعلاقة به، وأحياناً الحماسة لذلك.
وأياً كان ما توصلت إليه ورقتنا، نجد أن أهم ما عبرت عنه هو أولاً اختلاف صور المرأة وتبعاً لذلك اختلاف النظر إلى العلاقة بالآخر، وثانياً غلبة النظرة السلبية للغرب متمثلاً في الروايات التي تعاملت مع المرأة الغربية في هذه المرأة.

المصادر والمراجع
الروايات:
-أحلام مستغانمي: ذاكرة الجسد، دار الآداب، بيروت، ط17، 2001.
: عابر سرير، منشورات أحلام مستغانمي، بيروت، ط2، 2003.

  • بتول الخضيري: كم بدت السماء قريبة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط3، 2003.
  • سحر خليفة: مذكرات امرأة غير واقعية، دار الآداب، بيروت، ط2، 1992.
  • : الميراث، دار الآداب، بيروت، 1997.
    -سليم مطر: التوأم المفقود، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
    -علاء الأسواني: عمارة يعقوبيان، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط9، 2005.
    -علي خيون: العزف في مكان صاخب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987.
    -كاظم الأحمدي: أمس كان غداً، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1992.
    -ليلى الأطرش: وتشرق غرباً، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1987.
    -محمد أزوقة: الثلج الأسود، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،1988.
    -محمود البياتي: الرقص على الماء، مسحوبة من الإنترنيت، 2004.
    -ميسلون هادي: الحدود البرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004.
    المراجع:
    -جورج طرابيشي: شرق وغرب رجولة وأنوثة.. دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1979.
    -رجاء عيد: لقاء الحضارات في الرواية العربية، مجلة (فصول)، القاهرة، م16، ع4، ربيع. 1998، عدد خاص عن “خصوصية الرواية العربية”، ج2، ص56- 77.
    -عيسى العبادي: الرواية الأردنية 1967- 1990، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الآداب بالجامعة الأردنية، عمان، 1994.
    -مجموعة مؤلفين: أفق التحولات في الرواية العربية.. دراسات وشهادات، دار الفنون/ مؤسسة عبد الحميد شومان، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، 1999.
    -د. نجم عبدالله كاظم: الرواية العربية المعاصرة والآخر، عالم الكتب الحديث، إربد (الأردن)، 2007.
  • : نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة”، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، ع71، 2005، ص71- 109.
  • : أشباح مريبة في رواية “وتشرق غرباً” لليلى الأطرش، مجلة عمّان، ع، 2007.

[1] ) ينظر: محمد غنيمي هلال: الأدب المقارن، بيروت، دار الثقافة ودار العودة، ص136 وما بعدها. و د. نجم عبدالله كاظم: الرواية العربية المعاصرة والآخر، عالم الكتب الحديث، إربد، ص10.
[2] ) ينظر المصدر السابق، ص11.
[3] ) عرضنا هذه المراحل تفصيل في دراستنا: “نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة”، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، ع71، 2005، ص83- 85.
[4] ) عيسى العبادي: الرواية الأردنية 1967- 1990، رسالة دكتوراه، كلية الآداب بالجامعة الأردنية، عمان، 1994، ص34.
[5] ) مجموعة مؤلفين: أفق التحولات في الرواية العربية.. دراسات وشهادات، دار الفنون/ مؤسسة عبد الحميد شومان، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، 1999، ص11.

[6] ) جورج طرابيشي، ص71.
[7] ) رجاء عيد: لقاء الحضارات في الرواية العربية، مجلة (فصول)، القاهرة، م16، ع4، ربيع. 1998، عدد خاص عن “خصوصية الرواية العربية”، ج2، ص30.

[8] ) علي خيون: العزف في مكان صاخب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988، ص85- 86.
[9] ) الرواية، ص87.
[10] ) محمود البياتي: الرقص على الماء، مسحوبة من الإنترنيت ص60.
[11] ) بتول الخضيري: كم بدت السماء قريبة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط3، 2003، ص77.
[12] ) كاظم الأحمدي: أمس كان غداً، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1992، ص11.
[13] ) ينظر ذاكرة الجسد: أحلام مستغانمي، دار الآداب، بيروت، ط17، 2001.
[14] ) الرواية، ص162.
[15] ) ليلى الأطرش: وتشرق غرباً، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1988، ص133.
[16] ) الرواية، ص134.
[17] ) ينظر الرواية، ص133- 138. وانظر أيضاً دراستنا: أشباح مريبة في رواية “وتشرق غرباً” لليلى الأطرش، مجلة عمّان، ع آب، 2007، ص.
[18] ) الرواية، ص137.
[19] ) الرواية، ص138.
[20] ) محمد أزوقة: الثلج الأسود، ص5- 6.
[21] ) كتابنا: الرواية العربية والآخر، ص81.
[22] ) الرواية، ص10.
[23] ) كتابنا، مرجع سابق، ص82.
[24] ) الرواية، ص18.
[25] ) الرواية، ص42.
[26] ) أحلام مستغانمي: عابر سرير، منشورات أحلام مستغانمي، بيروت، ط2، 2003، ص241.
[27] ) علاء الأسواني: عمارة يعقوبيان، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط9، 2005. ص145- 146.
[28] ) ميسلون هادي: الحدود البرية، ص125.
[29] ) ينطر دراستنا: نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة، مصدر سابق، ص101.
[30] ) سحر خليفة: الميراث، دار الآداب، بيروت، 1997، ص9.
[31] ) الرواية، ص126- 127.
[32] ) الرواية، ص27.
[33] ) درساتنا: نحن والآخر، مصدر سابق، ص90-91
[34] ) سحر خليفة: مذكرات امرأة غير واقعية، دار الآداب، بيروت، ط2، 1992.
[35] ) سليم مطر: التوأم المفقود.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *