صورة أمريكا والأمريكان موضوعاً للدراسة

صور أمريكا والأمريكي
موضوعاً للدراسة في الرواية العربية

د. نجم عبدالله كاظم
كلية الآداب / جامعة بغداد
(1)
أتى دخولي إلى الوطن الحبيب، العراق لأول مرة بعد سقوط بغداد بثلاثة أشهر، وفي أعقاب سبع سنوات من الغربة والبعد عنه وعن الأهل والأحبة. وللقارئ أن يتوقع حجم ونوع الأحاسيس والعواطف والانفعالات التي كانت تتفاعل وتصطخب في داخلي وكما يمكن أن تكون في داخل أي إنسان في طريقه إلى وطنه بعد غياب طويل، مضافاً إلى ذلك أن هذا الوطن يكون حينذاك في ظل الاحتلال. والواقع لم أكن قادراً حينها على تصور اللقيا. وتفجرت الانفعالات وارتبكت عند أول خطوات أخطوها على تراب الوطن عابراً الحدود البرية وأنا المح أول مظهر كنت أمّني نفسي عبثاً بأن لا أراه، عسكرياً أمريكياً يقف إلى جانب بضعة موظفين عراقيين. كان الوحيد الذي يحمل سلاحاً طالما رأيته في الأفلام السينمائية والوثائقية والإخبارية على شاشات التلفزيون محمولاً من العسكريين الأمريكيين ويفعلون به كل ما هو مسموح وممنوع. ولم أعرف كيف أتصّرف وقد تفجّر الغضب في داخلي وأنا أجدني مضطراً إلى الاقتراب من ذلك العسكري ، إذ كان على ما يبدو يحرس شباك ختم الجوازات، ولكن عند اقترابي منه بادر فوراً إلى سؤالي بودّ غريب : هل أنت من العائدين إلى الوطن ؟ فأجبت باقتضاب : نعم . فعاد ليقول بنفس الود : أهلاً بك في وطنك . وأحسسته يركّز على “وطنك”، وعندها فقط تأملته فانتبهت إلى حداثة سنه.. كان في الواقع صبياً أكثر منه رجلاً مقاتلاً، فتوقعت أن يكون مجنداً وليس عسكرياً محترفاً. في الواقع كان وهو يكلمني يبدو أو يحاول أن يكون ودوداً خجولاً ومتردداً. هنا نبعت في داخلي إلى جانب الغضب والحقد الطبيعيين عليه محتلاً رؤية إنسانية يتمثّل لي من خلالها إلى جانب المقاتل المعتدي الوحشي المحتل والمهين لوطني الذي يتمثل في كل ما ومَن هو أمريكي ، الإنسان العادي الذي يمكن أن يكون ، ومن الطبيعي أن يكون ، في أمريكا وبين الأمريكيين . من هذه التجربة الإنسانية القصيرة أحسست بطرافة موضوع (أمريكا والأمريكيّ) وثرائه مدروساً في مختلف الميادين، ومنها الأدب خاصة أن هذا الموضوع في تجربتنا يتعلق بالطبع بالتعبير عن النفس الإنسانية وما يختلج فيها ويصطرع من أحاسيس وعواطف ونوازع كالذي اصطرع في داخلي. ولعل الرواية تحديداً هي أكثر الأجناس أو الفنون الأدبية ملاءمةً لمثل هذا الموضوع أو التجربة كما سنبين ذلك فيما بعد.
(2)
إن اللقاء بين الشرق والغرب قضيةً وقبل ذلك واقعةً ، أوسع من أن تكون فنية أو أدبية فقط ، فاللقاء تحقق عبر العصور مرات عديدة ، بل لعلنا يمكن أن نقول إنه يقترب من أن يكون أمراً طبيعياً ودائماً . لكن هذا القول يصح إذا ما أخذنا اللقاء بحدود تعلق الأمر بتحققه مجرداً أي بمعزل عن طبيعته ، وفرديته أو جماعيته ، وتأثيره أو عدم تأثيره ، وكونه ظاهرة أو فعلاً عابراً . أما اللقاء الحضاري فإنه شيء آخر ، ولا يمكن أن يكون واقعة مجردةً أو فعلاً مجرداً ، وهو الذي يعني المؤرخ والباحث السياسي والاجتماعي والنفسي ، وكتحصيل حاصل الدارس الأدبي والناقد المعني ، ولكن تحديداً حين يكون – نعني اللقاء الحضاري – موضوع العمل الأدبي الإبداعي، أو مؤثراً بهذا الشكل أو ذاك فيه . وإذا ما كنا نقصد بالشرق العرب وإلى حد ما العالم الإسلامي ، ونقصد بالغرب أوروبا وإلى حد ما أمريكا ، فإن مثل هذا اللقاء بين الشرق والغرب قد تحقق مرتين رئيستين في التاريخ . الأولى حين وصلت جحافل الإمبراطورية العربية الإسلامية بإنسانها وفكرها وحضارتها إلى أوروبا ابتداءً من القرن الثامن الميلادي وما استتبع ذلك من تأثير ضخم وشامل للحضارة العربية الإسلامية في أوربا. أما المرة الثانية فكانت حين وصل الغربي غازياً ومبشراً دينياً ومستعمراً وعالماً ومعلماً إلى عالمنا ، خاصة عبر بوابتي مصر وبلاد الشام ، ابتداءً بحملة نابليون في نهاية القرن التاسع عشر وربما امتداداً حتى الوقت الحاضر. وبدون الدخول في تفاصيل الأسباب والمبررات نقول إن الذي يهمنا أو يعنينا في دراستنا هو اللقاء الثاني بالطبع.
لقد كان من الطبيعي أن يشكل هذا اللقاء، ضمن ما يشكله، قضية فنية أدبية لأسباب عديدة، منها أولاً أنه موضوع أو قصة إنسانية تتعلق بصلات البشر ببعضهم وبمواقف الواحد أو الفئة منهم من الآخر أو الأخرى. ومنها ثانياً أن ما يمس الحضارة وضمن ذلك المجتمع، أي مجتمع، لا بد أن يمس بالضرورة الأدب. ومن أسباب ذلك ثالثاً ما كان لا بد لهذا أن يمارسه من تأثير في العرب وفعلهم. فمن جهة كان للقاء تأثيراته الكثيرة والغنية، بإيجابياتها بشكل خاص، في الأدب العربي، ليكون ذلك الأدب في النتيجة موضوع المؤرخ الأدبي والدارس المقارن مما لسنا معنيين به كله هنا. ومن جهة ثانية لم يكن للأدب الإبداعي إلاّ أن يتناول هذا اللقاء ويتأثر به، وهو ما كان حقيقة وبشكل مبكر نسبياً، فتَمثَّلَ الأدباء هذا اللقاء بأشكال مختلفة، خاصة في الرواية.
(3)
إذا كان الأدباء في العصر الحديث قد تمثلوا اللقاء بين الشرق ممثَّلاً غالباً بالعرب ، والغرب ممثلاً بشكل خاص بأوروبا ، فإن الروائيين كانوا أكثر هؤلاء الأدباء فعلاً لذلك بالرغم من حداثة الفن الروائي في الأدب العربي مقارنة بالشعر مثلاً . ويبدو أن مرد ذلك هو طبيعة الجنس الروائي نفسه المتعامل مع الحياة والواقع والناس والتجربة أكثر من أي جنس آخر. فمع “أن الكُتّاب كانوا دوماً مهتمين بالعالم الذي من حولهم”، وتبعاَ لذلك تأتي أعمالهم الأدبية عموماً مجسده لذلك ، فإنه يبقى واضحاً أن الفن الروائي بالتحديد ، أكثر من كل الأجناس الأدبية الأخرى ، يعني “تقديم الطبيعة ، ونقل وجدان الواقع”(1) ، على حد تعبير ثاكري . وإذا كان هذا المفهوم يعود إلى القرن التاسع عشر فإنه برأينا لما يزل معبّراً عن الفن الروائي وإن لم يكن انطلاقاً من نفس الزاوية. فالرواية إذ تُعنى بالواقع والناس والحياة التي يراها الروائي أو يخبرها أو يجد نفسه فيها، فإنها لن تكون بالضرورة وفي كل الأحوال صورة لذلك. وإذا ما بدونا هنا في ما يشبه الإشكالية المنهجية والنقدية ، ونحن نبحث عن (أمريكا وصورة الأمريكي) تحديداً في الرواية العربية ، فإننا نقول إن طبيعة العلاقة بين الرواية والواقع لا يمنع من أن نرى هذه الصورة ضمن ما نراه فيها من ناس وواقع ، مع ما لهذا الذي نراه من خصوصية قد لا تكون تفصيلياً ومن ناحية المطابقة والوقائع هي عينها على أرض الواقع، بل تنطلق منه بشكل أو بآخر . والحقيقة ليس لأي بحث أو دراسة أن تتناول أو تطرح أو تفترض مثل هكذا موضوعة، بل ما كان لفرع أدبي مهم هو (الأدب المقارن) – إذ تشكل صورة أمة أو شخصية قومية أو بلد في أدب أمة أو بلد آخر أحد مجالات الدراسة فيه – أن يفعل ذلك لو لم تكن هناك علاقة بين ما في الرواية أو الأدب عموماً وما هو على أرض الواقع .
هنا قد يستوقفنا فن آخر ليزاحم الرواية في قدرته على فعل هذا الذي تفعله، ذلك هو فن القصة القصيرة، ولكنها إذ تفعل ذلك بلا شك، فإنها لا يمكن أن تفعله بالقدر والعمق والشمولية والتفصيلية التي تفعله فيه الرواية. فنحن نعرف أن من الفروق الأساسية بين القصة القصيرة والرواية، أن الأولى تمثل وضعاً نفسياً واحداً تقريباً للشخصية، بينما تجسد الرواية امتداداً لهذا الوضع النفسي للشخصية أو الشخصيات متبدل المراحل والحالات. كما أن شخصيات القصة القصيرة وهي محدودة على أية حال – وضمنها بطلها الذي كثيراً ما يكون شخصيتها الوحيدة – لا تشهد أو لا تقدم التبدّل الجوهري الإنساني الذي يحدث للفرد في الحياة ، وهو ما تقدمه حقيقة شخصيات الرواية ومعها “يكون القارئ قادراً على أن يستمع في ذهنه إلى الصوت الحي للشخص المتكلم”(2). كما أن الرواية قد تسعى “إلى تقديم صورة الحياة الكاملة … لا أقل” ، أما القصة القصيرة فقصاراها أن تختار زاوية للنظر محددة بدقة نرى منها جانباً واحداً من جوانب تلك الحياة”(3) ، مع أن الفن الروائي “ليس محتوى تتكدس فيه الأحداث ، إنما هو يرتبط ويتعلق بنا وبحركات وجودنا”(4) . ومن الطبيعي أننا، إذ لا نقلل من شأن ما تقدمه لنا القصة القصيرة الذي هو بعض ما تقدمه الرواية من صورة الحياة الكاملة، معنيون أصلاً وبشكل أساس بصورة الحياة الكاملة هذه. ومن هنا رأينا الرواية الأنسب ميداناً لبحث في هذا الموضوع كما قلنا ، دون أن نلغي بالطبع مشروعية ومنطقية أن يكون أي شكل أدبي آخر ميدان دراسات أخرى ضمن نفس الاهتمام والأهداف ، بل من الطبيعي أن يكون هناك تطرّق لبعض تجارب تلك الأشكال الأخرى هذه هنا وهناك من بحث الرواية.
هكذا كان ممكناً نقدياً ، وربما نموذجياً ، النظر إلى صور اللقاء بين الشرق والغرب ، أو إحدى هذه الصور ، من خلال الروايات العربية التي ظهرت في مختلف الفترات التي شهدت هذا اللقاء ، وتحديد ما يكون وراءها من مواقف تعبّر ، بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى ، عما هو أبعد من حدود هذه الصورة أو الصور داخل العمل الروائي . فكل الذي يمكن أن نرصده أو نفهمه أو نخرج به أو حتى الذي توحي به إلينا الروايات التي تدرس، لا يمكن أن يكون إلا من وعي ما. هل هو وعي الرواية، في ظل مفهوم تغييب المؤلف أو ما يسمى بموت المؤلف ؟ أم هو وعي الروائي في ظل حضور المؤلف ، الذي نؤمن به على أن لا يُفرض برأيه أو وجهة نظره على قراءتنا لعمله ؟ أم هو وعي الإنسان أو الناس الآخرين الذين من حول المؤلف ؟ لا نرى في البحث عن جواب من أهمية بحدود تعلق الأمر بتقديم موضوعة (أمريكا وصورة الأمريكي) التي هي بدورها جزء من موضوعة أكبر هي (لقاء الشرق والغرب) في الرواية العربية . وإن ميدان هذه الموضوعة – نعني الرواية العربية – من السعة بحيث لا بد من أن تكون هناك نماذج مختارة لإدخالها في مختبر البحث.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *