صلاح زنكنه، كائنات الأحلام

كائنات أحلام أم واقع؟
مجموعة “كائنات الأحلام” القصصية
لصلاح زنكنه
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
تتكون عتبة أو عتبات أي عمل إبداعي، بشكل أساس، من العنوان والمدخل أو المفتتح كونهما أجزاء من العمل الذي يبدعه المؤلف نفسه، بينما عادة ما تعود مكونات آخرى، من غلاف وخط وتصميم واقتباسات تتقدم النص، إلى غير المؤلف من مصمم وفنان ومؤلف سابق وناشر… إلخ. وهذا يجعل من قضية عدّ هذه الأخيرة من العتبة محط خلاف، ربما تميل كفة من يكون مع هذا الرأي أو ذالك فيها، إلى كل عمل على حدة، وعليه قد نميل إلى عدها من العتبة حين نتأكد أو يتضح لنا أو نميل إلى أن للمؤلف دخلاً فيها، وهو ما ينطبق بشكل قاطع على بعض ذلك في العمل الذي نتناوله هنا، وهو مجموعة كائنات الأحلام”() لصلاح زنكنه من أقوال لإنشتاين وكولردج ونورثروب فراي وماركيز ومحمد خضير تتقدم القصص. فالذي تؤشره أو تثيره فينا هذه الأقوال، ونحن نوشك على الدخول في نصوص القصص وعوالمها، إنما هو ما تدلنا عليه، إذ هي تعبر، بشكل أو بآخر، عن تداخل الخيال والواقع والمعرفة. وحين تأتي عتبة مجموعة قصصية بهكذا معان ودلالات فلنا أن تفترض أنها ستكون عتبة موضوعية وفنية حقيقية لقصص المجموعة. وهذا فعلاً ما تبدأ القصص تفصح عنه من البداية، لتستمر على امتداد المجموعة، كما تتمثل في قصص مثل “سلام النيترون”، و”القيد”، و”الكابوس”، و”من لي بعدها”، “العطب”، و”الماضي”، “موت غاضب”، و”الخنزير”. وإن خرج القليل من القصص عن هذا، فإنه خروج لا يسجل انعطافاً فيها أو إخراجاً لها عن التحديد أو الهوية التي تفصح العتبة عن جزء كبير منها. والواقع وتلاؤماً مع هذا، يكتشف من يقرأ لصلاح زنكنه أنه قاص حالم يعيش، أو كان في واقع، أعتقد أننا نعرفه.. وهو أدق وصف يمكن أن يوصف به في قصص مجموعته الحالية، وبشكل أكثر تحديداً من خلال أبطال هذه القصص، الذين عادةً ما يكونون غارقين في الأحلام وأحلام اليقظة، وربما يكونون في عوالم فنطازية. وهم، وكأني بهم المؤلف نفسه، عادة ما يعيشون هذه الأحلام وأحلام اليقظة وعوالم الفنطازيا، ولكن دون مغادرة الواقع، وكل ذلك عبر ما نراه ثلاثة تعبيرات. الأول هو التعبير عن تطلعات الشخصيات، بما في ذلك الفنطازية أو غير الواقعية، كما في قصة “لكنها بعيدة”، التي يكون فيها البطل على وشك مغادرة الوطن ليسافر إلى الغرب، ليكون أول شيء يحلم في أن يحققه هناك هو إقامة علاقات مع النساء. أما بطل وراوي قصة “صوب سماء الأحلام” فيقول:
“أنا رجل حلوم كثیر الأحلام أحلم باستمرار دون كلل، ما أنْ أضع رأسي على الوسادة حتى تراودني شتى الأحلام البهیجة، (هناك) أعشق نساء جمیلات یبذلن مفاتنهن بسخاء، أقود سیارات راقیة وطائرات بلاستیكیة وقطارات خشبیة، أسافر إلى باریس وبرلین وبیروت في آن واحد بلا جواز سفر بلا حقائب… وحالما ینقضي الحلم تتلاشى مملكتي السحریة برمشة عین لأتقهقر إلى (هنا) كئیباً مريراً ملولاً”- المجموعة، ص18.
التعبير الثاني للقصص هو عن حقيقةٍ، وإنْ ضمناً، على أرض الواقع تعيشها الشخصية أو تواجههأ، وهو غالباً القمع وافتقاد الحرية، كما في قصة قصة “القيد”، التي هي عندنا واحدة من أهم قصص المجموعة وأذكاها تعبيراً خاصاً عن الفكرة، وتحديداً هذا القمع والإحساس بعدم امتلاك الحرية، وقمة هذا الإحساس هو أنه إذ يبدأ فردياً ينتهي جمعياً. أما قصة “حق النباح”، فنتيجة ما يعانيها بطلها (الكلب)، يقرر الرحيل عن البلاد. يلاقيه في طريق المغادرة كلب في طريقه للمجيء إلى هذه البلاد عما إذا كان فيها خير، فيجيبه هذا:
“- أجل.. أجل.. اللحم والعظام.. و.. قاطعه الكلب الهزیل الجائع مندهشاً:
“- إذن لماذا ترید الرحیل عن بلادك؟!
“فهمس الكلب في أذن صاحبه:
“- لأن النباح هنا محظور وأنا أرید أن أنبح.
“حینذاك قفل الكلب الهزیل راجعاً إلى بلاده وبصحبته الكلب الآخر، وهما لا ینفكان عن النباح.”- المجموعة، ص58-59.
التعبير الثالث للقصص هو عما تخشى الشخصيات مواجهته، والملاحظ أن معظم قصص هذه (الفئة) لا تحمل نفس قوة الشحن، إن صح التعبير، الذي تحمله جل قصص القئتين الأخرتين، كما هو حال قصص “في بيتنا روبوت”، و”كائنات صغيرة”، و”رجل يمسك بأيامه”، و”العطف”، وغيرها.
وفي كل الأحوال، وفي التعبيرات أو الحالات الثلاث السابقة، قد يكون خيال قصص زنكنه، المحلّق والمنطلق في فضاءات أحلام لا حدود لها، وفي الغالب هرباً من واقع جاثم عليه وأحياناً علينا، أو واقع يخشاه. في قصة “وداعاً أيتها الأرض” يجد البطل سيارته تسير به بسرعة عجيبة حتى يجد نفسه على سطح المريخ وهو يتأمل الأرض.

( 2 )
ونحن نواجه الحلم والعالم الحلمي والشخصية الحالمة، كما تمثلت في قصص زنكنه، نعتفد أن القصة القصيرة جداً هي بين أشكال الإبداع الأكثر ملاءمة لهكذا حلم، وتحديداً في كونها، حين تومئ ولا تقول، وتتضمن ولا تفصح، وتوحي ولا تصارح، تكون أقرب إلى الحلم أو الطيف أو حلم اليقظة. ومن هنا جاءت المجموعة لتستجيب لإحلام الكاتب، أو ربما جاءت أحلام هذا الكاتب لتستجيب لهذه القصص بما يلائمها، فكانت الأحلام وكانت القصة القصيرة جداً. وهكذا فقصص المجموعة هي غالباً، إن لم نقل دائماً، قصص قصيرة جداً very short stories أو short short stories بل تنتمي، في غالبيتها العظمى، إلى ما يُسمى بالإنكليزية micro fiction أو ما يسمى بـ(قصة الومضة) flash fiction تحديداً التي يرى بعض النقاد أن”معدل طولها هو دون 400 كلمة، مع بعض الاستثناءات التي قد تصل بها إلى 750 كلمة”(). وإذا كان الطول هو أول خصائص هذا الشكل القصصي، ولس الوحيد بالطبع، فإن الغالبية العظمى من قصص صلاح زنكنه تتراوح أطوالها ما بين ما (100) كلمة، ولا يصل إلى (400) كلمة، وقد يقصر بعضها، مثل قصص “حق النباح” التي تقل عن الـمئة كلمة، و”صورة طبق الأصل” التي تقصر إلى ما دون السبعين كلمة. وحتى حين يطول بعضها فإنه لا يكون قصصاً بالطول الاعتيادي، فتصل “حفنة تراب” إلى (500) وقصة “ولكنها بعيدة” إلى (650) كلمة. الاستثناء الوحيد هنا في “التماثيل” التي زادت على الألف كلمة، إذا ما نظرنا إليها على أنها قصة واحدة، فقد تكون في أجزائها الخمسة قصصاً لا قصةً واحدة.
وإذا كانت القصة القصيرة جداً ملائمة للخيال وربما الفنطازيا أحياناً، كما بيّنا، فإنها قد لا تكون كذلك مع السخرية التي ربما تحتاج إلى تفصيل وامتداد لا يمتلكه هذا الشكل القصصي. ولكن صلاح زنكنه يتجاوز هذا (العائق) حين يميل في الكثير مما يكتبه هنا إلى السخرية والأسلوب الساخر الذي يغلف القصة كلها أو جزءاً منها. ولعل واحدة من القصص التي تمثلت هذا واستطاعت أن توظفه بنجاح قصة “سلام النيترون”، حيث تصل فيها السخرية حد الكوميديا:
“حمداً لله لقد انتهت أزمنة الحروب وتخلصنا من ویلاتها ونسینا مفردات الحرب والهزیمة والنصر، والحرب الوحیدة التي نشبت بین الصین وروسیا كانت بالهراوات، والحرب الأهلیة في إیران استخدمت فیها اللكمات والركلات، یا سلام.
“یا سلام على النیترون، یا سلام على ابراهام دافید وجنونه، یا سلام على هیوا شوان وخططه، یا سلام على سوزان هاردي وسلامها، یا سلام على صلاح زنكنة وأكاذیبه الحمیمة”- ص17.
وتدخل ضمن هذا الخط قصة “في بيتنا روبوت” التي هي قصة هي ساخرة فعلاً، بينما توجد السخرية ضمناً أو صراحة في الكثير من قصص المجموعة. بل ربما لم تغادر السخرية خروجاً كاملاً إلا قصص محدودة جداً، أوضحها قصة “موت غامض” اتي هي واحدة من أكثر قصص المجموعة جديةً، وهي تخرج في هذا من سخرية القصص الأخرى وكوميدية بعضها، بل هي تقدم قضية جادة وبأسلوب جاد، حتى وإن لم يكن واقعياً مئة بالمئة.
لكن السخرية لم تكن للكوميديا واللهو والعبث والإمتاع، مع ما هناك من شيء من هذا، بل هي من نوع السخرية التراجيدية، وأكثر من هذا قد تنطوي هذه السخرية أو تتحول، عبر تراجيديتها، إلى لا واقعية كافكوية. فمن بين الحلم والعوالم الحلمية، الجامحة أحياناً، والسخرية حد الكوميديا، السوداوية في كثير من الأحيان، تفرض الكافكوية والعالم الكافكوي نفسيهما على العديد من قصص المجموعة، وتحديداً حين تكون في كثير من الأحيان مفردات من اللاواقع على أرضية واقعية، أو على الأقل هي “قالب من اللاواقع مضمونُه الواقع”() على حد توصيف مصطفى ماهر الدقيق لكتابات كافكا. وقد عرفنا أن صلاح زنكنه قد انطلق فعلاً من واقع أو بالأحرى من معاناة من واقع معين، هو واقع القمع والاضطهاد والخوف والملاحقات، كما في قصة “القيد” التي هي قصة كابوس أكثر منها قصة واقع أو حلم. فبعد أن تجد الزوجة أن زوجها يحس وهو يستيقظ من النوم أنه مقيد، ثم تجده يحس، في الصابح الثاني، أنه مخيّط الفم، تنخرط في البكاء إزاء وضع زوجها المفترض أنه مرضي، ولكن:
“في الیوم الثالث لم یقم بأیة حركة، ولم یتفوه بشيء، كان جسده بارداً هامداً لا حیاة فیه، وكاد قلبي یطفر هلعاً من صدري حین رأیت السلاسل تطوق زوجي من قمة رأسه حتى أخمص قدمیه. حاولت أن أهرب إلى خارج البیت، ففُوجئت بالسلاسل تقیدني، ولما حاولت أن أصرخ وجدت فمي مخیطاً”- ص25.
ولعل أكثر ما التقت فيه هذه القصص الكافكوية مع العديد من روايات كافكا وقصصه، عدا خصيصة (اللاواقع الذي مضمونُه الواقع)، وهي خصيصة رئيسة، الالتقاء الشكلي والمضموني في مقدمات القصص، فكما يستيقظ بطل كافكا في (المسخ) ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة، ويستيقظ بطله في (القضية) ليجد نفسه مقبوضاً عليه من جهة لا هوية لها ومتهماً بشيء غير معروف، تأتي العديد من قصص صلاح زنكنه وكأنها تريد أن تحقق الصدمة من أول سطر أو أسطر بما يُراد لها أن تعبر عنه من واقع بعينه، كما في قصة “حصار”:
“لا.. لا تحاول بعد الآن، تنح جانباً وابك وأنت تكرع كأسك الأخیرة فالأبواب موصدة والمنافذ، الممرات، المسالك، الطرق الجانبیة، كلها مقفلة في وجهك مثل زنزانة أو جحیم، حتى الفضاء یبدو محاطاً بأسیجة لامرئیة.”- المجموعة، ص69.
وقد لا يبدو هذا الالتقاء بهذه الصراحة إلا بعد عتبة القصة، وفي وسطها، وربما في نهايتها. فبعد أن يهرب بطل قصة “الكابوس” من مفوض وحراسه الذين يحاصرونه، ليصل المدينة، تكون المفاجأة حين يقول لنا:
” نكست رأسي ومشیت مخافة أن یكتشفوني، فررت منهم مخذولاً فزعاً حتى وجدت نفسي في صحراء قاحلة بین كثبان الرمل وهناك أیضاً وجدت المفوض، قلت إنه قدري ولا بد من مواجهته”- ص39.
وإزاء الواقع الذي يعيشه بطل صلاح زنكنه، وربما المؤلف نفسه، وربما نحن معه ومع بطله، تتحول هذه الكافكوية أحيانا إلى سوداوية، لكنها سوداوية تأتي، برأينا، بشكل صرخة ضمنية على ما يسببها، كما في قصة “قيامة الدم” التي هي صادمة في سوداويتها، حين تصور جريان الدم في كل صنبور وكل مجرى.

( 3 )
مما يبدو أنه يعود إلى توجه صلاح زنكنه وموضوعاته، وإلى طبيعة القصة القصيرة جداً ومحدودية حركتها، جاءت بدايات أكثر القصص متشابهة من حيث الدخول المباشر وعرض (الحالة) ولا نريد أن نقول الحدث كون هذه الحالة، أكثر من الحدث، هي التي تقدمها القصة القصيرة جداً. وهذه الحالة هي التي تنطلق منها نحو المفاجأة أو الصدمة الموحية التي عادة ما تأتي أيضاً في نهاية جل هذا الشكل القصصي. وهكذا فجل قصص المجموعة تبدأ بحالة غير عادية تذكرنا بافتتاحيات بعض روايات وقصص كافكا، التي أشرنا، كما هو شأن بطل “المسخ”، التي يستيقظ بطلها ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة. فأحد أبطال أو شخصيات قصص زنكنه يُفاجَأ بالدم يسيل من الحنفيات ومن كل شي، ويستيقظ بطل قصة أخرى ليجد نفسه مقيداً بدون قيد، بينما يجد بطل قصة ثالثة الصوف ينمو على جلده وقرنين في رأسه، وبطلة رابعة تتحول إلى بلدوزر.. وبطل خامسة يجد أن الأشجار والنهر والعصافير وغير ذلك تغادرهم.
وحين تلتقي قصص زنكنه في طبيعة البدايات التي تقدم الحالة الصادمة وغير العادية، وفي التقائها بشكل كبير مع بقض قصص وروايات كافكا، فإنها تكمل هذا الالتقاء في الجزء المهم الآخر في القصة القصيرة جداً، والتي عادة ما تأتي بشكل ضربة قد تكون صادمة هي الأخرى، أو مفاجئة أو تقدم ملمحَ انفراجٍ ما. والنهاية في قصص زنكنه، وكما هي في القصة القصيرة عادةً، توحي بما هو أكثر مما تقوله كلماتها. وهكذا إذ تبدأ قصة “الخروف” مثلاً:
“.. منذ أیام وأنا ألاحظ الصوف ینبت على جلدي، والیوم أكتشف وجود قرنین في أعلىى رأسي. ارتضیت بالأمر الواقع على مضض. رتدیت ثیابي واعتمرت قبعة أخفیت تحتها قرنيَّ وخرجت إلى الشارع، حین رأيت جاري، بادرته بالتحیة، وبدلاً من (صباح الخیر) خرحت أثغو في وجهه: باع…”- ص42.
فإنها تنتهي بالآتي:
“حملني الفراش إلى بیت المدیر، فاستبشرت زوجته بي، وأخذ ابنه الصغیر یلاعبني ویداعبني.. وفي المساء أحضر المدیر جزاراً خشناً وبیده سكین حادة وهو یربت على ظهري:
“- یا له من خروف سمین!
وفي اللحظة التي قررت أن أصرخ بأني لست خروفاً.. راحت مدیة الجزار تحز رقبتي.”- 44.
وفي قصة “من لي بعدها” تتحول غيرة زوجة الراوي البطل إلى بلدوزر تهدم بيت كل من تشك بأن لزوجها علاقة بها، بحيث تصير مصدر كوارث متكررة. في النهاية:
“فجأة شاهدت زوجتي بشعرها الأصفر متكومة على بعضها ممسكة بأظافرها الطویلة كومة من الحدید والكونكریت وقد فارقت الحیاة، بكیت بكاءً مرًّا، ترى من لي بعدها یغار علي كل هذه الغیرة.”- ص48.
وإذا كان صلاح زنكنه قد التقى بكافكا، ووظّف أسلوبه وبعض عوالمه، فإنه لم ينطلق في ذلك، بالطبع، مما انطلق منه كافكا من الإحساس بالاضطهاد وبعد حب الآخرين له ومن معاناة الإنسان من العالم المادي، وما إلى ذلك. فصلاح زنكه وظف هذا للتعبير عن المعاناة من القمع والاظطهاد الذي عاشه أو يعيشه إنسان الواقع السياسي من حوله، كما عبّرت عن ذلك قصتي “القيد” و”حق النباح” بدلالتهما شبه الصريحة على افتقاد الديمقراطية وحق التعبير، و”لعنة الحمام” المعبرة عن القمع والدكتاتورية والطغيان، و”الخنزير” التي تنفرد بين قصص المجموعة في التعبير عن القمع والتعذيب. أما قصة “حفنة تراب”: الواقعية، على خلاف جل القصص السابقة، فهي عن معاناة طفلين من تجربة ترحيل التبعية الإيرانية في السبعينيات.
ولعل نماذج القصص التي ننهي بها هنا وقفتنا تعكس بعض ما قدمته هذه الوقفة فيما بسبق.

( 4 )
نماذج من قصص المجموعة

جهاز السعادة
جهاز السعادة الذي اخترعه أحد الجهابذة في مملكتنا كي یخلصنا من الهم والغم ویجعلنا سعیدین أبداً، أثبت صلاحیته وكفاءته وراح الناس رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، مثقفین وأمیین على حد سواء یتداولونه بسهولة ویسر.
هذا الجهاز الذي یوضع فوق الرأس مباشرة یبعث راحة وطمأنینة كاملة، إذ أنه یوقف تلقائیاً خلایا الدماغ المسؤولة عن التفكیر، فیشعر المرء بسعادة قصوى حیث لا ماضیاً مؤلماً ولا مستقبلاً مجهولاً ولا.. ولا.. غیر حاضر زاه يعیشه المرء راضیاً مرضياً. لذا ترى الناس في مملكتنا فرحین مستبشرین دوماً والابتسامة البلهاء لا تفارق وجوههم، لا قلق، لا حزن، لا كآبة.
التفكیر شر البلیة، هذا ما أعلنه المدیر المفوض لشركة جهاز السعادة في الحفل الفني الكبیر الذي أقیم بمناسبة نجاح الجهاز وانتشاره اللامحدود، الجهاز یرتدیه هو الآخر ویفاخر به أمام الملأ، في غمرة الحفل البهیج وانغماس المحتفلین بالرقص والغناء حدث ما لم یكن في الحسبان، لقد انتحر مخترع الجهاز وسط جمهرة الناس الذین لم یحزنوا ولم یتساءلوا برغم المصاب الألیم لمخترعنا
الذي وفر لنا السعادة، السعادة التي بتنا لا نطیقها. ص31-32.

موت غامض
خمسة وزراء قبله ماتوا في ظروف غامضة.
الأول مات إثر حادث سیارة مجهولة.
الثاني مات إثر سقوط جدران مكتبه.
الثالث مات إثر عضة كلب مسعور.
الرابع مات إثر صعقة كهربائیة مفاجئة.
الخامس مات غریقاً في (البانيو) أو مختنقاً بالغاز أو متسمماً بالهمبرغر، المهم مات في ظرف غامض.
هو الوزیر السادس وعلیه الحفاظ على حیاته والابتعاد عن الظروف الغامضة قدر الإمكان.
طوال أشهر ظل یفكر ویفتش عن سبیل للخلاص حتى أصابه الإعیاء، فلم یجد وسیلة أجدى من الاستقالة ینجو من المصیر الغامض الذي بات یؤرقه.
بعد یوم أو یومینن قرأ في الصفحة الأولى من الجریدة نبأ اغتیاله، وحین رفع رأسه عن الجریدة وثمة ابتسامة غامضة ارتسمت على شفتیه، رأى فوهة مسدس متجهة مباشرة إلى صدغه، أدرك حینذاك أن كل شيء غامض كما الموت.
أغمض عینیه بهدوء ولم یسمع سوى صدى غامض. – 56-57

صورة طبق الأصل
دخلت الحمام على عجلة من أمري، وخلعت ثیابي وفتحت صنبور الماء، فراح (الدش) ينث الماء على جسدي… شیئاً فشیئاً بدأ جلدي ینكمش، وبعد هنیهة راح يتبعج بفعل الماء ثم یتشقق ویتمزق، ووجدتني أرى أحشائي الداخلیة، الأمعاء والقلب والرئتین والكلیتین، وهذه بدورها أصابها البلل وبدأت تتضاءل وتتلاشى لو لم أسعف نفسي بالخروج مسرعاً من الحمام وتنشیف جسدي، وتجفیفه بالحرارة لأنني نسیت تماماً حقیقة أنني من كارتون وورق.”- ص70.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *