صراخ النوارس

صراخ النوارس
اقتفاء الشك … أم ارتكابه؟
ميسلون هادي
أدرك أن أبي لا يجهل تفاصيل ما يجري وراء ظهره , غير إنني حتى هذا اليوم , ((وأنا أبوح بهذا الاعتراف )) لا اعرف السر المحير الذي يجعله يمتنع عن اتخاذ موقف حاسم , يضع فيه حداً للعذابات يعانيها بينه وبين نفسه (( امن اجلي أنا كان يتحمل المهانة و الألم )) إذن هذا هو طقسنا اليومي , أبي و أنا منذ مجيئنا إلى البحيرة , نحن الأربعة نغادر البيت في الساعات الأولى من الفجر إلى الشاطئ , من اجل صيد السمك , ثم نعود بلا صيد حتى يجيء اليوم الذي يباغتني فيه بفعلته غير المتوقعة و التي ستكون المقدمة و الذريعة أيضاً لمأساة لاحقة شطرت حياتي إلى الأبد .
تجري أفكار و تأملات رواية صراخ النوارس لمهدي عيسى الصقر في رأس بطلها الصبي على شكل تيار من الوعي يبدأ منذ السطر الأول للرواية وحتى السطر الأخير فيها , الصبي متعلق بابيه جداً ويحبه حباً جماً و يرافقه كل يوم عند الفجر إلى البحرية لصيد الأسماك في المنطقة السياحية التي وفدوا إليها (( هم الأربعة )) تاركين كل يوم أمه وعمه في البيت السياحي (( ينعمان وحدهما بالنوم , وأحلام الفجر وسط هدوء البيت كل واحد منهما في غرفته يحتمي بدفء الأغطية الصوفية من برودة أجهزة التكييف تواصل طنينها المكتوم بين الجدران الصامتة ))
ومنذ الصفحات الأولى للرواية يضعنا الكاتب أمام أمر مبهم يحدث داخل البيت بينما الأب المعوق العائد من الأسر بإصابة في عموده الفقري , وابنه الصبي يجلسان على صخور الشاطئ و يصطادان الأسماك لساعات طويلة , الأب غريب الأطوار ساهم شارد يحدث نفسه أحياناً ويعيد كل سمكة يصطادها إلى الماء ثانية .. وهذه الصفات و غيرها يقدما الراوي بدقة على لسان الصبي أيضاً , فنتعرف من خلالها على صورة إنسان حنون وديع وهادئ ومتهدم من الداخل أي على مايراه هذا الصبي في ذلك الأب المحبوب وهي صورة تثير تعاطف القارئ معها مادامت مقدمة من وجهة نظر الابن المتعلق بابيه بل إن الروائي عندما يريد أن يقدم وجهة نظر أخرى فانه أيضاً يقدمها من خلال الصبي كأن يقول : (( تقول أمي أنهم أعطبوا له عاموده الفقري عندما كان يحارب , لهذا تراه يا ولدي إذا مشى يتأرجح مثل نبتة في وجه الريح , تساعده عصاه على الثبات قليلاً, يحرك خطواته خطوة متأنية , بعد خطوة , وافقدوه عقله في قفص الأسر _ تقول أمي _ فراح من يومها يهذي ويبتدع أناساً يتمثلهم واقفين أو جالسين أمامه , يحاورهم , و يفتعل أحياناً النزاعات معهم , كما تراه يخاطب الطيور , و أحجار الطريق , فلا تصغي إليه إذا كلمك عني , فهو ليس في كامل وعيه , رجل كثير الظنون , يتوهم أمور شنيعة لا أساس لها , إنما هي محض تصورات حمقا يفرزها عقله المختل )) .
أو أن تخاطبه في مكان آخر قائلة : (( إن أباك ما عاد رجلاً منذ اليوم الذي أصيب بذلك الجرح الشنيع في أسفل عاموده الفقري )) .
إلا أن الراوي _ الصبي يستدرك بعد كل جملة تبقى معلقة في ذاكرته أو أمر لايفهمه في طفولته , يستدرك ليعطي ما تكون لديه من رأي في هذا الأمر بعد أعوام فنعرف أن الراوي يروي تلك القصة التي تشبه الاعتراف وهو في العشرينات من عمره و قد تزوج وأصبح له ولد , ربما أن الرواية مكتوبة بضمير الشخص المتكلم .. فان هذا يجعل القارئ يشعر منذ البداية أن هناك حدثاً اكتمل و أنهى و إن الرواية جاءت لتخبرنا به بصيغة اعتراف وان كانت هناك ثمة نهاية مأساوية كالموت مثلاً , فإنها لن تكون مصيراً لهذا البطل _ الصبي _ الشاب مادام هو الذي يقوم برواة الأحداث , كما انه لامناص من الاعتقاد بأن هذا الشاب الذي يروي الأحداث مستعيداً إياها من الذاكرة هو نفسه الكاتب _ الروائي مادام يستعمل لهذا القص وعي الكاتب المتقدم ولغته و مفرداته ذات الحساسية العالية .. لنسمعه كيف يصف أباه بهذا الوعي وهو صبي في الثالثة عشر من عمره :
فهو ينتظر بلا ملل , مجئ سمكة طائشة , تعلق بشصه الغائص في البحيرة , ليجرها بعد ذلك إلى خارج الماء , يتأملها تلبط جزعة , في الهواء المميت , مصلوبة في نهاية الخيط المبلول , يتأرجح في يده , وحديد الشص تشق حافة فمها الفاغر , ويمسك بخصرها الأملس , تتلوى تحاول الإفلات من بين أصابعه اليابسة , وهو يتبسم ويناغيها محدقاً في حوافي فمها المفتوح , يبحث عن آثار جراح أحدثتها محاولات صيد سابقة .
وبعد ذلك يعمل بحذر على تخليصها من ورطتها التي أوقعت نفسها فيها بدافع الجوع وغبائها الذي لاشفاء منه ثم يرمي بها صوب البحرية متنهداً فتتقلب في الهواء مشدوهة جسدها الأبيض المبلل يلصف في الشمس لتسقط بعد ذلك في الماء .
إن هذا الوصف الدقيق الذي جاء على لسان صبي في الثالثة عشر من عمره يقدم لنا المعادل الموضوعي لحالة العجز التي يعاني منها الأب , وكأن الروائي قد استعار لسان الصبي للكلام و عيناه للنظر وربطهما بوعي ناضج ومكتمل هو وعي الشاب الذي سيصحبه ذلك الصبي ليبرر لنا تلك الحساسية العالية لديه في تأمل الأشياء بشكل مختلف عما يمكن أن يفعله طفل في مثل عمره . ومع ذلك فقد يكون وعي الطفل حاداً أحياناً إلى درجة انه يستطيع ن يفهم أي إشارة غامضة أو حركة مريبة تحدث أمامه و على وجه الخصوص ما يتعلق منها بالمناطق المحظورة أو المحرمة , ومعلوم في علم النفس أن تلك الإشارات إذا عذبت الإنسان في طفولته فإنها ستلاحقه بقية حياته أكثر من أية إشارات أخرى علقت في ذاكرته , وهنا لابد لنا من وقفة إزاء القدرة الإيمائية , التي امتلكتها لغة الرواي , على تحويل أية إشارة أو نظرة أو كلمة مريبة إلى شحنة كاملة من المعنى تغني عن صفحات طويلة من الوصف و الكلام الزائد .. فاستطاع الكاتب وبدون تكلف (( من خلال الراوي طبعاً )) أن يكثف بشكل مبهر حقاً ولافت للنظر تفاصيل حياتية في غاية البساطة و يحولها إلى أغراض تترجم ما عليه هذه الشخصية أو تلك من حالة نفسية أو صحية أو جسدية حتى بدت تلك القدرة في تأثيرها الظاهري المباشر اقرب إلى أجواء الروايات البوليسية ( وان كان بعيدة عنها كل البعد نفسياً وفكرياً )) وقد تعمد الكاتب إمعاناً في جعل أسلوبه موحياً وغريباً تعمد إلى حذف أداوت الوصل التي تربط بين الكلمات قدر الإمكان كما انه لم يجأ إلى استعمال كان و ((أخواتها )) إلا فيما ندر , وقدر مرت صفحات على قراءتي للرواية وأنا اعتقد أن هناك خطاً مطبعياً قد حدث وأدى إلى تكرار سقوط الكلمة (( الذي )) سهواً من بين السطور كما في ها المثال : وقبعة القش _ الحبيبة إلى نفسك _ تطفو فوق سطح البحيرة , أبعدها عن الشاطئ قليلاً اضطراب الماء , إثارة الرجال بحركاتهم , دامت ساعات طويلة يبحثون عنك في الأعماق , وكني سرعان ما اكتشفت اللعبة الأسلوبية التي تعمدها الصقر في إضفاء طابع الغرابة أو الطلاقة أو ربما (( الطفولة )) على أسلوب الرواية .. وتلك الحيلة مع استعمال الفعل المضارع بدلاً من الماضي في السرد قد أعطت دفعة قوية لعامل التوتر الذي بقي مهيمناً على الرواية بشكل جعل القارئ مشدوداً إلى قراءتها بقوة بالرغم من أن نهايتها مذكورة منذ بداية الفصل الثالث , فهذه الرواية ليست رواية عقدة تتوتر ثم تنحل في النهاية و إنما رواية سيكولوجيات و أفكار و تأملات من نوع خاص تنتاب صبياً يعتقد ان أمه كانت تخون أباه طيلة الوقت مع عمه , وان أباه لم يمت منتحراً أنما قتله عمه الذي تزوج من أمه بعد أربعة أشهر فقط من موت الأب , وهنا اختم قراءتي لتلك الرواية بجملة ملاحظات ألخصها كما يلي :
ان هاملت الذي يبدو مستلهماً في هذه الرواية حاول الروائي الاحتياط منه بان طابق بين الفكر و الفعل لدى شخصيته ((الايجابية )) وذلك من خلال جريمة التصميم التي امتلكها الابن على تنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه في حين كان هاملت ممزقاً بين تأملاته وأفكاره التي (( تسخف )) الفعل وبين (( ضرورة )) القيام بهذا الفعل وهو الانتقام .
ان رواية زخرت بكل هذا الثراء اللغوي و الفكري و النفسي … كيف اختارت لنفسها عنواناً تقليدياً هو العنوان الذي ظهرت عليه .. وهل ثمة علاقة (( لم أتبينها )) بين الحدث الرئيس داخل الرواية و ليس مكان حدوثه (( وهو البحيرة )) و بين صراخ النوارس ؟
خلت الرواية من الزمان و المكان .. إذ لانعرف أين تقع تلك البحيرة التي تدور حولها الأحداث ولا توجد هناك أسماء للأمكنة التي تشهد تحرك الشخصيات , وثمة إشارة وحيدة ترج عابرة إلى ان البطل ا\يستعمل عصا أبيه عندما يتجول في شوارع (( بغداد)) وهي إشارة وحيدة لا يتقدمها أو يليها زمان أو مكان فعندما يقول الراوي الحرب لا نعرف أي حرب يقصد وعندما يقول المدينة السياحية لا نعرف أي مدينة سياحية يقصد لربما على اعتبار ان الرواية هي رواية (( حالة )) و ليست رواية أسماء و تواريخ , ومع اخذ هذا الاختيار بنظر الاعتبار و التقدير فاني اعتقد ان ((اللاتاريخية )) في الكتابة الأدبية هو مر تحتمله القصة القصيرة و لاتحتمله الرواية .
قبعة القش التي طافت على سطح الماء بعد غرق الأب وجدها الابن ((ومعه عائلته )) طافية في نفس المكان من البحيرة عندما عادوا إليها بعد عشر سنوات من الحادث .. هذا المشهد النادر بالرغم من لا واقعيته الظاهرية كان يلخص بدرامية ولماحية حادثين مهمين ساعة الحساب وملاحقة الجريمة لمرتكبها _ ان كان ثمة جريمة _ لحين مجئ لحظة العقاب.
نجح الكاتب في إزاحة بعض ظلال الشك عن العم وتقديمه في الفصول الأخيرة من الرواية بشكل يثير تعاطف القارئ معه … و تحديداً في أخر جملة قالها قبل ان يسقط إلى مصيره المحتوم , وقد استطاع الكاتب ان يتخلص من أحادية وجهة النظر ببراعة و ذلك بان قدم احتمال براءة العم , من خلال وعي الابن , مثلما قدم احتمال ارتكابه الجريمة من خلاله أيضاً .

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

النصف الآخر للقمر

ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *