شكري المبخوت، الطلياني، النسخة القصيرة

الأكاديمي شكري المبخوت سارداً
وقفة عند رواية “الطلياني”
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
شكري المبخوت أستاذ جامعي جاد وبإمكانية أكاديمية وتأليفية معروفة، ولكن معرفته سارداً لن تكون إلا من خلال نافذة روايته (الطلياني)، الصادرة عن دار التنوير في تونس، عام 2014، كونها الأولى له ومن هنا يأتي توقفنا عندها هذه الوقفة القصيرة.
تبدأ الرواية بمشهد تشييع جنازة (الحاج محمود)، وفيها يقوم أحد ابنَيْه، وهو (عبد الناصر) الذي يُسمى بالطلياني لوسامته، باعتداء بالضرب على الإمام (علاّلة) مع أنه كان يقوم بمراسم دفن أبيه. “لم يفهم أحد من الحاضرين في المقبرة يومها لِمَ تصّرف عبد الناصر بذاك الشكل العنيف. ولم يجدوا حتى في صدمة موت الحاج محمود سبباً مقنعاً”- ص5. ولا يجد أحدٌ كما لا نجد نحن تفسيراً لهذا الذي يقع، حتى حين يقول الراوي في نهاية الاستهلال: “لا أحد فهم عدا للاّ جنينة على ما بدا للحاضرين، ولكنها لم تبحْ بشيء وتركت الأمر في مجمع أسرارها”- ص10.
يعود بنا السرد، بعد صفحات الاستهلال الغامض والغريب هذا، وعبر استرجاع تنبني عليه الرواية، إلى الماضي ليمضي السرد فعلياً في مسار أحداث يبدأ بطفولة (الطلياني)، ولكن ظاهرياً ليس بحثاً عن مسببات الحادثة وصولاً إلى تفسيرها وإزالة غموضها، كما قد يتوقع القارئ. هو بدلاً من ذلك يمارس كشفاً عن حياة البطل وضمن ذلك كيف يبدأ مبكراً وعيه السياسي والطبقي، والثقافي والفكري عموماً، ليميل إلى اليسار والماركسية وهو في الجامعة.. وكل ذلك في خضم نضال الطلبة في تونس على مختلف توجّهاتهم. ومن جميل ما يفعله هذا الكشف عن حياة (الطلياني) هو أنه إنما يكشف عن حياة بشر كاملة هي واقع تونس، على الأقل من وجهة نظر الرواية بالطبع، وهنا تنفتح الرواية عن ثنائية ستشكل مبنى الرواية. الواقع أن للرواية في خطها الحدثي وفي وقائعها وشخصياتها بؤرتان: البؤرة الأولى هي علاقة (عبد الناصر) بـ(زينة)، ذات الشخصية القوية والمثقفة والواعية فكرياً وسياسياً وربما شبه المسترجلة، التي تبدأ بخصومة فكرية وسياسية، لتتطور إلى صداقة ثم حب فزواج. هو لقاء زواج يبدو غريباً، في ضوء ما عليه شخصية (زينة) أولاً وما بين الاثنين من خصوصمة سياسية فكرية ظاهرة بعنف، ولهذا أيّاً كانت عوامل اللقاء، تنتهي الزيجة بافتراق طرق فطلاق.
أما البؤرة الثانية فهي، إلى حد كبير، النضال الطلابي، في زمن حساس جداً من تاريخ تونس الحديث، حيث تجري وقائع الرواية، نهاية عهد بورقيبة وبداية عهد بن علي. وضمن ذلك تدخل، وإن متاخرة، ظاهرة التغير والتغيير في المجتمع في ظل العهد الجديد. هنا يفلت الكاتب بوعي في ما أراه امتحاناً يُخفق فيه بعض الروائيين، حين لا يقع أسيرَ فخٍّ التاريخ والواقعة الحقيقية الموثّقين، بل يبقى مُخلِصاً للخط الحدثي المتخيل، ليبقى حضور الخط الفكري والسياسي التاريخي أو الحقيقي إطاراً قد يبتعد أحياناً ليتحرك الخط الحدثي على بعد منه، وقد يقترب منه أحياناً ثانية وكأنه يسوقه بالاتجاه الذي يتناسب معه فكرياً وبما نفترض أنه يتفق مع وجهة نظر الكاتب، وقد يتداخل معه أحياناً ثالثة، وتحديداً من خلال العنصر المشترك بينهما الذي أشرنا إليه، نعني (الطلياني).
( 2 )
من جميل ما تفعله الرواية خلال استرجاعها الذي تقوم كلّياً عليه، وهو يأتي مباشرةً بعد حادثة الاستهلال الغريبة والغامضة، أنها إذ لا تُحاول، ظاهرياً، أن تكشف سبب اعتداء (الطلياني) على (علالة)، فإن مسار أحداثها من الماضي باتجاه الحاضر الذي تبدأ به، يقود ضمنياً إلى هذا، وتحديداً في الصفحات العشرين الأخيرة حين يتلقّى (الطلياني) مكالمة من أخته (يسر) تُعلمه بوفاة أبيهما الذي تبدأ الرواية به، كما قلنا. على خلاف ذلك هي تُعنى، بدلاً من ذلك، ومن خلال اشتباك البؤر والخطوط، بـ(عبد الناصر الطلياني)، وهو يناضل من أجل قضايا طلابية ووطنية وإنسانية وسياسية، ويقيم علاقة لا يُخفى الوعي والعواطف فيها، مع شيء آخر من الغموض، يتمثل في أن البطل يبدو وكأنه لا يعرف ما يريد، ومن ثم لا يعرف، كما لا نعرف معه، إلى أين يسير. كل ذلك عبر نمو العلاقة ما بينه وبين (زينة) الطالبة التي يبدو أنها تفجّر بعض جوهره لتزيل لنا بعض الغموض ومعه تقترب الرواية بنا، من حيث لا نعي ذلك إلا متأخراً، من إزالة الغموض الآخر عن حدث الاستهلال، كونه يتعلق بشخص البطل: “فاجأتْه وهي تؤكد له أن ميزته عن غيره ممن صادفتهم أو عرفتهم تكمن في كونه أرجعها إلى الحلم، لم تحلم منذ مدة طويلة، منذ طفولتها. أعادها إلى الحقول قبل أن تفقد ذاكرة القمح وشقائق النعمان”- ص103.
مع ما يبدو عليه الكشف عن سر اعتداء (الطلياني) على (علاّلة) الإمام من مفاجأة، فإن التمهيد له يسبقه ببضعة فصول، ليمنح هذه (المفاجأة) مبرَّرَها وفنيتها اللذين يُبعدانها عن التقليدية. فيروي الراوي حكايةً عن اعتداء (علالة)- قبل أن يصير إماماً للجامع- على (عبد الناصر الطلياني) وهو بين الثامنة والعاشرة من عمره. وما سنعرفه عن شخصية للا جنينة، قد يعزّز الكشف أو يفسر ظواهر وشخصيات، فهي فتاة يتيمة، جيران بيت أهل الطلياني، غير منضبطة، تُفضّ بكارتها على يد (صلاح الدين) أخي (عبد الناصر الطلياني) قبل سفره إلى فرنسا بعد أن أن تسلّمه هي نفسها. كانت تُعنى بالطلياني وهو صغير فمراهق، وهي من بدأت تعرّفه على أسرار الجسد، قبل أن تتزوج من (علالة الدرويش). فبعد الاعتداء الذي يمارسه (علالة) عليه، يتأذى (الطلياني) نفسياً جداً ويبقى الأذى بتاثيراته غير العادية يعييش فيه إلى الحاضر، مع أن صاحبه (الراوي) يهوّن عليه مؤكداً أن (علالة) لم يخترقه، كما يظن، ببساطة لأنه معروف عنه أنه عاجز جنسياً.
وإذا كان لنا أن نقتنع، إلى حد كبير، بما قاله المؤلف عن روايته من أنها رواية الدفاع عن الحرية الفردية، فإننا نضيف القول إنها تعبّر عن موقف أو مواقف من الحياة التونسية الحديثة والإنسان التونسي في مرحلة مهمة من مراحل التاريخ الحديث لتونس، كما قدمتها أو عبّرت عنها أو تحركت في ظلها الرواية، وخلال ذلك يكون ما عبّر عنه المؤلف أو قصده من صراع دفاعي عن هذه الحرية الفردية التي عامت وسط فوضى المرحلة، ومن خلال خلق بيئة سردية تعبر فيها هذه الحرية عن نفسها أكثر مما يعبّر المؤلف أو الراوي عنها، كما تمنحها المبرر والتسويغ. وذلك يأتي عبر خط فريد في طبيعته وينطلق، كما أشرنا، بعد واقعة البداية متمحوراً حول مسار حياة البطل والبؤرتين اللتين تشدّانه: النضال السياسي، وعلاقته السياسية والعاطفية بالشخصية الرئيسة الثانية الطالبة (زينة) فزواجه منها فمسار هذا الزواج فطلاقهما. وخلال ذلك نعرف أن (زينة) قد اعتُدي عليها في الماضي، وهو ما قد يكون وراء أن صارت، بدلاً من أن خروجها من ذلك شخصيةً سلبيةً، شخصية قوية عبّر عنها نضالها الطلابي والسياسي ودراستها ومقارعتها لكل معادٍ أو منافس في السياسة والدراسة والحياة عموماً من جهة، ولكن مع عطب، ظاهري على الأقل، من جهة أخرى، كما يتمثل ذلك في تذبذب حياتها وسلوكها وعلاقتها بالآخرين ولاسيما بمن سيكون زوجها، الطلياني.
( 3 )
من الصفحة الثانية من الرواية يتضح تماماً أنها مروية بضمير المتكلم، ولكن قبل أن نعرف مَن هو الراوي المتكلم، نحسّها وكأنها تتحول إلى ضمير الغائب، في الواقع سرعان ما نكتشف أنّ (أنا) المتكلم يتمظهر بما يشبه راوياً بضمير الغائب، ليعود في عشرين صفحة تقريباً فيظهر بضمير الـ(أنا) راوياً ولكننا، مرة أخرى، لا نراه ولا نعرفه، بل هو شبحي بحيث أنه- بدون هذه الـ(أنا)- يبدو لنا أقرب إلى الراوي الخارجي، إلى أن يقدم لنا نفسه حين يقول: “في تلك الغرفة المستقلة بدأتْ علاقتي بالطلياني تتوطد. فنحن من حي واحد تجمعنا الألعاب في الحي والمدرسة ويربطنا، بوثاق صداقة خالصة، تبادل الأسرار واستكشاف الحياة”- ص40. وفي هذا تحديداً يقترب كل ما قبله، وإلى حد ما ما بعده، أن يكون خطأً تقنياً، خصوصاً وهو يروي أموراً في أعمق دواخل (الطلياني) مما لا يمكن معرفتها وروايتها إلا من صاحبها، وبما يعني عدم إمكانية الإقناع بها إلا حين تُقدّم بضمير المتكلم وعلى لسان الشخصية المعنية نفسها، أو بضمير غائب ولكن منطلق من وجهة نظر الشخصية نفسها، أو برواية الراوي العليم الذي يستطيع اختراق كل السواتر والحُجب، وكلها لا تنطبق على ما أتضح أنه راوي الرواية، وهو شخصية مشاركة. ومن جهة أخرى صارت هذه الشخصية الراوية بهذا باهتة ولا تمتلك الحضور والمشاركة الفعليين كما لا يتشكل لها وجود في وعي القارئ وفي فعله القرائي وفي ذاكرته. ولا يقلل من جسامة الخطأ إلا قليلاً أنّ الراوي الشخصية سيقول، ليبرر اطلاع الراوي الشخصية ومعرفته بأعمق أسرار البطل (الطلياني) الذي يتكلم عنه: “جعلني حافظَ أسراره. كان يحدّثني عن كل شيء تقريباً. يبثّ إليّ هواجسه ويشركني في مناوراته وألاعيبه ويُعلِمني بمخططاته وما أكثرها”- ص40.
وما دمنا قد أخذنا هذا على الرواية، فمن المفيد أن نضيف أننا نأخذ عليها تفصيلية بعض الأحداث خصوصاً تلك التي لا ترتبط تماماً بخط الرواية المتخيّل وشخصياته، وضمن ذلك الإغراق في الحياة السياسية لتونس مما قد لا يكون مبرراً للعمل المتخيل أحياناً، فمع دواعيه كونه بيئةً للخط الحدثي المتخيّل وشخصياته، فإنه كاد في كثير من الأحيان يصير هو الخط. في مقابل هذا، إن أحد أبرز ما تميزت به هذه الرواية هو جمالية رسم شخصياتها غير النمطية فنّياً، لاسيما (الطلياني) و(زينة)، فهما من شخصيات الرواية العربية الحية، فمع عدم نمطيتهما فنياً من جهة، وعدم واقعيتهما ظاهرياً من جهة أخرى، هما مقنعتان تماماً ضمن العمل. ويُكسب هذا الرواية الكثير، كونها تقترب من أن تكون رواية شخصية أو شخصيات.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *