نزوة الموتى و البحث عن الجذور.
ميسلون هادي.
التعلق بصورة الأب المفقود و الشروع في البحث عنه من جديد هو إحدى الثيمات المطروقة في الأدب العالمي و العراقي ( المخاض : غائب طعمة فرمان ) و العربي ( الطريق : نجيب محفوظ ) .
وهي تستمد جذرها النفسي من حاجة الإنسان الطبيعية إلى الحماية و السند و المعنى خصوصاً في الأوقات الحرجة من حياته .
يصدر شاكر نوري روايته (نزوة الموتى) بمقولتين لرولان بارت و نيتشه الأولى تقول : ((ان موت الأب يفقد الأدب الكثير متعته … فإذا لم يعد هناك أب , فماذا ينفع ان نسرد القصص؟)) , و الثانية تقول : (( أليست الكلمات و المعاني أقواس قزح وجسور أوهام بين من فرقهم الدهر إلى الأبد )) .
ثم يبدأها منذ السطر الأول بحدث يثير في نفس القارئ التشوق و الترقب : ((وقعت البرقية على بلاط شقتي , كما تقع من سفرتها الغامضة فراشة رمادية اللون تقطع المليمتر الأخير )) .
و البرقيات مخيفة دائماً .. تبعث القلق و التشاؤم في نفس مستلمها و تدفعه للتفكير بأسوأ الاحتمالات , وكذلك كانت البرقية التي وصلت إلى بطل الرواية و تطالبه بالعودة إلى مدينته ((جلولاء )) لنقل رفات أبيه من المقبرة القديمة إلى مقبرة جديدة في مكان آخر من قصر العين .
هكذا يضع شاكر نوري بطله في رحلة أمدها ثلاثة أيام هي مدة الإجازة التي منحها إياه مدير المكتب الذي يعمل فيه بباريس وهي نفسها المدة التي حددتها بلدية قصر العين لنقل رفات الأب و نفسها المدة التي ستدور خلالها أحداث الرواية فيما بعد .
لقد أطلقت تلك البرقية سهماًعلى السطح الظاهري الساكن لحياة هذا الابن المزروع خارج الوطن منذ سنوات طويلة فراح يتململ في مكانه و يتساءل و يعيد النظر :
(( لم أتصور أبداً ان مجرد ورقة برقية قادرة على قلع هذه الغرسة )) .
ومنذ البداية نكتشف ان جذور هذا الابن في أماكن طفولته و يفاعته في جلولاء هي أعمق مما تستطيع الغربة اقتلاعها أو تقطيعها ولم تكن تلك الاستجابة الفورية لنداء نقل رفات الأب إلا شكلاً من أشكال ذك الإحساس المتأصل في نفسه بالانتماء إلى ارض أخرى غير الأرض التي اغترب عليها .
الزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية غير واضح أو ربما هو مطموس عن عمد فهو بالرغم من ارتكازه على أحداث تاريخية مهمة كالحروب و الفيضانات إلا ان الكاتب لا يحدد أية ( حرب) يقصد أو أي ( فيضان ) يعني .
وحتى عندما نحاول تلمس تحديداً زمانياً لذلك الحدث من خلال بعض التفاصيل التقديرية في الرواية فإننا لا نستطيع ان نتوقف عند السنة المحددة التي دارت فيها أحداث تلك الأيام الثلاثة , خصوصاً وان الكاتب يقع في خطأ توثيقي عندما يفوته الانتباه إلى ان النزول في ((الشيراتون )) يتقاطع مع وجود خط للقطار بين بغداد و جلولاء فالأول شيد في الثمانينات و الثاني أغلق في أواخر السبعينات .
ومع هذا يبدو لي ان اخذ الرواية بهذا المأخذ الواقعي الصرف هو أمر لا ينسجم وطبيعة الأسلوب المستخدم في كتابتها و ان تلك الأمكنة لم تكن سوى نقاط ارتكاز استخدمها شاكر نوري من اجل التحليق إلى الأجواء الذهنية التي يريد .
لقد كان الابن طوال رحلته القصيرة تلك يستعيد ذكريات طفولته و يفاعته من خلال تلك الأمكنة : القطار .. منزل الجد .. القلعة .. الفندق .. المقبرة .. الحانة ..النهر .. الخ وكانت تلك الأماكن تقوم مقام صديق الثقة( Confid ) الذي ينقل البطل من خلاله الأفكار إلى القراء .
الأب الذي مات و الابن لا يزال جنيناً في بطن أمه سيظهر لنا من خلال أراء الآخرين عنه وما يعرفونه عن حياته و الخيوط التي يتتبع أثرها الابن لدى كل أولئك تتجمع في النهاية لتشوش صورة الأب بدلاً من ان توضحها .. وهي صورة تعكس انحيازاً عاطفياً للأب لا مبرر له بثه المؤلف خلال الرواية على شكل إشارات عديدة جاءت منتصرة لفكرة الابن عن أبيه كإنسان طاهر بلا خطايا.
ان المؤلف يوقظنا منذ البداية من الاستغراب بالواقع و يضعنا على عتبة سوريالية أدبية ندخل من خلالها إلى عالم كابوسي غير متسلسل و غير منتظم و غير خاضع للمنطق في بعض الأحيان … يتداخل فيه الحلم مع اليقظة مع الوهم , يرسم لنا صورة مشوشة ( بقدر تشوشها في ذهن البطل ) عن عوالم قصر العين الغرائبية و يبدو لي ان استخدام هذا التكنيك الروائي جاء متعمدا للالتفاف على مطب التوثيق المباشر للحدث الأمر الذي يمليه اغتراب الكاتب عن الوطن أولاً وهروبه من أفقية الذاكرة إلى عاموديتها ثانياً .
وهذا يحسب للكاتب و عليه .. فهو يحسب له لأنه استطاع من خلال هذا المركب الصعب ان يقدم لنا مغامرة فنية حية ستأخذ مكانها في مسيرة الرواية العربية في العراق و يحسب عليه لأنه في محاولته تضبيب الزمان و المكان قد خسر اللمسة المحلية الصرف في توثيق الأماكن و الذكريات فقدم لنا جسداً محدداً هو قصر العين في جلولاء إلا ان عروق هذا المكان وشرايينه وأوصاله ظلت متروكة تحت مسميات عامة جداً تصلح لكل زمان ومكان .
وكان يمكن للفكرة التي اختارها شاكر نوري موضوعاً لروايته وهي (( نقل رفات الأب )) ان تشكل فرصة نادرة لتناول واقعي صرف فرط بها المؤلف مرغماً أو طائعاً لصالح المغامرة الفنية .
ان مشهد حمل عظام الأب في كيس مشدود يبيت في نفس الغرفة بل على نفس سرير الابن لحين طلوع الفجر و الذهاب إلى المقبرة الجديدة يرشح نفسه بؤرة لثيمة كان يمكن ان تلتم و تتفرق من خلالها كل تداعيات البطل عن بنوته و مدينته و ذكريات طفولته ولم تكن به حاجة لتلك الانتقالات السريعة بين أماكن متفرقة في قصر العين للبحث عن صورة الأب المفقود .. مادامت نية الكاتب متجهة أصلاً لتضبيب تلك الأمكنة وإغراقها في السوريالية .. أما تلك المقاطع الشعرية الصغيرة التي ضمها الفصل الثالث وجاءت على شكل أحكام أو أجوبة غير قاطعة يتفوه بها حفار القبور و أمين المكتبة و شاعر المدينة و تلاميذ المدرسة … الخ , فإنها تؤكد نزعة المؤلف للكتابة بشكل حر وحديث خارج الأطر المعروفة لمواصفات الرواية التقليدية .
شاهد أيضاً
النصف الآخر للقمر
ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …