شاكر خصباك: حياة قاسية
نص دراستي للقصة في كتاب “التجربة الروائية في العراق في نصف قرن”
إذا لم تكن هذه القصة الطويلة امتداداً أو تطوراً لقصة خصباك القديمة “عهد جديد”، فإنها، بلا شك، أقرب منها إلى الفن الروائي. إن “حياة قاسية”- 1959- هي امتداد موضوعي وفني لتوجه خصباك في عموم قصصه، المنعكس بشكل خاص في مجموعته الثانية “عهد جديد” والمتمثّل في اعتماده على الواقعية أسلوباً وتعاملاً مع الموضوع، وفي اختياره الموضوعات الاجتماعية المنبثقة من البيئة الشعبية، مع ميل واضح إلى النفس الانتقادي. يتمحور خط القصة حول شخصيتها الرئيسة (حليمة) ذات الثلاث عشرة سنة، أو بالأحرى حول معاناة هذه الفتاة في البيت. فهي، فوق تحمّلها جل أعباء البيت، تعاني من سوء معاملة أخيها الصغير الذي لا يكف عن إيذائها بعد أن كانت قد تكفلت بجل احتياجات تربيته، وموقف أمها المساند لأخيها، وإدمان الأب على الأفيون مما يجعله سلبياً عديم الفعل. ومن هذا الواقع ينطلق خيط الأحداث لينسج القصة، فتُخدع (حليمة) بابن البقال (فتاح) حين تبني على كلمة تسمعها منه أحلاماُ، معتمدة أنه يحبها، وتسير القصة في هذا الاتجاه إلى أن تكتشف أن غرض (فتاح) هذا جسديٌ، فيؤدي ذلك إلى انهيار أحلامها ويدفعها إلى الانتحار برمي نفسها إلى النهر.
ولعل أول إيجابية يمكن لنا أن نرصدها في تجربة خصباك هي توفيقه الواضح في التعبير عن معاناة بطلته ونفسيتها ابتداءً من العرض غير المباشر المتوازن لمفردات وضعها الحزين في بدء القصة ومروراً بانفعالاتها المتنقلة ما بين انعكاس ذلك على دواخلها وتفاؤلها وانشراحها وانطلاقها الداخلي لنسج الأحلام بعد أن يعرف قلبها الحب وتحسب أنها وجدت من يحبها ومن هو قادر على إنقاذها وإسعادها، وانتهاءً بالانكسار الحاد الذي يتعرض له قلبها حين تفشل تجربتها مع (فتاح). إن دقة وصف الكاتب لمشاعر بطلته وقيادته الذكية للأحداث في تطورها ضمن تطور الأوضاع العامة للشخصية منعكسة في هذه المشاعر، تمنح التطور اللاحق للأحداث والنهاية وللقصة إقناعاً لا جدال فيه. فمع “أن كلمة (فتاح) أصغر من أن تؤدي إلى كل هذه الميادين… ولكنها تدل على كل شيء مما هو كائن وغير كائن لدى (فتاة) بائسة طغى عليها الحرمان وجار الزمان فبحثت الخلاص عن طريق الزواج”().
من الخصائص التي يعززها خصباك في هذه القصة بعد أن رصدناها في قصصه السابقة، التأثر الذي رأيناه متمثّلاً في القصص الواقعية، الروسية والمصرية بشكل خاص. ففي “حياة قاسية” هناك جوانب تشير إلى ذلك، أهمها الموضوع والأسلوب الواقعي. على أن الأهم هو أن القصة تلمّح بشكل أكثر صراحة من أي عمل سابق لخصباك، إلى تأثر كاتبها بنجيب محفوظ، ولا سيما في أعمال المرحلة الاجتماعية من مسيرة الروائي المصري الروائية، وبشكل أكثر تخصيصاً بروايته “بداية ونهاية”، ولكننا نتجنّى على الكاتب، إذا ما وافقنا الدكتور عبد الإله أحمد في قوله: “عن القاص قد تأثر بها في كتابتها مما أفقدها الكثير من أصالتها وتأثيرها”(). إن تأثير خصباك بمحفوظ، مع تعدد مناحيه وتوزعها على الموضوع والشخصيات وتطور الأحداث.. لم يمنع الكاتب من إضفاء نكهة محلية واضحة وأسلوب خاص نستطيع أن نقرأ فيه نفَس خصباك، فبرزت شخصيته فيها واضحة، الأمر الذي يجعنا نرى في القصة أصالة وخصوصية أكثر من أن نرصد تأثراً سطحياً أو تبعية فنية مجردة. والواقع أن اتجاه الكاتب الواقعي وخصوصية تعامله مع الموضوع وطبيعة البيئة التي يمتح الكاتب منها موضوعاته، ساعدته في إضافة تلك المحلية على القصة، دون أن ننسى التجربة الطويلة نسبياً للكاتب التي استطاع خلالها أن يُغني أسلوبه وعالم روايته ضمن خط يبدو أنه قد عمل على إغنائه والإخلاص له من خلال الإخلاص لنه عموماً.
وبعد، فنستطيع أن نقول بأن شاكر خصباك قد وُفّق بشكل عام في كتابة قصة طويلة ناجحة، بل متميزة إلى حد بعيد. كما أنه أبدى مقدرة على التعامل مع موضوع كان بالإمكان أن يطوره ضمن الخط نفسه، لو أنه فعل ذلك بنفَس طويل، ليخلق منه رواية فعلاً.
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …