عشتار التي سمعت كل شيء
قراءة في رواية(سمعت كل شيء) لسارة الصراف
ميسلون هادي
هذه الرواية تشبه شمعة المهر العملاقة التي كنا نراها في حفلات عقد القران.. سنحتفظ بها طويلاً حتى بعد انتهاء الحفل، لأنها أضاءت لنا دروب العراق المتقاطعة، وكيف كانت الحياة تمشي على تلك الدروب في فترة حرجة من تاريخه هي فترة الثمانيات.
سارة الصراف هي حفيدة العلامة العراقي أحمد سوسة، وقد قضت في بيته جانباً من حياتها، بعد استشهاد أمها عالية سوسة في تفجير مبنى الأمم المتحدة عام 2003، ولهذا فإن الرواية تدور أحداثها داخل بيتين من بيوت الأجداد، وتقترب من السيرة الذاتية التي تُروى بصوت واحد، أكثر من اقترابها لفن السرد وتعدد الأصوات الروائية.. ولكنها مع ذلك حققت عنصر الجذب المطلوب بقوة، واستطاعت أن تعطينا إحساس الطفل الذي ينتظر الصباح لأنه على موعد مع ملابس العيد
إنها الثمانينات، وأيام الحزن لا محالة، ولكن المشاعر الطفولية تتجلى بقلم ساحر يسجل كل مايراه ويسمعه، ولا يفوته أي شيء تقريبا مما كانت تشهده الكاتبة في بيت غني، في بيت فقير، في حفل خطوبة، في مأتم عزاء، في المدرسة، على سطح البيت، الحافلات، أناشيد المدارس، أخبار المعارك، طقططقات الكستناء، حكايات العجائز، غرف الضيوف الباردة، رائحة الكيك وقت العصر، فرحة المبيت مع الجدة، رائحة السجاد عند الشتاء، أطباق الفطور في رمضان، مذياع المطبخ، أغاني سعدون جابر، أشعار مظفر النواب، شكرات العيد، الكاهي والقيمر، طقوس يوم زكريا، عطر الغار في النمازبيز، العمليات العسكرية، برامج التلفزيون، نيللي وشريهان، مجلة ألف باء، صوبة علاء الدين، تنانير الطالبات التي تبدو أقصر نهاية الدوام من بدايته، صوت المبردة الأكثر ضجيجاً من باقي الأصوات، وزيارة مقبرة محمد السكران فجر يوم العيد… سنجد أيضاً كيف تمسح السعادة لحظات الحزن، وكيف يتحول الحزن إلى دخان من المشاعر، وكيف تأخذنا الكاتبة مع كل مرحلة عمرية إلى مشاعرها الدقيقة، بحيث نتعرف حتى على محنة طفلة لا تستطيع اجتياز باب البيت الخشبي الذي يؤدي إلى الحديقة، لأن الوزغ المخضرم يحتل موقعه تحت ضوء النيون المستطيل.
ستكون (علمني عليك) لعبد الله رويشد موجودة أيضاً في زمانها الصحيح 1985. و(زعلان الأسمر) لعارف محسن في مكانها الصحيح، حيث تنتهي الرواية مع نهاية الحرب عام 1988
بما أن التبئير هو سمة أساسية من سمات المنظور السردي، ولأن الحكاية تُروى من وجهة نظر الطفلة عشتار، أي أن الكاتبة قد حددت حقل الرؤية عند الراوي وحصرية معلوماته، (يسمى هذا الحصر بالتبئير لأن السرد يجري من خلال بؤرة تحدد إطار الرؤية). فقد انتظرتُ النهاية، لكي أجد المسوغ الفني لانتقال وعي الطفلة إلى وعي عايدة، ووصف مشاعرها الملتهبة في قصة حبها مع الصحفي عباس. وكان يمكن أن يحدث هذا أثناء انتقال عايدة من منزلها في الأعظمية إلى منزل الزوجية في زيونة. حيث يمكن لعشتار أن تساعد في لملمة الأغراض، فتعثر مثلاً على دفتر كتبت فيه عائدة أدق مشاعرها وتفاصيل حكايتها السرية مع عباس.
هذه الملاحظة لا تقلل من الاحتفاء بهذا السفر الجميل الذي انكتب بحساسية حادة عبرت بصدق عن كل الصغيرات والفتيات والبنات، كما أني قرأت هذه الرواية بعد الانتهاء من قراءة رواية لكاتب رجل، فأحسست بالفرق الكبير بين حساسية النساء وحساسية الرجال أثناء الكتابة، فما من رواية نسوية قرأتها، حتى وإن كانت متواضعة، إلا وجدت فيها هذا الحس العالي بالحياة، وهذا الانتباه الشديد لأدق تفاصيلها وجمالياتها. ورواية الكاتبة سارة الصراف هذه ليست متواضعة ولا عابرة في مهب الريح التي اقتحمت مشهدنا الأدبي، ففيها من رشاقة الأسلوب ورهافة المشاعر ما يجعلها تمكث في ذهن القارئ طويلاً، بل وتجعله يتوقف ويتأمل هذه الانتباهات الذكية، التي سجلتها الكاتبة خلال عشرة أعوام بعد بدء الكتابة فيها، وكأنها أرادت أن تستجمع عشر روايات جميلة في رواية واحدة لا تمر أمام القارئ مر الكرام.
شاهد أيضاً
النصف الآخر للقمر
ميسلون هادي مجلة الأديب العدد 2 2025 القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا …