سلوى بكر، عجين الفلاحة

حين تعجن الفلاحة قصصاً
قراءة في مجموعة “عجين الفلاحة” القصصية لسلوى بكر
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث
كلية الآداب – جامعة بغداد
( 1 )
سلوى بكر كاتبة، مع أنها فرضت نفسها على الساحة الأدبية العربية من مدة ليست بالقصيرة لتحقق تأليف ما يقارب العشرين كتاباً قصصياً وروائياً، فإنها لسبب ما سرعان ما انحسرت اسماً وعطاءً قصصياً وروائياً. هذا تحديداً ما أثار يدنا لتناول أحد أعمالها في قراءة استعادية، إن صح التعبير، محاولين في الوقت نفسه الإجابة عما إذا كان بزوغها الأدبي أم خفوت هذا البزوغ هو المعبر عنها، على أن لا تكون إجابتنا هذه صريحة بل ضمنية. نعني بهذا أن تكون قراءتنا هذه لمجموعتها القصصية المعروفة “عجين الفلاحة”() أداة بيد من يريد مثل هذه الإجابة.
لعل أول سمة مشتركة ما بين قصص المجموعة جميعاً تقريباً، هو أن قصصها هذه معجونة بعجينة واحدة، إن صح التعبير. هل هو عجين الفلاحة؟ نعتقد نعم إن كان المقصود بهذا النفَس الشعبي في موضوعاتها مع وحدة الأسلوب. فهي تمحورت فعلاً حول التراث الشعبي والحياة الشعبية وربما صح القول، إن أردنا تحديداً أكثر في الدلالة، الحياة اليومية للمصري أو المصرية. وحين نقول الحياة الشعبية والحياة اليومية فإنما نعني به، في الواقع وبتعبير أكثر مباشرةً، الحياة المصرية، أو لنقل الحياة اليومية للمصري إنساناً ومجتمعاً وحياةً وطقوساً وبيتاً وامرأةً. وهذا ما يمكن لنا أن نتحسسه من القصة الأولى “شال الحمال” التي تعبر عن ذلك من خلال شخصياتها، لاسيما بطلتها وشواغلها البسيطة التي تنم عن بساطة هذه الشخصية المعجونة بالبيئة الشعبية المصرية. ويترسخ هذا التوجه الواعي للقاصة في القصة الثانية “أخبار صغيرة لا تمضي”. ففي هاتين القصتين، وإلى حد كبير في معظم قصص المجموعة الأخرى، نعيش طقوس كل يوم، في البيت المصري، والشارع المصري، والفرد المصري، ولاسيما المرأة، التي وسط ذلك كله تكاد تحتل همومها الفردية البؤرة القصصية لمجمل قصص المجموعة.
هنا من المهم أن لا ننظر إلى الهمّ الفردي/ الإنساني الذي يشكل شاغل البطل أو البطلة في كل قصة، من زاوية نظرنا نحن، بل من زاوية نظر الشخصية نفسها، وإلا فقد يبدو الأمر، إن لم نفعل هذا، سطحياً ومثيراً للاستغراب. وهكذا، حين يشكل حادث اللصوصية الذي يتعرض له أوتوبيس في القصة الأولى، مركز القصة الثانية “أخبار صغيرة لا تمضي”، لا يكون غريباً أن أهم جزيئة في حادثة اللصوصية التي هي عثور اللصوص عند جميع ركاب الأوتوبيس على مبلغ زهيد جداً يكاد يكون مضحكاً، وهو (68) جنيهاً فقط، تكاد تصير ثيمة القصة الثانية التي تصير هنا ذات معنى دال وساخر وشبه مأساوي في القصة الثانية. فأنْ يكون لدى كل ركاب الأوتوبيس الذي نفترض أنهم بالعشرات إلا هذا المبلغ يعني كم هي بائسة أوضاع الناس وكيف يعيشون. ولكن ما هو أكثر بؤساً ودرامياً ودلالةً من هذه الحال الشاذة في القصة الثانية أنْ لا يستغرب أحد من الأمر، ربما إلا من وجهة نظر بطلة هذه القصة، وأنْ لا تجد هذه البطلة مَن يشاركها استغرابها ولا تجد هذا الذي يثيرها يثير أحداً بدءاً من الشغالة، بعد أن تلقاها بحماس لتحكي لها الأمر:
“في صباح اليوم التالي لقراءتي حادثة نشّالي الأتوبيس بالجريدة اليومية، دق جرس الباب، ففتحتُه لأجد قبالتي أم محمد الشغالة تلهث من صعود سلم ستة أدوار حيث أسكن، فقلت لها:
“- ادخلي واقعدي بسرعة يا أم محمد، نفسك مقطوع خالص.”- المجموعة، ص15.
تتلقاها بشيء من اللهفة التي تناسب استقبال سيدة لشغّالتها، لتفرغ في الكلام معها الشحنات التي أثارتها حادثة اللصوص وما وجدوه من مبلغ زهيد حد الإضحاك. أما كيف يصير هذا المبلغ الزهيد، بكل ما قد يحمله من دلالات، مركز القصة وهَمّ الشخصية، فهو حين لا تجد هذه الشخصية من يستمع لموضوعها هذا أو يعطيها أذناً صاغية أو يعير له أهمية، وهي تخبرهم مستغربة عنه، ليعني عندنا كيف أن الناس مشغولون كلّ بهمه بحيث لا يثيره ما يُفترض أن يثيره، ليبدو ما هو مهم ومثير ودال عند بطلة القصة، شيئاً تافهاً أو غير ذي بال، ولهذا ينعدم التواصل ما بين الاثنين.

( 2 )
إن انشغال الشخصيات بما قد يبدو، من وجهة نظر غيرها، شيئاً تافهاً أو عادياً، يكتسب أهمية من خلال أهمية الموضوع للشخصية من جهة، والأهم من بعده الإنساني، ضمن ظرف معين، من جهة ثانية. ولعل أكثر ما يذكرنا هذا بما عُرف عن الكثير من قصص تشيخوف من عنايتها بالأشياء العادية، كما يراها الناس وقد نكون نحن القراء منهم، ولكن مع الدلالات غير العادية لها التي كان تشيخوف يضفيها عليها، وهو بالأحرى وفي حقيقة الأمر لا يضفي عليها هذا بقدر ما ينبهنا إلى أنها هي التي تمتلكه أصلاً. وإذا كانت سلوى بكر تلتقي هنا مع تشيخوف، فإن ما ينقصها في العديد من القصص التي عُنيت بهذا هو أن هذه القصص، إذ تنطوي على لفتات منها إلا أن القاصة كثيراً ما لا تكمل مشروعها- إن صح التعبير- لتخرج منها بما كان يخرج به تشيخوف في لقطات قصصه وحالاتها الإنسانية اليومية. من ذلك مثلاً، قصة “الذهاب إلى حديقة الحيوان”، حيث انشغال البطلة بشيء، وهو الجو الجميل الذي تريد تحقيق شيء يلحّ داخلياً عليها في ظل تأثيره فيها، وهو الذهاب إلى حديقة الحيوانات مع أحد، أي احد، ليشاركها متعتها الصغيرة وتعيش حالة الاستمتاع بهذا الجو معه، لكن الجميع إما إنهم لا يجدون رغبة في ذلك، أو يكونون منشغلين عنها وعن اهتمامها وعن الجو بأشياء أخرى، أو قد لا يأبهون به، بل قد يشكّ البعض بها حين تسأله أن يرافقها للذهاب إلى الحديقة:
“انقلبت سحنة المرأة، ولاح على ملامحها غضب مَن أُهين في شرفه وكرامته، وراحت تنهر (طيف) بعنف قائلة لها إنها سيدة محترمة، بل وهددتها بإبلاغ البوليس، إن لم تبتعد عنها فوراً، فخافت (طيف) وعجزت عن توضيح وجهة نظرها في الذهاب إلى حديقة الحيوان، لأن المرأة سارعت بمفارقتها وهي تسدد إليها نظرات الاحتقار”- المجموعة، ص120.
وحتى حين تجد أخيراً طفلاً يقبل دعوتها ينتهي الأمر بما يؤلم،
“لم تجد (طيف) ضرورة لأن تقول له [طفل] لماذا تريده أن يذهب معها إلى حديقة الحيوان، لأنها شعرت أنه مستوعب تماماً ولا يحتاج إلى كلام في الموضوع… بينما كان يسبغ دفء يده على يدها وتنتعش روحها بروحه الجذلة، التي جعلتها تشعر بسعادة لا حدود لها. ولكن بينما هما يستعدان لعبور الشارع برزت، من نافذة في المبنى الذي جمعتهما الصدفة تحته، امرأة مشوشة الشعر مترهلة الجسد قالت بصوت آمر…
“اطلع بسرعة يا ولد، وإلا والله أنزل وأكسّر دماغك.
“نظر الولد حزيناً إلى عيني (طيف) سحب يده من يدها وانسحب”- المجموعة، ص121.
ولكننا نبقى ننتظر أن تعطينا القاصة ما هو أكثر من هذا، دون جدوى. كما أن مما نأخذه على مثل هذه القصة، مقارنةً بقصص تشيخوف، أنها تسير سريعة، بينما تأتي محاولات بطلة القصة السابقة، مثلاً، في أن تجد من يرافقعها من الشخصيات سريعة وربما مسطحة، مما يُفقد (مشروع) القاصة جل قيمته. ويبدو كأن هذا، وقد سلب شيئاً من أهمية الأبطال والشخصيات الإنسانية، قد قاد الكاتبة إلى أن تقدم بعض أبطالها حيواناً كما في قصة “إذ حلق عالياً في السماء”، وبطلها عصفور، أو حتى نباتٍ كما في قصة “زهرة المستنقع الوحيدة”، وبطلتها زهرة المستنقع، وفي كلا الحالين لم تكن الكاتبة مقنعة، إذ لم تمتلك القصتان ما يبرر أن يكون بطلاها عصفوراً وزهرةً. لعل قارئاً ما يجد تقديم مثل هؤلاء الأبطال حيوانات أو نبات مبرَّراً بالأسلوب الساخر الذي هيمن على جل قصص المجموعة، لكننا لا نجد من علاقة بين الأسلوب الساخر واعتماد مثل هكذا أبطال. أما السخرية والأسلوب الساخر فقد حضرا فعلاً، ولكنهما كانا مقنعين ومبرَّرين لا في هذا الجانب، بل في تعامل قصص المجموعة مع موضوعاتها وأفكارها وقضاياها، ولعل أهمها على الإطلاق قضية المرأة وشؤونها، كما قلنا من قبل، التي تمثلت في العديد من قصص المجموعة. أما أهم هذه القصص فهي قصة “يوم المرأة”، حيث الاحتفال بيوم المرأة في مدرسة بنات وتكون على رأس المحتفلين به ناظرة المدرسة حين تجد أن أهم ما يتعلق بالمرأة هو:
“لازم نعرف كلنا أنه من الضروري أن نكون مهذبين، ألفاظنا محترمة، وأن كلام البيت يختلف عن كلام المدرسة، والألفاظ العيب لا يصح قولها في المدرسة أو الشارع، والبنت لازم تكون مهذبة، صوتها منخفض، ثم عيب مسك نجاسة في جسم الإنسان، والبنت ممنوع أنها تمسك منطقة النجاسة وممنوع تقرب يدها منها مهما كانت الأسباب…”
لتأتي الضربة الساخرة:
“وبينما هي تغادر الفصل لتذهب إلى فصل آخر لتتأكد من أن أستاذه ملتزم بتعليمات الوزارة في يوم المرأة، كانت تفكر في ضرورة مغادرة المدرسة بسرعة لتجهيز الغداء”.– المجموعة، ص83-84.
( 3 )
لقد كان من الطبيعي، إزاء مركزية المرأة وشؤونها وأزماتها، في قصة سلوى بكر، أنْ تغلب البطولة النسائية أو الموضوع النسائي على القصص، وأهمها ما يمكن أن نعبر عنه بانتفاضة المرأة على واقعها. ومن أهم ما يمكن رصده على هذا هو تعبير بعض الأقوال والأفعال وخاتمات القصص عن وجهة النظر الأنثوية، وهنا لا أود أن أقول هيمنة وجهة النظر هذه على جوهر التناول ذاته لما لي على ذلك من تحفظات، خصوصاً وللمتأمل أن يلحظ، إلى جانب هذا (التعاطف) مع المرأة، بقاء النفَس (الباترياريكي) الأبوي، بشكل ما حتى ضمن ما كأنها تحاول أن يكون وجهة نظر أنثوية. ففي قصة “الليل يليق بالعسكري”، مثلاً، يموت أبو ثلاث أخوات، ولأن أباهن من نوع خاص يكاد أن تنتفي عنه صفة الإنسانية في تعامله معهن وفي قمعهن، ولأنهن لم يكنّ قادرات على الرد عليه أو فعل شيء، فقد انتظرن اللحظة المناسبة ليكون ردهن عليه بعد موته، وهو رد من نوع خاص هو الآخر، هو رد بسيط ولكنه دال، وهو دفنه بدون تشييع، ونحن نعرف كم لهذا من معنى وربما ظاهرياً من (قسوة) في مجتمع مثل المجتمع المصري، بل ربما في أي مجتمع. وهو رد برأيي يعبر، في أحد مستوياته، عن أنثوية، حتى وإن اختلفت هذه القصة، من هذه الناحية ونواحي أخرى، عن غالبية قصص المجموعة.
“- قالت الصغرى:
“- إياك تظن أننا عديمات الرحمة، أو بدون مشاعر وأننا نفتري عليه، والله أبداً، لكنه كان معذبنا ومطلّع أرواحنا في الصبح والليل، بالاسم أب، أما بالفعل والحقيقة… وقالت له الكبرى إنهن رغبن في حرمانه من نعمة تشييعه وإيصاله لمقره الأخير معزَّزاً مكرَّماً كبقية الناس. وقالت له الوسطى إن من حرمهن من نعمة الشمس، لا يستحق الدفن تحت الشمس”- المجموعة، ص53-55.
أما “البداية”، فهي قصة المعاناة التي ترتضيها المرأة بسلبية تبعية الزوجة- المرأة- المُطلَقة للزوج- الرجل- في ظل تراكم الهيمنة الباترياركية، قبل أن تنتفض فجأة، وما هي في حقيقتها بفجأة. فما كانت ستحقق القصة الإقناع ولا الواقعية، بل كانت ستبدو متكلفة، لو قامت انتفاضة المرأة فيها على هذا الواقع على النظرة الأنثوية من جهة الكاتبة، وعلى الوعي بهذا من جهة الشخصية نفسها، لكي تنتفض. الواقع أن هذه المرأة كانت بحاجة إلى مثير حدثي مقنع ومحرك لبحيرة واقعها الراكدة المستسلمة له، لتثور على نفسها وعلى واقعها وعلى معاناتها، وكل ذلك ضمن مسار القصة المنطقي، فكانت الثورة مقنعة، خصوصاً حين يأتي المحرك الذي يوصل البطلة إليها متدرجاً لينتهي بضربة قوية، مرة أخرى لتكون النتيجة أنه يأتي مقنعاً.
“كانت [صديقتها] تقول لها مداعبة:
“- أنت يا منى محتاجة تعملي إضراب عن الطعام لمدة سنة حتى يرجع عودك حلواً رشيقاً، وترجع لك الأيام الخوالي.
“شعرتْ لحظتها بحزن، بسبب الأيام الخوالي حيث كانت في بداية شبابها أجمل وأرشق بنت في الحي الذي تسكن فيه مع أهلها، ولكنها ودخلت في دوامة جهنمية، من الحياة الزوجية التي جعلت جسدها يتفلطح تفلطح جسد سمكة بلطية ضخمة، رغم أنها شعرت بضيق من كلام صديقتها لأنها قالت الحقيقة، لكنها حاولت إخفاء ذلك، فقالت لها في زهو إن زوجها حصل على شهادة الدكتوراه، وأصبح أستاذاً في الجامعة، إلا أن صديقتها لم تحفل بذلك، بل راحت تحدّثها عن طفلتها الجميلة، وشقتها الصغيرة التي تملّكتها بصعوبة، لكنها تسعى دوماً لأن تكون جميلة، ثم عن رغبتها في مواصلة دراستها العليا مرة أخرى.”- المجموعة، ص62.
وهكذا حين تأتي اللحظة المناسبة بمحركات خارجية، أهمها تنبيه صديقتها لها وكلامها الموجع وتجاوز زوجها لكل الحدود في اضطهادها، تفقد قدرتها على الاحتمال وطاقتها على السكوت وعلى الرضا بما يقع عليها أكثر:
“لا لم تفعل مثلما كانت تفعل في السابق دائماً، فقد كانت مرهقة متعبة، بلغ السيل الزبى… وبعدها جاءت.. طاخ، لم تأتِ إلى أذنيها، لكنها جاءت إلى رأسه حيث قذفته بتمثال أفروديت الرخامي() الموضوع على تسريحة زينتها… وقعت أفروديت الجميلة على الأرض… بعدما أصابت الزوج الذي طال صوابه فهاجم امرأته كوحش جريح… فاستجمعت هي كبت خمس سنوات زواج عاشها معه، وأنشبت أظافرها في فخذه، الذي طالته. شتمته وشتمت جدود جدوده أيضاً… امتدت يداه محاولة الإطباق على رقبتها، لكنها عاجلته كنمرة جريحة بضربة من قبضتها… انهار وانكفأ على تمثال أفروديت الجميلة يبكي.
“وبُهتت هي لرؤيته على هذا النحو. فلأول مرة في حياتها تراه يبكي. لم تكن تظن أنه من الممكن أن يبكي أبداً. همدت ثورتها، شعرت بالقرف، وبرغبتها في التقيؤ، وبدا لها في ذلك الوضع مثلما يكون أثناء مضاجتعها. زاد حقدها عليه لأنها تذكرت أنه عندما ينال لذته منها يدير ظهره لها ويشغل سيجارة يلتهم دخانها بتلذ، ثم ينكفئ على وجهه مرة أخرى لينام ويعلو شخيرة.

“جرت خارجة من حجرة النوم، خلعت خفها المنزلي الخفيف، سحبت حذاءها من دولاب الأحذية بالمدخل، حررت شعرها من مشبكه واتجهت إلى باب الشقة في هدوء، فتحته وخرجت لتصفقه بعنف، امتزج صوته بصوت دقات الساعة التي كانت تعلن انتهاء ساعة أخرى.”- ص63-64.
ومع وضوح أن لكل ما في القصة، من مجريات وحوادث وعلاقة وحوار ومثيرات، دلالات غير عادية لاسيما في تعلقها بالرؤيا الأنثوية، فإن خاتمتها بالتحديد مهمة وذات دلالة غير عادية في هذا السياق. وتعلقاً بالأنثوية، وحيث سبق لنا أن أشرنا إلى مركزية المرأة شخصية وموضوعاً وقضيةً، في قصص المجموعة، نقول: ليس شرطاً أن تتجسد هذه الأنثوية في النظرة إلى المرأة أو شؤون المرأة، وإن كانت الهيمنة لها، بل ربما نجدها في أي شأن آخر.
( 4 )
ولعل أهمية قضية أو قضايا القاصة في مجموعتها أكسبت وجهة النظر أهمية خاصة، سواء أجاءت من خلال ضمير المتكلم أم ضمير الغائب، مع أهمية الأول أكثر، كما في القصة الثانية “أخبار صغيرة لا تمضي”، حيث القص بضمير المتكلم، أو المتكلمة، وعلى لسان القاصة أو الراوية أو البطلة انطلاقاً من سماعها بخبر سرقة الأتوبيس التي كانت موضوع القصة الأولى. فقد تمثّلت إحدى نتائج السرقة التي لم ينتبه إليها الكثيرون، كما رأينا، من خلال وجهة نظر معينة، هي وجهة نظر هذه البطلة، وأكثر من هذا أن وجهة النظر هذه هي بشكل ما ثيمة القصة وموضوعها. ولكن إذا كانت أهمية كل من ضميري المتكلم والغائب تتقاربان، فإن عيباً في الثاني جاء، لا منه هو ذاته، بل من كونه غالباً ما جاء من خلال الراوي العليم بكل ما يحمله عادة من عيوب. والمشكلة مع ضمير الغائب عند القاصة، أنه حتى حين لا يكون عليماً في الأصل، فإن العليم قد يتسلل أحياناً، ولا ندري إن كان بمعرفة الكاتبة أم بخلسة وبغفلة منها، وفي الحالين نعتقد أنه لم يكن مقنعاً، بل ربما مخلّاً بالقصة في بعض الأحيان. وهكذا كان الراوي بالضمير الغائب، في قصة “شال الحمال” مثلاً، يتنقل بشكل غير مقنع بين وعي شخصياتها، وإن لم يصل حد الإخلال بها. أما راوي قصة “الليل يليق بالعسكري” فمع أنه غير عليم عموماً، فإن الراوي العليم سرعان ما يدس بأنفه، بوعي من الكاتبة أو بدون وعي منها، ليُخل هذه المرة به القصة، بينما سلب الراوي العليم، في قصة “عجين الفلاحة”، الكثير مما كان يمكن للقصة، وهي من النوع الذي يُعنى بهموم فردية ويقوم عليها، أن تحققه وتمنحه.
موضوعياً نقول ربما أن طبيعة الموضوعات وما يُراد أن يُقال عن طريقها، كما ربما عبرنا ضمناً عن ذلك، تبرّر بدرجة ما استخدام الكاتبة للراوي العليم. فهي في الواقع صور أكثر منها موضوعات، وربما قلنا إنها أحداث وصور أو شخصيات تقدَّم من خلالها صورٌ هي تحديداً ما تريد القصص التعبير عنه. ومع هذا فنحن لا نقتنع كلياً، في النتيجة، بهذا الراوي، وقد هيمن، أكثر مما يجب، على العديد من قصص المجموعة وهو أمر غير مفهوم. هل هي سرعة من القاصة في الكتابة؟ أم هي سرعة في تطور الأحداث وجدَتْها القاصة أنسب لقصصها ليكون، في النتيجة، إيقاع معظم القصص سريعاً، ونادراً ما كان مقنعاً، وغالباً ما لم يكن كذلك، خصوصاً حين يرافق ذلك ما نراه بساطة أو تبسيط للموضوعات وللتعامل معها ولتجسيد ذلك قصةً، وهو التبسيط الذي يصل، من وجهة نظرنا، حد التسطيح تقريباً، كما في قصة “يوم المرأة” مثلاً، وقصة “زهرة المستنقع الوحيدة” التي يبدو لنا موضوعها موضوع قصة أطفال أكثر منه موضوعَ قصة عادية، خصوصاً حين تأتي لغتها إنشائية. فالواقع أننا حين نأخذ اللغة مستقلةً عن كونها لغة قصة، فإنها تبدو لغة مقنعة بطراوتها وشفافيتها اللتين تتمثلان حتى في العامية التي قد تستخدمها في الحوار. ولكن تصير أحياناً إنشاءً، تتجاوز القاصة بها الحدث أو القضية أو لنقل الموقف الذي خلفهما، حين لا تعمّقه، وهذا، برأيي، ما قد يصيب القصة مقتلاً ربما تحقق فعلاً في بعض القصص، ووقع جزئياً فقط في بعض آخر، بينما كان مهدَّداً دوماً لعموم القصص.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *