زناجيل وتشابيه وطقوس أخرى
ميسلون هادي
الفرق بين الدين والتدين ظاهرة موجودة في كل بقاع الأرض وأينما وجد الإنسان على وجه البسيطة، فهي تتغير وتتبدل مع تفاعل الإنسان مع محيطه، وتنتقل معه عبر الزمان والمكان، فتتطور عادات جديدة ويطوي الزمان عادات أخرى قديمة، وهكذا الأمر دائماً في كل الأديان والعبادات. ولكن مما يلاحظ على التدين الشعبي في العراق تمسكه بمراسم وطقوس آن الأوان لتشذيبها وإعادة النظر فيها ولأنْ يقوم رجال الدين بمراجعتها والتخلي عن المبالغات التي طرأت عليها والتي تثير الجدل والاعتراض لأنها تتنافى مع إيقاع الحياة العصرية التي يعيشها المجتمع.
إن طقوس عاشوراء تتضمن ملامح مضيئة وجميلة للغاية تشيع الألفة والتراحم بين الناس، منها مثلاً الطبخ في البيوت وعلى نواصي الطرقات، وقد كان الجيران السُّنّة يتلقون من الجيران الشيعة في المحلة الواحدة الأطباق المشهورة لهذه المناسبة كالهريسة وشوربة زين العايدين والقيمة وحلاوة الزردة بالحليب، وكان بعض الزملاء من الأدباء والفنانين يقومون بالواجب، فتذهب (قيمة) بغداد من بيت مقداد عبد الرضا إلى بيت يوسف العاني، و(قيمة) النجف من بيت زهراء الصراف إلى بيت ماجد السامرائي، و(الهريسة) من بيت عبد الستار البيضاني إلى بيت رعد عبد القادر، وهذا ما كان عليه الحال قبل أنْ تتقطع أوصال بغداد ويتمترس أهلها في مناطق التقسيم الطائفي.
الطقس الجميل الآخر من طقوس التدين الشعبي هو التشابيه، والتشابيه، لمن لا يعرفها من الأخوة العرب، هي مسرحيات تعيد تمثيل واقعة الطّف التي استُشهد فيها الإمام الحسين عليه السلام وأهله قرب كربلاء، حيث يقوم كادر من الممثلين الهواة بأداء الشخصيات التي شاركت في هذه الأحداث هذه ما عدا الشخصيات التي تتسم بالقداسة ويشار لها بالرموز. وهناك من يروي الأحداث بطرق تراجيدية تقطّع نياط القلب ويرتفع لها النحيب، وأكثر من يتلقى اللعنات هو الشمر بن ذي الجوشن الذي استشهد الإمام الحسين على يديه الآثمتين وعادة ما يرتدي اللون الأحمر، ربما لكي تميزه الجموع ويشبعوه ضربا!
إن التركيز على هذه المظاهر الجميلة ونبذ الغلواء منها، كضرب الزناجيل (السلاسل الحديدية) وشج الرؤوس، يمكن أن يحول هذا الطقس إلى مهرجان عالمي جميل تحضره الوفود وتعرض فيه التشايبه على شكل مسرحيات، ويقام فيه الطبخ بطرق جذابة وعصرية، وكل ذلك دون أن يفقد ذلك كله بُعده التعبّدي الضروري بالطبع. أما اللطم وضرب الزناجيل فيمكن أن يتحول من الظهور والصدور إلى الآلات والأناشيد. وإذا لم أكن مخطئة فإن إيقاع الزناجيل عندما تستخدم في القراءات الحسينية هو من الشجن بمكان بحيث يصلح لأن يثير الأسى والاعتبار دون الحاجة إلى اللطم والدم وشج الرؤوس والخمش على الخدود. ويذكر لنا التاريخ أن الفاطميين عندما حكموا مصر أرادوا تغيير هذه الصورة النمطية عن الشيعة، فأدخلوا كل مظاهر البهجة إلى الحياة المصرية والكثير من المناسبات، والموالد التي يحييها المصريون في الوقت الحاضر تعود أصلها إلى العهد الفاطمي. بل أن بعض مؤرخي المسرح يرون أن بذور المسرح بدأت بالظهور قي العهد الفاطمي من خلال ما يسمى بالمهرج والحاوي اثناء الاحتفالات والمواكب الخاصة بالخلفاء.
لقد أخذ العراقيون حصتهم ثالثة مثلثة من الدم والغم والمآسي، ويستحقون مظاهر الحياة الطبيعية، مثل باقي عباد الله. أما تخليد هذه المناسبة العظيمة فيستحق الاحتفال بها بطريقة هادئة ووقورة هي الأثمن والأنفع لتضميد الجروح.