زكريا تامر
والكتابات القصيرة جداً
د. نجم عبدالله كاظم
(1)
تكمن معرفة أي جنس أو نوع أو شكل أدبي والإحاطة به في الرجوع إلى ما ورد فيه من تعريف وتقريب مفهوم وتنظير أولاً، وفي الإطلاع على نماذج مما ينطوي تحته وتحليلها، خصوصاً إذا كان هذا الجنس أو النوع أو الشكل جديداً، أو كان مما جمع بين أكثر من جنس أو نوع أو شكل أدبي، أو مما جاء وسطاً بين بعضها وبعض آخر أو تفرع منها. والقصة القصيرة جداً هي واحد مما ينطبق عليه هذا. فبداية لا نكاد نجد لهذا المصطلح أو التعبير تعريفاً أو مفهوماً واضحاً أو صريحاً في مصادر المصطلحات والأجناس أو الأنواع الأدبية والنقد الأدبي الإنكليزية منها والعربية. ولهذا يكون من الطبيعي أن نتّجه إلى الأقرب إلى هذا المصطلح مما يمكن أن نجده أو نجد ما يقترب منه أو يشير إليه أو يرتبط به بوشائج من تعبيرات ومصطلحات ومفاهيم أخرى، ونعني مفهومي (القصة) و(القصة القصيرة)، يقول جوزيف شبلي، في معجمه القيّم (معجم المصطلحات الأدبية العالمية)، في تعريف (القصة): “هي عادة عرض لصراع، بين قوتين في حالة نزاع، وغاية”([1])، وبأخذ هذا المدلول، بنظر الاعتبار تكون “القصة القصيرة قصة تتسّم بالقصر مما يعني اختلافها عن الرواية في البُعد الذي أسماه أرسطو (بالحجم)”([2])- وهو، نعني (الحجم) كما أسماه أرسطو، فرق يستتبع فروقاً وسمات وجوانب اختلاف أخرى بالطبع.
ولا نبتعد، في أدبيات النقد في مختلف الآداب ومنها العربية، عن هذا المفهوم. وإذا كان هذا هو مفهوم القصة القصيرة من خلال سماتها الأساسية، فإن الـ (جداً) المضافة إليها في (القصة القصيرة جداً) إنما هي شكلية إلى حدّ كبير، وفي معناها تعني زيادة في القِصَر، ولا تضيف إليها ما يجعل منها نوعاً مستقلاً. ومن الإشارات والمعالجات القليلة التي تقودنا إلى هذا وإلى تحديد أكثر وضوحاً لمدلولها ما نجده في النقد الأمريكي والتجربة الإبداعية الأمريكية الذي لا يبعدنا عمّا نحن فيه، وهو ما يبدو أن يوسف الشاروني مثلاً في الأدب العربي قد كان واعياً إياه، وهو يطلق تعبير (قصص في دقائق) على بعض كتاباته([3])، وبما يعني أنها تُقرأ في فترة قصيرة جداً؛ وهو الهدف الذي عبّر عنه الناقد الأمريكي وايت بالقول بأنه يريد ببعض ما كان يكتبه قصصاً تُقرأ أثناء انتظار سيارة الأجرة([4]).
ويتضح من الرجوع إلى تطور القصة مصطلحاً ومفهوماً ومنجزاً إبداعياً أنْ قد كان هناك دوماً ما يمكن أن يُسمي، بحقّ أحياناً وبتجاوز نسبي أحياناً أخرى، قصصاً قصيرة؛ لكن شيئاً من هذا لا يعزز ما يسمى بـ(قصص قصيرة جداً) إلاّ بصورة ضيّقة لا تمنحها حدوداً تستغل بها، وغالباً ما كان ذلك هامشياً فقط، ومن خلال سمة أو اثنتين -بالتحديد القِصرَ والتكثيف- هما في حقيقتهما ودلالاتهما من سمات (القصة القصيرة) أصلاً- فهذا ابرامس يقول: “يجب أن نتذكر أن الاسم [القصة القصيرة] يغطّي تنوّعاً كبيراً من القصص النثري وعبر امتداد يبدأ بالقصة القصيرة جداً[أو القصيرة القصيرة]، والتي هي عبارة عن حكاية أو نادرة محكمة إلى حدّ ما مكونة ربما من (500) كلمة، وينتهي بأشكال طويلة معقدة، مثل (دورة اللولب) لهنري جيمس، و(قلب الظلام) لكونراد… والتي يشار إلى منزلتها الوسطى طولاً بين تكثيف القصة القصيرة وسعة الرواية باسم (الرواية القصيرة).”([5]). وإذا كانت هذه المفاهيم قد اعتمدت غالبيتها، إلى جانب الطول أو الحجم، عناصر أخرى تتوفر لهذا النوع أو ذاك كالقصة القصيرة والرواية، فإن شيئاً من هذا لا ترد له إشارات واضحة عما يسمّى بـ (القصة القصيرة جداً).. ونشير هنا إلى أن كتابات ناتالي ساروت التي يتكئ عليها كتاب القصة القصيرة غالباً لا تنطوي تحت أي من التعريفات والمفاهيم مثل ترنتول وايت تتراوح في أقصر نماذجها بين (500) و(1500) كلمة، “وانسبها للنشر أن تكون في ألف ومئتي كلمة)([6])، مما يعنى أن جل ما يُكتب عندنا على أنه قصص اعتيادية هو -طولاً على الأقل- مما عناه الناقد وايت وبعض النقاد الغربيين بـ (القصة القصيرة جداً) والتي ترجمها البعض إلى (الأقصوصة)، وهذا يضعنا في النتيجة في حيرة أمام النماذج الكثيرة التي تقلُ أطوالها عن ذلك بكثير لتصل الواحدة منها أحياناً إلى بضع عشرات من الكلمات، والتي تنشرها الصحف بشكل خاص. وإذا كان بعض هذه النماذج قد حاكى كتابات ساروت، فإننا يجب أن نثبت هنا أن كتابات ساروت هذه، التي كانت قد ظهرت في سنة 1938 في كتاب تُرجم إلى العربية ونشر في سنة 1971 بعنوان (انفعالات) لم تتخذ لها هوية دقيقة وواضحة، ويبدو أن العنوان الثانوي (قصص قصيرة جداً) قد أضافه إلى العنوان مترجمها الذي لم يكن أمامه، مع هذا، إلا أن يقول: “أمّا (الانفعالات) فيمكن إدراجها تحت بعض أنواع الخلق الأدبي المعروفة كالقصة والشعر الحر”([7]). وعلى أية حال، أن مراجعة لنماذج من هذه المجموعة تكشف لنا عن أنها عبارة عن صور ومواقف قد تبدو أحياناً مقتطعة عن مجرى حياة مجموعة بشرية غالباً، ليس لها بدايات، بل أنك تحسّ وأنت تقرأ أول كلمة أو جملة في (القصة) أنك قد بدأتها قبل ذلك. وإذ لا تمتلك الواحدة منها بداية، فإنّها لا تنتهي عادة أيضاً مع آخر كلمة تقرأها فيها، كما لا يمكن لك أن تقدر لها نهاية، ولربما يرجع ذلك إلى كونها صوراً ومواقف -كما قلنا- وليست أحداثاً أو خطوطاً حديثة، بمعنى أنها تفتقد الصراع والأزمة وبالتالي الحبكة والتطور الدرامي، لتنفصل بذلك عن (القصة) بمفهومها الإصطلاحي والنقدي. ولا يمكننا بالطبع أن نطبق هذه التوصيفات على كل ما كُتب عالمياً مما اختُلف عن تسميته وتوصيفه من الكتابات القصيرة التي ترتبط بوشائح، قد تقوى وقد تضعف، بفن القصة. وأمام تواضع هذه الموجة من الكتابات انتشاراً، ومع عدم استقرارها حول مصطلح واضح ومسلّم به، فإنها قد طالت الأدب العربي حين انجرّ بعض كتّابه إلى التجريب فيها ملتقين مع بعض نماذجها أحياناً ومنفصلين عنها في أحيان أخرى، مع ما يشبه الاتفاق بين أغلبهم على تسميتها (بالقصص القصيرة جداً)، ولعل أبرزهم: زكريا تامر ويوسف الشاروني ووليد إخلاصي وعلي خيون ومحمد المخزنجي وفؤاد حجازي، وغيرهم كثيرون، بل ربما أمكن القول إنه قلّ من كتّاب القصة من لم يكتب قصصاً قصيرة جداً كهذه ويجب أن نشير هنا إلى أن الكثير من النماذج التي كتبها هؤلاء الكُتّاب وغيرهم يشتمل على سمات تشترك فيها مع (قصص) ساروت وتجارب قصصية أخرى وأشكال غير قصصية، شعرية مثلاً، وربما صحفية تأتي استجابة لمتطلبات الصحافة.
في ضوء هذا، وفي ضوء اضطراب التجربة وتشتّت التجريب فيها وقصور المصطلح المفترض عن أن يضوي تحته كل الأعمال المعنية بدون مأخذ وتحفظات، لم يكتب أي من هؤلاء القصاصين العرب البارزين تميّزاً مطلقاً. بعبارة أخرى يمكن أن نقول، وبسبب هذا، أن هناك قصصاً متميّزة أكثر من وجود قصاصين متميزين. ولذا، ومع مهارة زكريا تامر الفنية ووعيه الفكري وتجربته الحرفية الغنية، لا تكاد تجد ضمن العديد من قصار قصصه ما هو متميز في جودته وفنيته وفي امتلاكه لمقومات القصة إلاّ عدداً محدوداً، كما يبدو ذلك واضحاً مثلاً في مجموعته (النمور في اليوم العاشر) الصادرة في طبعتها الأولى في سنة 1978، إذ برزت منها ممتلكة مقومات القصة عموماً ومقومات هذا الشكل بصورة خاصة، ثلاث قصص أو أربع فقط. ولكن لأهمية الكاتب فنّاً وفكراً وتجربة، كما قلنا، ولتميز هذه القصص الثلاث والأربع بالذات تميّزاً يضعها أو يضع بعضها بين أبرز ما جاءت به أقلام القصاصين العرب في هذا الميدان ويجعلها صالحة لأن تكون نماذج تحليل وتفحّص واستدلال على هذا الشكل من الكتابة وتوصيفها، يكون من المفيد نقدياً التعرض لهذه النماذج([8]).
(2)
إن من أكثر الموضوعات أو الميادين إغراءً لزكريا تامر هو الموضوع أو الميدان السياسي الذي يخوض الكاتب فيه بامتلاك تام لكل مفرداته منقولة إلى خطاب إبداعي يعبّر من خلاله بوعي ودراية غير عادية عن أحلام، هي كثيراً ما تكون أحلام (الصغار)، أو الصغار شكلياً وظاهرياً، أي عامة الناس، أو لنقل من يمثلون الفرد العربي البسيط الذي يشكل غالباً الأرضية التي ينطلق منها الكاتب، في مواجهة قوى الشّر المتمثلة تراجيدياً في الحياة وعلى أرض الواقع بالسلطات والحكام. وإذا لم يكن زكريا تامر مُضطراً إلى تقديم التسمية أو إلى التعتيم، فإن التعتيم الاختياري أو غير الاختياري الذي يلجأ إليه -بشكل رموز مثلاً- لا يسلب شيئاً من القصة، لا فنّاً ولا موضوعاً ولا غاية ولا إيصالاً، لأنها أشمل في دلالاتها، فتكون القصة لديه في مجراها وفي ضرباتها لاسعةً، ويستدل متلقّيها، من خلال الكثير من نقاط دلالاتها ورموزها وإشاراتها ولسعاتها على أهدافها التي هي عادة نماذج إنسانية -الملوك والسلاطين ورموز القمع- أو أفكار القمع والدكتاتورية وسلب الحريات. ويبدو أن هذا كله لهو أكثر ملاءمة للشكل، القصير جداً من الكتابة، فجاءت نماذج تامر من القصص القصيرة جداً، والتي اتخذناها مادة للتناول التطبيقي هنا، ذات طرافة في محتواها الظاهري ولسع في ضرباتها ونهاياتها، وقوة إيصال في خطابها. فمن خلال ذلك كله تكون عملية الإيصال التي يبغيها زكريا تامر أيسر تحقيقاً حتى في تلك النماذج التي تبدو غامضة بهذا القدر أو ذاك، وهو ما يتلاءم مع طبيعة موضوعات قصصه التي تنطلق من الميدان الذي يفضل الخوض فيه، نعني عالم السياسة، خصوصاً حين يواجه هذا العالم بالنقد الحاد، كما تجسّد مثلاً في (الأسرى) و(الذي أحرق السفن) أو حين يتعرض لسوداويته كالواقع وهو يريد الجانب المشرق الذي يتضمّن الأمل في أن يشعّ يوماً كما في قصة (الصغار يضحكون) التي ندرج نصّها في نهاية هذه الدراسة، إّذ نجدها واحداً من أكثر النماذج تمثيلاً لقصص الكاتب القصيرة جداً. وتعلّقها بهذا فإن زكريا تامر، حتى حين يتعرض إلى الجانب المظلم أو القائم من دون تلميح أو إشارة صريحة إلى الجانب المشرق من العالم أو الواقع من حوله فإنه يتعرض له بما يوصل للمتلقي ضمنياً إدانة له، خاصة حين يكون ذلك عن سيادة الدكتاتورية والقمع وفقدان الديمقراطية والحرية.. إذ “في أدب زكريا تامر يتوقد دائماً بحث دائب عن الحرية: تلك الحرية التي ترهقها وتزهقها هراوات الشرطة وبذرة الخوف الكامنة في نفوس البشر الضعفاء الذين يسقطون سقطات تراجيدية واحداً تلو الآخر”([9]). وإذ يصح هذا على الكثير من قصصه، فإنه ليبدو، مرة أخرى، أكثر ملاءمة للقصص القصيرة جداً من خلال ما توصله من لمحاتها وضرباتها التي تتركك مع تداعي أفكارك واستنتاجاتك وربما حتى بناء أفكار على ذلك كما تفعل مثلاً (الأسرى) و(وسام للمنقذ) و(أولو الأمر)، وأيضاً (الصغار يضحكون)، مع أن الأخيرة هي أكثر تصريحاً من الأخريات، خصوصاً أمام الضربات التي تترك لك-كما قلنا- وإزاء اختفاء التصريح بشيء واضح، تحقيق الفهم والتأويل وتبنّي الرؤى. وفي كل الأحوال لا يصل أمر القصص القصيرة جداً، في ذلك، الغموض الذي هو واحدة من سمات أدب زكريا تامر، إلاّ بشكل جزئي، ولكنه مهم ويُضفي على هذه القصص غنىً إضافياً وقدرة على الإثارة والإنارة والإمتاع. أما لماذا كان هذا الغموض في عموم قصص الكاتب؟ فإن الكاتب يجيب على ذلك بنفسه إذ يقول:
قبل كل شيء فلنحدد مسلّمة صغيرة هامة هي أن الغموض هو أحد مقومات العمل الإبداعي الجيدة… وبالطبع قد تكون وراء الغموض دوافع متعددة تتراوح بين إغناء العمل الواحد بعدة مستويات تفسيرية أو بين تمرير بعض الأفكار السياسية… هناك (تابو) ثلاثي يحيط بكل جوانب حياتنا، بما فيها الأدب، ويتمثل في محظورات الدين والجنس والسياسة. رغم ذلك فهذه المحظورات ظلّت محور اهتمام القصة والأدب لأنها محور الحياة. هذا التناقض، إضافة لنزعة التسيس العامة الشائعة، أصبحت تؤدي شعورياً أو لا شعورياً إلى تغليف الأمور وتمويهها.. [و] بشكل عام، اعتقد أنه إذا كان القناع سميكاً إلى حدّ يمنع وصول الفكرة الجريئة إلى القارئ المتوسط، فمن الأفضل ألاّ يكتب العمل. أمّا إذا كان القناع رمزياً، فنياً، يعمّق أبعاد رؤيا، فهذا من دواعي تفوّق العمل”([10])
ونرى، بخلاف ما قد يراه البعض، أن قناعاً سميكاً كالذي يشير إليه زكريا تامر هنا لم يغلّف أيّاً من أعماله، بل ولربما أبحتُ لنفسي القول أن (أقنعته) و(رموزه)- ولنقل (غموضه)- هي كلها دون حتى اقترابها من ذلك.. هي تكتفي بأن تكون حافزاً لتحريك القارئ وإثارة تفكيره، لتتركه القصة بعد ذلك وقد زرعت في ذهنه شيئاً لا ينتهي مع نهايتها، وبل وربما تمتد إلى ما بعد ذلك زمنياً وإلى الواقع من حوله مكانياً، واعتقد أن واحدة من غايات تامر (الرئيسة هي هذه، وهي ما نراها في إطارها العام من مقوّمات القصة القصيرة جداً. ولذا فإن الكاتب حين ألحّ أحياناً في كتابة نماذج شديدة القصر قد أفرغها من هذا المقوّم وإخراج هذه النماذج بذلك من أن تكون قصصاً حقيقة، بل وأفرغ أشباه القصص هذه من أبعاد خطابها الإبداعي الفنية ومن رسالتها التي نظن أن الكاتب يريدها أن تصل القارئ، ونظن أن القاص كان يمكن له أن يحقق ذلك كله لو أنه مدّها طولاً وشكلاً ليتمكن بذلك من أن يضمنها ما تفتقده، ولكنه لم يفعل ذلك فجاء بعضها أقرب إلى الخواطر مثل (البطل) و(الحب) و(الجريمة)، أو الطرف مثل (الثأر) و(رجال)، أو الأفكار غير النامية مثل (الجنة) و(خطبة)…
ونحن هنا لا ننكر القِصَر سمة من سمات (القصة القصيرة جداً)، خصوصاً بعد أن ثبتنا في مقدمة دراستنا هذه السمة لهذا الشكل القصصي، ولكن القصر يجب أن يعني أيضاً التكثيف الشديد وليس الاقتطاع واجتزاء الأفكار والمواقف التي لا تتيح لها الكلمات أو الأسطر القليلة أن تقدم لقارئها شيئاً. ومن هنا كان أن وجدنا هذه النماذج غير الناضجة وغير المكتملة فنياً، تفتقد سمة أخرى من سمات القصة القصيرة جداً مما استطاع تامر أن يتوفر عليها في نماذج أخرى، تلك هي (الضربة) التي تنتهي بها القصة وتؤدي إلى تحريك ذهن القارئ وإثارة تفكيره -كما قلنا- من جهة، وإلى مدّ القصة فكرةً ومحتوى ورسالة وعبر شفرات هذه الضربة إلى ما يعد نهايتها اللفظية من جهة ثانية. وأمام هذه المآخذ نقول، ونحن نختم دراستنا، أن زكريا تامر قد قدم ضمن ميدان القصة القصيرة جداً نماذج ستبقى ضمن الأفضل والأكثر تميّزاً مما ذكرنا بعضاً منها سابقاً مثل (الذي أحرق السفن) و(المجنون) و(لا) و(الأسرى) وقصة (الصغار الذين يضحكون) التي اتخذناها نموذجاً نصّياً على هذه القصص، إذ إضافة إلى أنها تمتلك ما تمتلكه القصص الجيدة الأخرى من قدرة على الإيصال ومن تأثير المفردة والفكرة من إيماءات يريدها الكاتب ولا يصرّح بها، تتميّز عنها أيضاً في كونها تُبنى حول حدث له بداية وامتداد، مع تواضع طول هذا الامتداد طبعاً- ونهاية، وفي حملها لما هو أبعد من حدودها اللفظية. وإذا لم تكن هذه القصة بالذات (حالة) كما هو شأن بعض النماذج المتميّزة الأخرى مما يذكرنا بانفعالات ناتالي ساروت، فإنها تنطلق من (حالة) تُوحي بها القصة، وليست صريحة؛ وقراءة هذا النموذج في أدناه تمكننا من تحسس ذلك بيسر، كما تفعل بالنسبة لعموم المقومات الأساسية للقصة القصيرة جداً التي استطاع زكريا تامر أن يجعلها أسس معمار المتميّز من قصصه.
(3)
نموذج من قصص زكريا تامر القصيرة جداً
الصغار يضحكون
“شاهد الملك يوماً عدداً من الأولاد يلعبون في أحد الحقول ويضحكون ويمرحون، فسألهم: “لماذا تضحكون”. قال أحد الأولاد: “أنا أضحك لأن السماء زرقاء”، وقال ولد ثان: “وأنا أضحك لأن الأشجار خضراء”، وقال ولد ثالث” وأنا أضحك لأن العصافير تطير”.
فنظر الملك إلى السماء والعصافير والأشجار، فألفاها لا تضحك، فاقتنع بأن ضحكات الأولاد لا هدف لها سوى الهزء بهيبته الملكية، فعاد إلى قصره، وأصدر أمراً بمنع أهل مملكته من الضحك، فأطاع الناس الكبار السن وكفوا عن الضحك، غير أن الأولاد الصغار لم يبالوا بأمر الملك وظلوا يضحكون لأن الأشجار خضراء والسماء زرقاء والعصافير تطير”([11]).
[1] (Joseph Shipley: Dictionary of World literary Terms 1979, p 312
[2]) M. H. Abrahams: A Glossary of Literary Terms 1981, p 176.
[3] ) ينظر باسم عبد الحميد حمودي: القصة العراقية القصيرة جداً، الأقلام، ع 10 و11، ص271.
[4] ) ينظر مجموعة: فن كتابة الأقصوصة، ترجمة كاظم سعد الدين، 1978، ص5-13.
[5] ) Abrahams, p177.
[6] ) فن كتابة الأقصوصة، ص7.
[7] ) ناتالي ساروت: انفعالات، ترجمة وتقديم فتحي العشري، 1971، ص12.
[8] ) هه الفقرة (1) من الدراسة هي خلاصة لجزء من دراسة أعددناها عن (القصة القصيرة جداً). انظر: د. نجم عبدالله كاظم: في الأدب المقارن.. مقدمات للتطبيق، دار أسامة للنشر، عمّان، 2001، ص28-44.
[9] ) رياض عصمت: الصوت والصدى، 1979، ص71.
[10]) المصدر السابق، ص79.
[11] ) زكريا تامر: النمور في اليوم العاشر، 1978، ص15.