رواية رغوة سوداء – حجي جابر

رواية “رغوة سوداء” لحجي جابر
هوية أم هويات
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
نعتقد أن هناك العشرات، بل ربما المئات، من الروايات العربية الصادرة في العقد أو العقدين الأخيرين التي تستحضر أو تستحضر الشخصية اليهودية، بشكل أو بآخر. وإذا لم يكن هذا مثيراً أو خارجاً عن المألوف والطبيعي، فإن ما يبدو لنا خارجاً عن المألوف وخارجاً عن الطبيعي فعلاً هو حضور (اليهود اليهودي واليهودية) شخصيةً وديناً وألفاظاً في عناوين العديد من تلك الروايات، الأمر الذي جعل الأمر يقتر من يكون (موضة) ركبها العديد من الروائيين، بمن فهيم الجادون، خصوصاً حين اقترن ذلك، في عدد ليس بالقليل من تلك الروايات، بافتعال واضح، ولأسباب وغايات عديدة لسنا بصدد التوقف عندها هنا. الروائي الإرتيري المتيز حجي جابر أحد هؤلاء الذين خاضوا في هذا، في روايته “رغوة سوداء” ولكنه لم يقع في فخ (الموضة) والافتعال، بل انطلق من واقع ليس ببعيد عنه جغرافياً، ونعني تحديداً موضوع هجرة أو تهجير يهود الفلاشا من أثيوبيا إلى إسرائيل، ليُعنى، في رواياته، ربما بحقيقة الهوية اليهودية مع تلك الجماعة وفي ذلك الفعل. ولكن هل نجا من تبعات هذه الموجة؟ هذا ما سنراه في تحليلها النقدي الموجز لروايته.
تبدأ رواية “رغوة سوداء”- دار التنوير، بيروت، 2018- بخمس حافلات، في أديس أبابا، ممتلئة بركّاب لا يبدو وضعهم طبيعياً تماماً، يعزز ذلك أنها محاطة بسيارات شرطة وأناس، ولكن هؤلاء الركاب كانوا مبتهجين بتوجهم إلى ما لا نعرف من أين ولا إلى أين. وسرعان ما نجد أنفسنا في وعي رجل في إحدى الحافلات، كان مضطرباً، وهو يبدأ يسترجع كيف أنهم قدموا أمس من غوندار- عاصمة الحبشة قديماً- إلى أديس أبابا كمحطة للانطلاق منها نحو الوجهة الأخيرة التي لا تنشكف لنا قبل ظهور حاخات يقرؤون على الركاب في أوراق بأيديهم، لنستنتج أنْ تكون الوجهة الأخيرة إذن إسرائيل. وسيؤكد ذلك، بعد قليل، أناس غاضبون يحيطون بالحافلات يحاولون منعها من المغادرة، وهم يردّدون: خذونا معكم فنحن يهود أيضاً، وهم يلعنون المرتشين، بينما يواصل الحاخامات في الحافلات القراءة والتبشير بالحياة الرغيدة في إسرائيل. ثم يتذكر الرجل امرأة ودّعته في مكان ما وفي وقت ما، وقد بدا، في تواصل اضطرابه، متردّداً وحزيناً وربما خائفاً، في الحافلة ثم في الطائرة ووصولاً إلى المطار في إسرائيل. وعندما يطلب الضابط الإسرائيلي منه، هناك، إزاحة القماشة البيضاء عن رأسه تماماً تصرخ امرأة بأن هذا ليس منهم فهو ليس يهودياً.

( 2 )
إنّ تذكّر الرجل (دوايت) للمرأة التي تودّعه مؤشر أول على البناء المتوازي الذي ستبنى عليه الرواية بتوزعها على خطين لا بد أن يلتقيا بشكل ما في النهاية أو قبلها، سردياً على الأقل. وهكذا تسير الرواية، وتحديداً مع البطل في مسارين. الأول الحاضر بدءاً بالحافلات في أديس أبابا وانطلاقها باتجاه المطار وهي تحمل مجموعة المهاجرين أو المهجّرين، ومروراً بالطيران والوصول إلى مطار في إسرائيل، ليتواصل الخط بعد ذلك مشكّلاً متن الرواية المباشر . والمسار الثاني هو ما يسترجعه (دوايت) خلال ذلك، بدءاً بتفكيره بالهجرة، مما يقع قبل زمن الروايه، ومروراً بمراحل ومجازفات مختلفة تلحق به خلالها جرعات من العذاب والخطورة والتعب تتواصل حتى وصوله إلى لحظة الحاضر. وهكذا تعود بنا الرواية، مع مسار أحداث الحاضر، بفلاش باك، وقبل العودة إلى الماضي البعيد، إلى الماضي القريب في غوندار، حيث تصطحب (سابا) بطلنا (دوايت) إلى سقيفة داخل مخيم على مدخله نجمة سداسية حيث يجلس خمسة رجال يتغطون بالأبيض تقول لهم: هذا هو الذي حدثتكم عنه، (دوايت) ابن (راحيل) و(إلياس) اللذين كانت تعرفهما من قبل، وقد ضاع بعد وفاة أمه ثم عاد. وهؤلاء الرجال اليهود المتلفعون بالبياض هم الذين يقررون إن كان هذا هو الابن الذي ضاع فعلاً أم لا. حين يسألونه مجموعة أسئلة للتحقق من إن كان هو فعلاً يهودياً، لا ينجح في الإجابة عن الاسم اليهودي لأمه، ومع هذا يُفاجأ بقبوله في المخيم، لتكشف له (سابا)، فيما بعد، أن كل شيء كان، بطريقة ما، مرتباً مقابل مال دفعته لهم.
خلال ذلك يسير خط الحاضر، فتهبط طائرة بدون مقاعد بمجموعة المهاجرين في إسرائيل، ومع وصولهم ينتقل (دوايت) في استرجاعاته إلى يوم تجوّله قرب المخيم في (غوندار)، حين يلمح حريقاً في فندق (أباسينيا) فيهرع إليه، وعلى مقربة من الفندق وبين الأشجار يجد أنبوبة إطفاء ستجد (سابا) صاحبة الفندق فيما بعد أنها دليل على أن الحريق مدبر وأن الذي قام برمي الأنبوبة هو الذي أشعل الحريق، فيأخذ (داويت) الأنبوبة ويبدأ بإطفاء الحريق. المفارقة أو المفاجأة أنه يتذكر بعد ذلك كيف أنه حين لاحظ حظوة صاحبة الفندق لدى مجلس المخيم قام هو بإشعال الحريق بغفلة من الجميع ثم قام بإطفائه. ويتحقق له حينئذ ما خطط له إذ تقترب منه (سابا) وتسأله عن أمره فيكشف لها عن أنه مسيحي إرتيري واسمه (ديفيد) ويريد أن يهاجر ولكن ليس لديه المال الكافي لدفعه للمهربين. وهكذا تساعده (سابا) في دخول المخيم باسم (دوايت إلياس) ويبدأ سلسلة تدريبات وتعليمات ليتقمص شخصية يهودي يقنع الحاخامات، وهو ما لم ينجح به تماماً، فيكشف لنا عن أن تلك العجوز التي صرخت بأنه ليس يهودياً، ليست هي فقط التي تشكك به، بل غيرها الكثير من المهاجرين الذين كان يشعر برافضهم له من لحظة انضمامه إليهم، بمن فيهم الأطفال الذين كانوا يرمونه بالحجارة. وفي ظل كل ذلك ينشطر (دوايت)، هويةً، بين أن يكون يهودياً أشاء أم أبى، أو مسيحياً كما يُفترض، أم مسلماً كما سينكشف لنا، أو إرتيرياً سواء أكان مسيحياً أم مسلماً.

( 3 )
تعلّقاً بهمّ البطل الذي ولّد، كما قلنا، درجة من الاانشطار أو التعدّدية في الهوية، على الأقل ظاهرياً، نُفاجأ، من خلال استرجاع مسيرة الهجرة، أنه لم يكن مسيحياً، بل مسلماً. وهكذا يكون اسمه: وهو في إرتيريا (داود)، ويخرج من إرتيريا باسم (أدال)، ويدخل أثيوبيا باسم (ديفيد)، ويبدأ رحلته إلى إسرائيل باسم (دوايت). وكأننا بالبطل، في ذلك، شبه ضائع حين يتوزع انتماءً إلى عدة هويات لا يكاد يجد نفسه مطمئناً على واحدة منها، خصوصاً ونحن نعرف أنه يريد إسرائيل إلا بوصفها معبراً يحقق له الهدف الذي يسعى إليه كل مهاجر، العبور إلى برّ في مكان ما يعتقده آمناً، وأناس ينتمي، بشكل ما، إليهم. فهل مسيرة هجرته العجيبة هي بحثُ عن خلاص وأمان أم بحث عن هوية؟ لا فرق فهذه تؤدي إلى تلك، وتلك تؤدي إلى هذه، فهل يحققهما؟ لعل هذا ما ستجيب أو تحاول أن تجيب عليه نهاية الرواية، ولكن ليس قبل المرور بمسيرة البحث والتجربة وبالتأكيد المعاناة، خصوصاً حين يتعلق مصيره، في مرحلة مبكرة من المسيرة، بالانقياد الذي ينفرض عليه بالنهاية التي لا يعود ممكناً تفاديها أو التراجع عن الوصول إليها، بعد أن لم يعد الرجوع ممكناً.
“كانت رحلة يائسة لا تحتمل سوى خاتمتين؛ إمّا الوصول إلى الوجهة الأخيرة، أو القتل على يد رجال الأمن. ومع هذا فقد أقدم عليها (داود) حين تساوى عنده الموت والحياة في معسكر التجنيد. لذا حين عبر الحدود (…) توقف لينظر وراءه. أراد أن يستشعر حقيقة النجاة، حقيقة مفارقة الإذلال إلى الأبد. هناك خلف تلك الجبال البعيدة التي اتنفدت طاقته وهو يتسلق بعضها ويلتفّ خلف الآخر، تقع إرتيريا. ليس ثمة حنين داخله على الإطلاق. كان الحنين يتساقط من روحه مع كل خطوة يخطوها في الاتجاه المقابل.”- الرواية، ص54.
وخلال المسيرة يلتقي بشخص اسمه (يوهانس) يكتشف (دوايت) أو (ديفيد) أنه يعرف سره، فيرتعب، لكن (يوهانس) يقول له بأن لا يخاف وأنه أيضاً ليس اسمه (يوهانس) فعلاً، وأنه هو الآخر قد حاول الحصول على اللجوء في أحد البلدان المتاحة من الأمم المتحدة (UN)، وهو يحاول، مع (دوايت) هذه المرة، وهو يصحبه ويعلمه ما يجب أن يفعل حين يُقابل من يقررون مصيره، وضمن ذلك اختراع قصة تجعلهم يقتنعون بطلبه. يحكي (ديفيد) لـ(يوهانس) كيف جاء الـ(الأمن) أو غيرهم- لم يتضح الأمر- في أسمرا، حيث كان هو وأمه التي استماتت لكي تمنعهم من أخذه للتجنيد على ما يبدو- غير واضح تماماً- ولعل ما يؤكد ذلك أو يتساوق معه أن الاحتفال وهو عسكري بالنصر والتحرير والاستقلال يأتي بعد هذا مباشرة. وخلال ذلك عانى السجن والعذابات والإذلال في الوادي الأزرق في إرتيريا.

( 4 )
هنا، مع حقيقة أننا لا نجد في الرواية الكثير غير مسيرة (داويت) وهجرته، فإن فعل الهجرة هذه كان سيكون أكثر من كافٍ لو كانت الهجرة قد حُمّلت أكثر من فعلها نفسه، لكننا نحس وكأن المؤلف لم يكن يمتلك الكثير ليقدمه، رؤيةً وفلسفةً وموضوعاً حقيقياً، للرواية أو لهذا الفعل، فانشغل بهذه المسيرة التي تحمل بعض الافتعال، خصوصاً خلال مرحلة إسرائيل التي لا نكاد نرى فيها أي شيء غير وصول البطل والمجموعة التي كان معها إلى هناك، ثم تنقّلهم من مكان إلى آخر مع إجراءات مختلفة من تسجيل وفحص ومعالجة وترتيب وتنقّلات وتنظيم زيارات إلى مناطق مختلفة ووصفها بما لا يقدم أي شيء للرواية. وبسبب هذا اتّسمت الرواية، وبخلاف المتوقع من موضوعها الساخن، بالأفقية. وهنا نعتقد أن خطّاً فرعياً أو ربما مكمّلاً، وهو التقاء (دوايت) في القدس بالإسرائلية (سارة) وهي تبحث عن لاجئ سوداني أو إرتيري، كان من الممكن أن يُستغل أكثر، لتكون الرواية رواية حدث وإثارة وتصاعد، وفي الوقت نفسه رواية موقف وقضية معالَجين فكرياً وسردياً. بدلاً من ذلك ابتعدت الرواية عن هذا التوجه، فصار الموقف والقضية، اللذين نعترف بحضورهما، سائبين، وحتى حين يتطور هذا الخط بفعل من البطل، فإن هذا الفعل لا يأتي مقنعاً. فاستجابة لبحث (سارة) عن لاجئ، ورغبةً منه فيها، يتجرأ (دوايت) على أن يفاجئها، بل يفاجئنا نحن، بأنه عثر على من تبحث عنه حين..
“بدأ يحكي لها أنه إرتيري، وأنه اضطر للتظاهر بكونه من اليهود الفلاشا، حتى ينجو مما هرب منه (…). أسهب في الحكايات، شعر بالزهو وهو يستأثر بوجهها كله. الأعين المحتدة، والشفاه المزمومة، والحواجب التي تتحرك ارتفاعاً وانخفاضاً مع كل حكاية، واليد التي تتحرك بتلقائية لتندس وسط شعرها المتموج وتعيده إلى الوراء.”- الرواية، 195.
فهذا لا يكتسب، ما يجب أن يكتسبه كل شيء في العمل الروائي، نعني الإقناع، لا في المكاشفة ولا بالاندفاع ولا بما يأخذ البطل إليه، بل بظني هو أحد مقاتل الرواية، خصوصاً وأنه يأتي في خط الرواية- مسيرة بطلها في هجرته من إرتيريا إلى إسرائيل- الذي عليه ما عليه. فبعد كل مسيرة العذاب هذه كيف نقتنع بأن يفعل البطل هذا؟، إلا إذا كان مخبولاً أو مجنوناً أو مريضاً أو غبياً، وكل ذلك لا تؤيده طبيعة الشخصية التي عرفناها ولا إقدامه على المغامرة، التي نفترض أنها مدروسة. وفوق ذلك، تركز (سارة)، ومرة أخرى وبما لا يبدو مقنعاً، على علاقاته بالنساء وممارسة الجنس، وفي إيقاعٍ يذكرنا شكلاً ببطل “موسم الهجرة إلى الشمال” الذي اكتسب هناك إقناعاً حين جاء متوائماً مع طبيعة الرواية المعروفة. من ذلك مثلاً حين تسأله متى سمع كلمة قضيب. (الرواية، ص206). والغريب أن ما سيتلو هذا في تطور الرواية، وتحديداً ما يحدث للبطل، قد يكون من نتائج الفعل غير المقنع. يفاجئه رفيقاه في المستوطنة (آرون) و(محاري) بأن أمره انكشف، فيهرب ويذهب إلى (سارة)، ثم يتركها، ولكنه (وبقدرة قادر) يلتقي رجلاً إفريقياً اسمه (محمد علي) يحزر بسهولة أن (داود) مسلم ويدعوه إلى بيته، وفي اليوم التالي يرسله إلى جمعية للجالية الإفريقية ويطلب منها الاهتمام به. ونتيجة لشبه الضياع هذا الذي يغرق فيه البطل يُصاب بطلق ناري تائه ليموت ميتةً شبه عبثية:
“أراد أن يسألهم عن هويته، عن اسمه إنْ كان داود أم ديفيد أم داويتْ، أن يسأل عن ديانته، إن كان مسلماً أم مسيحياً أم يهودياً، عن جنسيته، إنْ كان إرتيرياً أم إثيوبياً أم إسرائلياً أم فلسطينياً. ليته يجد الإجابة. كم يحتاجها الآن، والان بالذات حين التفت له الناس أخيراً ليعرفوا هويته التي قضى عمره يبحث عن مستقر لها. بدا الضجيج يخفّ من حوله. غاص جسده في استرخائه (…) أغمض عينيه، وقد شعر بروحه رغوةً تطفو على السطح. ترك ابتسامة على محيّاه، وهو لا يعرف على وجه الدقة إنْ كان سيتنبّه لها أحد.”- الرواية، ص251.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *