رواية أنا وحاييم

اليهودي من منظور خاص في الرواية العربية
رواية “أنا وحاييم” نموذجاً
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
يُخيّل لي أن هناك العشرات، وربما المئات من الروايات العربية الصادرة في العقدين الأخيرين التي تستحضر أو تطرح الشخصية اليهودية بشكل أو بآخر. من هذه الروايات: “أوراق عبرية”- 1997- للمغربي حسين رياض، و”يوميات يهودي مسلم”- 2004- للمصري كمال رحيم، و”يوميات يهودي من دمشق”- 2007- للسوري إبراهيم الجبين، و”آخر يهود الإسكندرية”- 2008- للمصري معتز فتيحة، و”اليهودي الحالي”- 2008- لليمني علي المقرّي، و”ملائكة الجنوب”- 2009- للعراقي نجم والي، و”السيدة من تل أبيب”- 2010- للفلسطيني ربعي المدهون، و”يا مريم- 2012- للعراقي سنان أنطون، و”سِفر الترحال”- 2014- للمصرية فاطمة العريض، و”مملكة الفراشة”- 2014- للجزائري واسيني الأعرج، و”يهود الإسكندرية”- 2016- للمصري مصطفى نصر و”رغوة سوداء”- 2018- للأرتيري حجي جابر، و”أنا وحاييم- 2018- للجزائري الحبيب السائح، التي سنتوقف عندها هنا، بوصفها نموذجاً لخصوصية التناول الذي شاع بأشكال مختلفة في العديد من تلك الروايات.
وإذا لم يكن هذا الحضور لشخصية اليهودي مثيراً أو خروجاً عن المألوف والطبيعي، فإن ما يبدو لنا خارجاً عن المألوف وعن الطبيعي فعلاً هو أن يحضر اليهود واليهودي واليهودية، ألفاظاً ودلالاتٍ، متكلّفاً وربما تجارياً بما في ذلك إقحامها في عناوين العديد من الروايات. فقد توزّع الموضوع، أو لنقل الظاهرة، في العديد من الروايات، بين أن جاء موضةً عند بعض الروائيين، ووسيلةً للترويج أو للجوائز عند بعض ثانٍ، وجوازَ مرور للوصول إلى الغرب عن بعض ثالث، وربما لأسباب وغايات عديدة أخرى عند آخرين. وهذا كله بالتأكيد موضوع يحتاج إلى وقفة خاصة مستقلة، ولكن من المهم الإشارة إلى أنه لا يلغي تجارب أخرى لروائيين الجادين فرض فيها الموضوع نفسه عليهم، أو انطلقوا فيه من كونه قضية، كما سنراه في الرواية التي نتوقف عندها.
رواية “أنا وحاييم” للحبيب السائح إذ تعتمد الشكل السيروي الذاتي، ولكن دون التسليم له كلياً، فإنها تأتي مرويةً بضمير المتكلم على لسان بطلها وراويها (أرسلان)، ووقائع الرواية في الجزائر، وتحديداً بعد الاستقلال عام 1962 بوقت قصير، ولكنها تعود استرجاعاً إلى قبل ذلك، وتحديداً في الأربعينيات والخمسينيات وانطلاق الثورة الجزائرية. فتبدأ بالبطل المتكلم وهو يقترب مما يسميه (دار حاييم بنميمون) ويدخله ليواجه فيها غرفة الجلوس، فيتذكر كيف قام هو و(زليخة)، التي سنعرف بعد حين أنها زوجته، قبل ثلاثة أعوام، بزيارة اليهودي (حاييم)، الذي سنعرف سريعاً أنه صديقه الأقرب، الذي قدم لهما فيها القهوة، وكل ذلك بعد نجاة (حاييم) من السحل في يوم الاستقلال، قبل بضعة أعوام. وهو لا يذهب، في استرجاعه، إلى هذه الحادثة لتسير الرواية بدايةً منها، بل لتكون المنطلق، ضمن (سيرة) متخيّلة، نحو أيام طفولته وصباه هو و(حاييم) ومغامراتهما، ثم ما يسميه آخر عفرتاتهما يوم تسلّقا شجرة إجاص في مزرعة الفرنسي (ألفونسو باتيس) الذي يراهما فيهربان فيلاحقهما بسيارته، وقبل أن يدركهما يرميان نفسيهما في النهر ليعبراه إلى الضفة الأخرى. ثم يدخلان، بعد ذلك، الثانوية على بعد ثمانين كيلومتراً من بلدتهما وتحديداً في مدينة معسكر بأجوائها الجديدة عليهما، من حيث السعة والالتزام ونظام القسم الداخلي الذي ينزلان فيه، ووجود الأستاذات الأنيقات، وغير ذلك مما لم يعتادا عليه، فيشكل بداية التغييرات الجوهرية التي ستتواصل في حياتيهما. ومع غرابة الكثير مما يراه هو و(حاييم) في المدرسة وفي بعض مسؤوليها والعاملين فيها، فإن الأهم يأتي حين يبدأ (أرسلان) بالتفكير بما سيكون، بعد حين، اهتمام الرواية الرئيس، وتحديداً حين ينتبه هناك إلى أن الحارس (المسيو ويل لومباردو) يراقبه ويتحيّن فرصة أن يصدر عنه ما يشخصه إخلالاً بالنظام مما قد لا يكون في حقيقته إخلالاً فعلاً. بل هو يناديه يوماً ويقول له بشكل غريب، وبدون أن يصدر عن (أرسلان) أي شيء: “مَن تظن نفسك؟”- الرواية، ص28- ثم يسأله بما يشبه الأمر العسكري عن اسمه كاملاً. ومما يزيد من غرابة سلوك الحارس هذا أنه لا يجد بعدها ما يطلبه منه. يبقى الأهم أن ذلك الحارس كان يسميه (أنديجان)، أي (الأهالي) كما كان الفرنسيون يطلقونها عنصرياً على الجزائريين المسلمين، ليفسّر ذلك كل سلوكياته الحارس الغريبة معه. ويؤكد تلك العنصرية أن الحارس كان يتقبل أن يتواصل مع (حاييم)، وهو الفرنسي، بالعربية.
( 2 )
وإذ تُقدم الرواية، في استرجاعاتها، أيام البطل وصديقه في الكلية، بشكل جميل وممتع، فإن هذه الجمالية تمتد إلى ما يبدأ (أرسلان)، في الحاضر، بقراءته في مذكرة يتركها (حاييم)، ولم يكن هذا ليتحقق بالصدفة، بل لأن المذكرة تتعلق بتلك الأيام، فتخاطب البطل وتخاطبنا بعاطفية تعزز الأسلوب السيريَ الذي يجعل المؤلف ينطلق، في الكتابة، من الذات التي يُفترض أن تكون صادقة، سواء كانت من خلال (أنا أرسلان) راوياً أو (أنا حاييم) في مذكرته، وبالتالي تأتي حسية وجميلة ومؤثرة، خصوصاً حين تتعلق بأيامهما في الماضي، كما قلنا، وكيف كانت صداقتهما وكيف سيبدأ (أرسلان) بمساعدة (حاييم) مادياً في الجامعة، حيث بدخل هو قسم الفلسفة، و(حاييم) قسم الصيدلة، وتحديداً فيكون من المعتاد، وهو يشتري كتب الفلسفة، أن يشتري كتب الصيدله له.
خلال ذلك كله، يخوض الصديقان مغامرة حيايتية جديدة من نواح مختلفة، ممثلةً بدايةً وبما يشبه الرمز بركوب القطار لأول مرة، لتأتي بعد ذلك تفاصيل الحياة الدراسية الجامعية والفتيات والعالم الجديد، وأيضاً مواجه العنصرية، كونه من (الأنديجان)، بدءاً بعدم تعامل موظف التسجيل معه باحترام، ومواجهة (أرسلان) له بقوة تجعله يتراجع. وهي العنصورية التي تمتد في المدرسة، ثم في الجامعة، إلى بعض العاملين الآخرين والموظفين ومؤجّري الشقق وغيرهم، بل الطلبة أيضاً، خصوصاً من كانوا يُسمون (الأقدام السوداء) وهم من الأوروبيين، وفي الغالب الفرنسيين، الذين ولدوا في الجزائر وفي الغالب عاشوا فيها، لكنهم يتعالون على أهليها. لكن ذلك ما كان ليهزّ (أرسلان)، بل كان، وكما إلى حدّ ما (حاييم)، يهيّئه وجدانياً ونفسياً وفكرياً لاتخاذ موقف من الظاهرة والواقع الذي قاد إليها، وكما تفسّرهما السياسة التي تبدأ تصله من صديقه في الجامعة (الصادق هجاس) ورفيقته (حسيبة وصّال)، وهما من الاستثناء تقريباً الذي يرونه بين الطلبة، العنصريين غالباً، كما هو شأن (آلبرتو پاولي) و(پييرو سباتو):
“في يوم لاحق، ونحن نخرج من الكافتيريا إثر مناوشة كلامية بيننا وبين آلبرتو باولي وبيير سباتو وآخرين، حول إمكانية التعايش من استحالته بين الأهالي من جهة وبين الأقدام السوداء والأوربيين من جهة ثانية، أصررتُ على حاييم على أنه لا شيء من ذلك بات ممكناً في ظل هيمنة أقلية على أغلبية.” وهكذا حُسم الأمر بالنسبة لأرسلان.”- ص26.
فيخوض (أرسلان) النضال السياسي والفكري من أجل الحقوق المدنية ومقاومة العنصرية والاستعمار. تسهم في ذلك عوامل عديدة منها الفكرية والثقافية النظرية، ومنها العملية: تاثير الواقع الذي يراه ويعيشه وكثيراً ما يعانيه، وتنوير (الصادق هجاس) و(حسيبة وصّال) ثم زميلته الشيوعية الفرنسية (سيلين شوالييه) التي يُصاب أخوها (سيرجْ) برصاصتين نتيجة نضالهما. وهكذا حين تقع أحداث تفجير وإطلاق نار كأنها تعلن عن انطلاق ما سنعرف أنه الثورة الجزئرية، لتبدأ حرب الجزائر فعلياً، يكون (أرسلان)، مهيّأً لها هو وإلى حدّ كبير (حاييم)، وكان من الطبيعي أن تمتد إلى الجامعة، بين الطلبة والأساتذة وفي المحاضرات، وأن تقع اعتداءات من الفرنسيين وبعض الأوربيين على الطلبة الجزائريين. وبعد أن يتخرج الصديقان يلتحق (أرسلان) بالجبل للمشاركة في حرب التحرير ملازماً، وستلتحق به بعد سنتين (زليخة). وإذا لم ينضم (حاييم) إلى جيش التحرير، كما يفعل صديقه، فإنه يبدأ، وهو يفتح صيدلية، بإيصال أدوية إلى المجاهدين، ليسهما معاً، ولذلك دلالة تريدها الرواية، إلى جانب آلاف الجزائريين في تحقيق النصر والتحرير.
( 3 )
وفي مشهد شبه استعراضي، ووسط جموع أناس محتفلين بالإعلان عن استقلال الجزائر، تأتي سيارة يقودها (حاييم) وإلى جانبه (أرسلان) الذي يُعين مفوّضاً لبلدية المدينة ويعين (حاييم) مستشاراً ليساعده في وظيفته، وخلفهما (زليخة) وبيدها مايكرفون تدعو من خلاله الحشود إلى فتح الطريق، وخلفهم سرية جنود بملابس الجبل العسكرية. ووسط هياج جماهيري ينفلت غوغاء يدعون للانتقام من (أولاد النصارى) واليهود. هنا يبرز (أرسلان) وهو يسحب سلاحه ومن خلفه (زليخة) مشهرة هي الأخرى سلاحها، ويقفان بوجه الغوغاء المشبوهين، وراكبي الموجة، كما يقال، الذين يحاصرون بيت (حاييم)، ويوجّها بتقييد الغوغاء المشاغبين، ثم، وهو يطلق رصاصاً تحذيرياً في الهواء، يخاطب (أرسلان) الجموع، فيكلمهم عن إسهام هذا الذي يريدون إيذاءه، (حاييم)، في تحقيق الحلم كأي جزائري آخر:
“السيد حاييم بنميمون الذي جاء هؤلاء الأشقياء ليعتدوا عليه ويسطوا على بيته أصبح جزائرياً مثلكم، مثلي، مثل هذا المرأة أمامكم (…) هل فيكم واحد مثل السيد حاييم خاطر بحياته ورزقه من أجل أنْ يصبح الحلم بالحرية حقيقة كما ترونها اليوم”؟”- الرواية، 226.
وإذا ما استقرت الثورة والدولة بعد موجة العنف الأولى، فسرعان ما تبدأ تظهر أيضاً الخلافات وعدم النضج والوصولية والفساد والرغبة في التسسلط التي لا يتأقلم معها (أرسلان)، فيدخل في خلافات مع الحزب والمسؤولين. ولهذا هو يُسعد حين يُنقل من مسؤولية مفوضية البلدية إلى مدرس في دار المعلمين. وفي نهاية السنة الدراسية، وهو يعمل مدرساً في دار المعلمين، وبعد زواجه من (زليخة)، يخبرهما (حاييم) بأنه راقد في المستشفى من أسبوع، بعد أن وجد الطبيب فيه ما لا يطمئن، وأنه ينتظر نتائج التحليل. وحين يذهبان إليه يجدانه قد مات وقد ترك لهما رسالة كلها حب لهما وللبلد، مع رغبته في أن يُدفن في مدينته، فتُنفّذ رغبته. وفي النهاية يذهب (أرسلان) إلى المقبرة ليزور قبر صديقه، وهناك يميّز الحارس قرب قبر (حاييم) ابناً لأحد شهداء ثورة التحرير ويخبره بأنه كان جندياً شجاعاً:
“- ولا بد أنك أنت بشير الذي أخبر يوماً تلك السيدة صاحبة المسدس [يعني (زليخة)] عمّن كانوا يحاصرون بيت ذلك اليهودي في الدرب؟
“- نعم يا سيدي، أنا هو بالذات!
“فأشرتُ خلفي بإبهامي فوق كتفي:
“من يرقد في ذاك القبر هو الصيدلي حاييم بنميمون نفسه. وهو الذي كان يرسل أدوية لعلاج المصابين من الجنود أمثال والد.”- ص333.
في العودة إلى اعتماد الشكل السيروي الذاتي، والرواية تنطلق من الذات وتجري محورياً عبر ذات (أرسلان) تحديداً، ولكن وصولاً أيضاً إلى أحد اهتماماتها وموضوعاتها، نعني شخصية اليهودي ممثّلةً تحديداً فيها بـ(حاييم)، وتقديمها من منظور خاص، يبدو أن الروائي قد تعمد اعتماد الأسلوب السيروي، حرصاً على تحقيق المصداقية التي تحتاجها السيرة، والتي قد لا تتهيأ لأي روائي يتناول هكذا موضوعاً في ظل همه في تحقيق الإيصال والإقناع. “إن اصطلاح السيرة الروائية المنحوت من اصطلاحَيْ الرواية والسيرة الذاتية يتكئ على ضمير المتكلم القائم بين الراوي المتخيَل والروائي الواقعي (…) فمادة تجربة الروائي ما أن تصبح موضوعاً للسرد حتى يُعاد إنتاجها طبقاً لشروط تختلف عن شروط تكوِّنها قبل أن تندرج في سياق التشكيل الفني.”() ولعلّ أول وأهم ما ستحتاجه السيرة عندما تتحول إلى رواية، أو الرواية حين تعتمد أسلوب السيرة، والسيرة حقيقية افتراضاً بينما الرواية متخيلة أصلاً، هو المصداقية، وبرأيي أن الحبيبب السائح، وتحديداً من خلال راويه البطل الذي لا يمكن إلا أن يمثله بدرجة ما، حتى وهو لا يُخفي تعاطفه مع (حاييم) بل انحيازه إليه أيضاً، استطاع أن يحقق المصداقية التي نعتقد أن القارئ يمكن أن يحسّها بشيء من السهولة، الأمر الذي لم تكن الرواية لتعني الكثير بدونها. وبذلك حققت الرواية الجمالية الفنية الخالصة من جهة، وجمالية التوصيل الذي لا بد بالضرورة من أن يؤدي إلى التأثير.
najmaldyni@yahoo.com

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *