بغداد
ميسلون هادي
أينما تكونوا أيها الأبناء الطيبون .. أينما حل بكم الدهر ورمت بكم الأقدار .. صعودا إلى الظل من الحرور .. وهروبا من الظلمة الداجية إلى النور .. وتعلقا بألوان القزح والفرح بعد ألوان السواد والرماد .. أيها المغني والمنشد والعوّاد وقارئ المقام والملحن والزمّار.. أيها المعماري والمهندس والرسام والعطار والصفار والنحات .. أيها الكاتب والشاعر والناثر والمعلم والمؤلف وشاه بندر التجار .. كن اينما تكن بعيدا عن النار والدخان .. وضع رأسك باردا على وسادة طرية خالية .. وانقل قدميك من مقهى إلى مطعم إلى ناصية .. ودلّل أنفاسك بأنفاس باردة ونسائم حانية .. لك الحق في ذلك ولا أحد يلوم هاربا من هاوية .. ولكن من فضلك .. لا تتباك على بغداد التي اكتوت بالموت وخراب الديار ولا تندب المدن التي هجرتها والأم التي تهت عنها إلى أشباه الأمهات . لا تشبك ، من فضلك ، عشرك على رأسك وتصيح ( مظلومة يا بغداد ) .. لا تنصب لها مأتما في بلد بعيد ونظيف تبكي فيه شارع المطار أو تنعى الجسر المعلق أو تؤبّن جسر الجمهورية وتقول أين بغداد وكيف بغداد ولماذا بغداد ؟
صادق في كل كلمة تقولها وفي كل سؤال .. وأنت محب وعاشق لها في الحل والترحال .. ولكن بغداد ليست محتاجة إلى فناجين القهوة المرة السريعة وإلى سرادق عزاء مقام فوق السحاب .. ليست محتاجة منا إلى قصيدة ترفع العتب ولا إلى رواية تسقط الفريضة.. والعالم أيضا لم يعد محتاجا إلى دندنة العود وبكاء المغني ونواح الشعراء والكتاب والقصاصين.
بغداد محتاجة إلى أبنائها .. إلى الصِّيد الأجاويد أحبابها.. عميت عيونها وهي تبكي عليهم، وجفت أشجارها وهي تذوي من نقص الحنان.. والذي يحبها فليأت إليها ويضمد جراحها .. فنحن نخجل منها أن نغني وهي تنزف دما.. ونخجل أن نملأ فمنا بالكلمات وفمها مملوء بالدم. نخجل أن نتفرج عليها وهي تتحول من وردة الله إلى منفضة للقذائف والجثامين، نخجل أن يحافظ عليها عامل النظافة والجنائني والخباز ومحصل الكهرباء، والنخبة تدير ظهرها لبغداد ثم تبكي عليها في المحافل والمنافي والفضائيات.
سأم العالم هذا البكاء.. ملّ الناس هذا الكلام وهذا الهجران وجاء اليوم الذي يسألكم فيه: ألا تستحق بغداد التي تبكونها شيئا آخر غير الكلام ؟!
الا تستحق أن يكون هناك في كل حي مثقف حي وفي كل شارع شاعر مرهف الحس وفي كل ركن عامر معماري صاحب ذوق رفيع، فيشمل كل أولاء بذوقهم ونظافتهم وجمالهم الأحياء كلها والشوارع كلها.. ألا تستحق أن يأتي إليها عازف العود الذي يبدو أنه لن يعود، والمغني الذي مللناه يغني علينا من سدني إلى قرطاج، وقارئ المقام الذي أقام إقامة دائمة في التلفات الإسكندنافية والمعماري الذي عمّر بيوت العالم وبيته خراب، والشاعر الذي لم يشعر بوقع كلامه على عنفوان النخيل عندما قال ( لن أعود إلى خراب) فاجتمعت الشيخوخة مع الشعر لتجرح أرض النخلة البرحية وتعتدي على مشاتل بغداد وبساتينها وعذوبة العشب المبلل بندى الصباح وطعم الهواء الطلق يسبح بين سعفات النخيل وهديل الفواخت التي تنادي (كوكوتي ..كوكوتي .. وين أختي .. كوكوتي ) بغداد .. وا أسفاه يقتلها الأعراب قبل الأغراب .. بغداد .. يهجرها أهلها ولايحيطون بها إحاطة السوار بالمعصم.
بغداد .. حراسها أنتم وأمناؤها الازليون ..فتوقف أيها الزمان وردّهم إليها ما بقي من العمر بقية .. ويا نار كوني بردا وسلاما علينا وعليهم وعلى بغداد وكل العراق.