رجل خلف الباب .. ميسلون هادي
صار انتظار الغائب أو البحث عنه هاجس المرأة العراقية المؤرق في زمن الحروب، وكان لا بد لهذا الهاجس من أن يجد حضوراً له في السرد القصصي النسوي في العراق، وتقدم ميسلون هادي نماذج حية من هذا الحضور في مجموعتها الفصصية ”رجل خلف الباب“( 1994 )، ويتجلى ذلك لديها بدءاً من اختيارها لعنوان المجموعة بما ينطوي عليه من دلالة توحي بالانتظار الذي ستتواتر الاشارة اليه بشكل مباشر أو غير مباشر في العديد من قصص المجموعة . ان ”رجل خلف الباب” هو عنوان القصة الأولى التي تجسد واقع امرأة تبدو مسكونة بقلق انتظار الغائب، محاطة بوحشة التوحد ثم الظلام الذي حل عند انقطاع التيار الكهربائي وهو ما بعث فيها خوفا مضافاً، خوفا من أية حركة أو نأمة. تابعت القاصة بطلتها ببصر يقظ فرصدت ما ينبجس في الداخل من ارهاصات وهواجس وما ينعكس منها في الخارج: حركتها الوجلة وصدى صوتها الداخلي الذي يوحي ظاهرياً بأن الغائب الذي تنتظره سوف يأتي لكن من الدلائل ما يشي بأنه لن يأتي: عويل صافرة سيارة الاسعاف ورائحة البخور الآتية من مكان غير مرئي و ” أصوات السيارات التي تكتسح الصالة بين الحين والآخر فتتركها مأخوذةً بأفكار سوداء تحفر في روحها اخدوداً من الحزن” ، وإذ رفعت عينيها باتجاه النافذة المفتوحة ”رأت حبل غسيل يتأرجح في الخارج تحت صف من القمصان السوداء جففها الهواء منذ وقت طويل” . وترصد القاصة في ” زينب على أرض الواقع ” حالة العائد من الأسر الذي جاءها لتكتب قصته وهو المهموم بهاجس البحث عن ابنة خالته زينب التي غابت دون أن يعرف أحد عنها شيئاً . وتنكأ القاصة جرحاً نازفاً حين تحتج على قول بطلها انه عاد من الأسر قبل أشهر فهي ترى ان المرء حين يؤسر فانه لا يعود من الأسر أبدا، بمعنى انه قد يعود جسداً ولكن بروح ممسوخة أو ميتة. أما في ”ضربة جرس” فإن الجو الأسري الحميم الذي بدأت به القصة ما تلبث محض ضربة جرس أن تحيله الى جو يشي بالمأساة يمزق قناع المرح الزائف الذي تقنعت به وجوه نسوة البيت . فقد بدت ”الجدة“، وقد انطفأ حماسها للحديث فجأة وكأنها لم تسمع شيئاً مما يدور حولها، ان السؤال الذي ظل معلقاً من دون جواب شاف ٍلسنوات حرب طويلة قد داهمها للتو بعد نظرة خطفتها الى الصورة المعلقة على جدار غرفة المعيشة، ولم يعد بمقدور أحد الآن ازاء دبيب القلق الزاحف الا أن يلهث ساكتاً ، مترقباً ، مشرئباً ، بانتظار ما سيحدث ”وما سيحدث يظل مجهولاً، وإذ تغلق طفلة الباب” ترجّع صداها باباً بعد باب .. وكل باب تنغلق تترك خلفها وجوه نساء واجمات يرهفن السمع الى ذكريات بعيدة ومتقطعة لا يسمعها أحد سواهن. لقد أصبح مؤكداً ان شيئاً ما في تلك الأرواح اللائبة قد انطفأ فجأة لتحل محله سحابة ثقيلة من الحزن خلفتها على حين غفلة ضربة جرس ليس إلاّ . وتنطلق القاصة من الاعتقاد الشائع بأن روح الميت تحوم حول بيته أربعين يوماً ، لتبني عليه قصة ”حياة واحدة لا تكفي” فترصد من خلالها ما هو شائع من معتقدات تتلبس المرأة، وتلقي الضوء على طقوس العزاء النسوية وما يدور في مجالسها فترسم صوراً نابضة لا تجيد رسمها سوى المرأة ــ الفاصة على وجه التحديد. وفي ”نسيان شيء مهم” يعلو صوت بطلة القصة بجرأة على صوت الرغبة في زيارة المقابر في ساعة مبكرة من الصباح، وهو طقس انساني شائع يرتبط بهاجس الغياب أيضاً ولكنه الغياب الأبدي هذه المرة. ان القاصة تفصح عن خزين ثقافتها من خلال اشاراتها وتضميناتها مثلما تفصح عن استفادتها من معطيات المنجز السردي العالمي فتعمد الى التكثيف وانتقاء لغة تقترب من لغة الشعر أحياناً ليصح معه قول الناقد الدكتور عبد القادر القط عنها: ”من خلال الحلم والرمز والشعر يقوي احساس القارئ بمأساة الواقع بما تصوره الكاتبة من لمسات رقيقة لهواجس الشخصية وحيرتها بين الواقع والحلم”.
بدون اسم
جريدة بلادي 19-11-2014