رؤية العربي للغرب في الرواية العربية

رؤية العربي للغرب في الرواية العربية

د. نجم عبدالله كاظم
كلية الآداب- جامعة بغداد
كنا قد بدأنا في مقال سابق- نُشر على هذه الصفحة في 3/5/2005- تناول رؤية العربي للغرب كما اهتمت به أو تمثّلته الرواية العربية وأنماط هذه الرؤية. وقد أشرنا في حينها إلى أن هذا الاهتمام أو التمثل قد مر بمراحل ثلاث، وفقاً لمراحل الاتصال أو اللقاء بين العرب والغرب وطبيعتها من جهة، ولمراحل تطور الرواية العربية نفسها من جهة ثانية. ولأسباب معينة انقطع المقال ونحن وسط المرحلة الثانية. وعليه نجد أنفسنا ونحن نعود إلى الموضوع لإكماله، التعرض للمرحلة الأولى باختصار شديد، واستكمال المرحلة الثانية، قبل الانتقال إلى المرحلة الثالثة، وهي التي تهمنا أكثر لأنها المحلة المعاصرة.
(1)
المرحلة الأولى، هي المرحلة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر تقريباً إلى الحرب العالمية الأولى، وكانت كتاباتها عبارة عن وصف للغرب أو لبعض جوانبه، مع غلبة للتعميم ونقص الوضوح الكافي عادة، وحتى في حالة بيان الرأي أو الآراء فإنها تكون في “شكل الانطباعات الشخصية”. كان أهم من مثلّ ذلك، وفي أعمال مهدت للرواية وليست من الرواية، رفاعة الطهطاوي في “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” -1834 – وعلي مبارك في “علم الدين” -1836- وأحمد فارس الشدياق في “الساق على الساق” – 1887 – ومحمد المويلحي في “حديث عيسى بن هشام” -1905.
المرحلة الثانية هي الممتدة من الحرب العالمية الأولى إلى فترة التحرر والاستقلال وحركات التحرر والثورات في الخمسينات والستينات، وربما إلى نكسة حزيران 1967. شهدت هذه المرحلة التأسيس الفني للرواية العربية وتطورها في جل الأقطار العربية من جهة، وانفتاح العرب أكثر- مجبرين ومختارين- على الغرب وإسهامهم الفاعل في زيادة العلاقة به وترسيخها وتفعيلها، خاصة في النصف الثاني من هذه المرحلة، نعني ما بعد الحرب العالمية الثانية من جهة ثانية. أهم أعمال هذه المرحلة روايات عفيفة كريم رواية “بديعة وفؤاد”- 1914– وتوفيق الحكيم “عصفور من الشرق”- – وطه حسين “أديب”– 1935– ويحي حقي “قنديل أم هاشم”– 1944 ويوسف إدريس “الحي اللاتيني”– 1953- إضافة إلى إمكانية ضم رواية الطيب صالح الشهيرة “موسم الهجرة إلى الشمال” التي تعود زمنياً إلى المرحلة التالية. المهم أن روايات هذه المرحلة، وفي ظل التأسيس الفني للرواية العربية، قد وصلت في هذا التأسيس ومن ثم التطور إلى “ما يسمح للكاتب بتعديد وجهات النظر والخطابات حول إشكالية متعددة المستويات والأبعاد وتتطلب من “الحوارية” في الأذهان والأساليب والنصوص أكثر مما تتحمله من الرؤى والمواقف الحدية والأحادية”. فإلى جانب ما قدمته أعمال هذه المرحلة، خاصة المبكرة، من نماذج شبه تقليدية، تقدم أيضاً، خاصة أعمال ظهرت بعد ذلك، صورة أو تصوراً آخر للغرب ولموقف العربي منه “هنا سيبدو الغرب التقليدي لا أكثر من (جثة متحضرة) كما تصرح به تلك العبارة الأدونيسية الشعرية – الفكرية التي استهل بها شرابي كتابه المعروف (المثقفون العرب والغرب). فهذا الغرب لم يعد نموذجاً يغوي أحداً” . كما لم تكف روايات أخرى من روايات هذه المرحلة عن محاولة فهم هذا الغرب، وهي تتناول موضوعة الشرق والغرب عبر تناول جانب آخر منها. هذا الجانب الآخر هو محاولة فهم واستيعاب عقلي ووجداني عميق للغرب وعالمهم الذي صار قريباً، ولكن دون التملص من الانتماء إلى الشرق بإيجابياته وسلبياته، بل عبر فهم ضمني للصراع الحضاري بين الشرق والغرب في مرحلة تشهد بلا أدنى شك تفوقاً حضارياً للأخير، الأمر الذي ربما كان وراء تباين مواقف أبطال هذه الروايات، بل أحياناً تباين مواقف البطل الواحد وتذبذبها من الغرب والإنسان الغربي. “يؤكد عالم النفس السلوكي كارل يونغ أن الإنسان إذا تعرض لحضارة أقوى من حضارته فإنه يكون أحد اثنين، إما أن يكون من ذلك النوع الانطوائي الذي ينكفئ إلى ماضيه ويحتمي به هروباً من وقع الصدمة، وهذا توجه سلبي، أو أن يلجأ إلى امتصاص هذه الصدمة الحضارية وتجاوزها ظناً منه أنه يتغلب عليها، وهذا هو النوع الانبساطي”.
من بين روايات هذه المرحلة يميّز جورج طرابيشي واحدة منها عن الأخريات، يقول: “الضجة الأدبية التي رافقت (الحي اللاتيني) منذ ظهورها في مستهل عام 1954 ترجع، في ما ترجع، إلى أنها استطاعت ما لم يستطع غيرها: أنْ تكون أنموذجاً للرواية التي تعالج العلاقة الحضارية بين الشرق والغرب من خلال العلاقة الجنسية بين المثقف الشرقي والمرأة الغربية”. يبقى مع هذا صحيحاً إلى حد كبير ما يراه رجاء عيد في هذه الروايات، وربما ينطبق ذلك من زاوية أخرى، حين يقول: “إن تلك الأعمال الروائية تعرض– كما يتضح– لقضية التلاقي– بين الشرق والغرب أو الشمال والجنوب– على مستوى أفراد، هم أبطال تلك الروايات، أي أن المستوى الفردي للتلاقي الحضاري لا يمثل مختلف جوانب الرؤية”. كما يبقى صحيحاً انطباق هذا الذي يراه عيد إلى حد كبير على روايات أخرى مما سيصدر لاحقاً ضمن المرحلة التالية.
(2)
المرحلة الثالثة، وتمتد من نكسة حزيران إلى الوقت الحاضر ، ونعني تحديداً إلى الاحتلال الأمريكي للعراق الذي سجل عودة صريحة وجديدة للاستعمار والهيمنة الأجنبية على العرب ، ولكن عبر هوية جديدة هي هوية الأمريكي . لقد جاءت هذه المرحلة ، من جهة ، امتداداً للمرحلة السابقة من حيث وعي كتابها ، وقدمت روايات مرحلة متقدمة بالطبع من مراحل تطور الرواية العربية . ووفقاً لذلك جاءت تلك الروايات أكثر استيعاباً لثنائية الشرق والغرب ، ولكن مع غير قليل من الإرباك في فهم المثقفين العرب ، ومنهم الروائيون بالطبع ، لما يجري من حولهم وانقسامهم حوله . ويبدو أن هذا الإرباك قد أحدثته حروب الخليج العديدة ، والاحتلال الأمريكي للعراق ، وعزّزه بلا شك الوضع المتزايد في مأساويته في فلسطين في ظل تتالي حكومات إسرائيلي يمينية عنصرية عنيفة إلى حد الوحشية ، وفوق ذلك مدعومة بأمريكا . مع هذا بدا أبطال غالبية تلك الروايات ، أكثر إيجابية وانضج وعياً في تعاملهم مع الغرب ، وخاصة حين جاء ذلك عبر تقديم شخصيات غربية وشرقية في لقاءات ورؤى تراوحت ما بين ترسيخ لصورة الغربي ، وتحديداً الأمريكي ، القبيح أو المعادي ، وصور للغربي الإنسانية أو الحضاري والندّ – إن صح التعبير- له مع ميل إلى الاتزان والثقة في التعامل مع الآخر . هذا كله يشجع الباحث على محاولة تلمّس رؤية العرب للغربيين عبر رؤى بعض كتاب هذه الروايات لهم ، وللأمريكيين منهم بشكل خاص ، و تنميط شخصية الغربي كما انعكست في الروايات ، والتوقف عند أهم أنماط الشخصية الأمريكية فيها . من روايات هذه المرحلة ، نعني التي عالجت موضوعة لقاء الشرق والغرب ، وقدمت شخصيات غربية فهي :
موسم الهجرة إلى الشمال : الطيب صالح 1970
ليلة في القطار : عيسى الناعوري 1974
الحياة في خطر : وفية خيري 1977
المتميز : محمد عيد 1978
الوطن في العينين : حميدة نعنع 1979
يوميات السيد علي سعيد – عدنان رؤوف 1979
سباق المسافات الطويلة : عبد الرحمن منيف 1979
الرحلة .. أيام طالبة مصرية في أمريكا : رضوى عاشور 1983
وتشرق غرباً – ليلى الأطرش 1987
الشاهدة والزنجي – مهدي عيسى الصقر 1987
العزف في مكان صاخب – علي خيون 1987
الثلج الأسود – محمد أزوقة 1988
من بجرؤ على الشوق : حميدة نعنع 1989
الميراث : سحر خليفة 1990
كم بدت السماء بعيدة : بتول الخضيري 1999
رقص على الماء : محمود البياتي 2000
عابر سرير : أحلام مستغانمي 2002
الحدود البرية : ميسلون هادي 2004
ومن الواضح أن روايات هذه المرحلة هي الأكثر استحقاقاً للدراسة وصولاً إلى وضع اليد على رؤية العربي عن الغرب والشخصية الغربية ، لأنها باعتقادنا لمّا تزل غير مدروسة بشكل كاف أولاً ، في وقت هي بالتأكيد تمثل هذه الرؤية كما يمكن أن تكون للعربي الآن ثانياً . من هنا نأمل أن نعنى بها في مقالات قادمة . إلى هنا منشورة
(3)
ابتداء يجب أن نشير إلى ظاهرة فنية مهمة ومفيدة هنا ، وهي أن غالبية هذه الروايات روايات واقعية . وإذ لم يكن بعضها يقبل هذا التوصيف كروايات الطيب صالح وعبد الرحمن منيف مثلاً ، فان هذا البعض لا ينأى عن الواقعية كثيراً . ولأننا نريد في هذه الورقة ، أن نضع اليد ، ولو بدرجة ما ، على الرؤية العربية للشخصية الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً ، فإن هذه الروايات مع واقعيتها ستكون عوناً لنا في هذا ، “فمن الممكن للرواية الواقعية أن تبدو كشباك صاف يطل على العالم ، وممكن لنا نحن القراء أن نرتبط كلياً بالشخصيات والأحداث [فيها]”(15) . وعليه فهذا النمط الذي تنتمي إليه ، كما قلنا ، غالبية نماذجنا الروائية ، يتيح لنا أن نخرج ببعض الأحكام على المجتمع والأحداث والشخصيات على أرض الواقع الذي انطلقت منه متجاوزين هنا ، وبمبرر واضح قول أدوين مور مثلاً : “الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يفيدنا فيما يخص الرواية هو الرواية نفسها”(16). لكن هذا التوصيف يجب أن لا يجعلنا نذهب بعيداً ، إلى بناء مثل تلك الأحكام والانطباعات وافتراض رؤى قد لا تكون في الحقيقة هي تماماً في العمل الروائي . يقول بعض النقاد ، “في الحديث عن الرواية الواقعية يجب أن نقاوم الإغراء لدراستها وكأنها حياة حقيقية ، كما لسنا معنيين كثيراً بدراسة الشخصيات كما لو أنهم أناس”(17) ، وهو الخطأ الذي يرتكبه أحياناً الدارسون أو النقاد ، خاصة حين لا يكون همهم الجوانب الفنية ، أو حين يتناولون العمل الأدبي لا بوصفه عملاً فنياً خالصاً بقدر كونه ، من وجهة نظرهم ، وعاء يهمهم معاينة ما يحويه ، أو مرآة للمجتمع ، حسب التعبير النقدي الاجتماعي التقليدي .
وإذ نأخذ كل هذا بنظر الاعتبار في دراستنا نجد من المفيد الرجوع إلى نقطة سبق لنا الإشارة إليها ، لأننا نجدها تضفي بعض المشروعية على النتائج المتعلقة بنظرة العربي إلى قضية أو قضايا معينة – كلقاء الشرق والغرب وصورة الشخصية الغربية منظوراً إليها عربياً . تلك الملاحظة هي أن هذه الروايات أو معظمها إنما هي ثمرات لتجارب حقيقية للكتاب مع الغرب والغربيين ، وتعلقاً بذلك وبكون هؤلاء الروائيين هم وراء الشخصيات التي تقدمها الروايات ، كان أبطالهم غالباً مثقفين يصلحون تماماً لتقديم مقولات وطروحات ورؤى عن العرب هي غالباً مقولات وطروحات ورؤى الكتاب أنفسهم ، أو نخب عربية معينة ، ثقافية بشكل خاص ، يستحضرهم هؤلاء الكتاب عادة في عملية الخلق والكتابة . “إن توافر عنصر الثقافة في أبطال الروايات كما رأينا يسهم في إنجاح المقولات والطروحات التي تقود الروايات جميعاً ، ويُظهر فاعلية الثقافة ودورها في تناول الموضوع الروائي الصعب بعد أن تعاشر جوانب الحضارة الأخرى”(18). وربما من هنا أيضاً تكون القيمة لما نخرج به من النماذج الروائية التي دخلت مختبرنا .
إذا كانت الشخصيات الأمريكية قد حضرت بذاتها بشكل محدود في هذه الروايات مقارنة بالشخصيات الأوربية ، فإن لها حضوراً ضمنياً في الشخصيات الغربية ذاتها ، ذلك أن الفرد العربي العادي ، وأحياناً المثقف الذي ينتمي الكاتب إليه أو يتمثله أو يتمثل رؤاه ، كثيراً ما ينظر إلى الغربي والشخصية الغربية بمعزل عن انتمائها إلى بلدها ، بل على أنها ذات انتماء واحد هو الغرب . وفي تناول الشخصية الغربية بوصفها ثيمة مستقلة ، أمريكية كانت – وهي التي تهمنا بالطبع – أو أوروبية ، نرى أنها يمكن أن تُرسم أيضاً أو يُكمَّل رسمها من خلال ثيمات أخرى متعلقة بلقاء الشرق والغرب . بالأحرى لا يمكن فصل الشخصية عن كل الجوانب أو الثيمات الأخرى ، كما يمكن أن يبدو ذلك للقارئ أو الدارس التحليلي ، الأمر الذي كان لا بد أن ينعكس بالضرورة في ورقتنا هذه . ومن هنا ، وبسبب هذا التشخيص الأخير كانت صورة الغربي واحدة من أكثر الثيمات حضوراً . ولكن ، مع هذا ، يجب أن نعترف أن لشخصية الأمريكي حضور محدود مقارنة بالشخصية الأوروبية ، لأسباب كثيرة لسنا معنيين بها هنا . يبقى ، مع هذا ، أن صورة هذه الشخصية في الرواية العربية المعاصرة ذات دلالات مهمة تعلقاً بما يمكن استقراؤه في محاولتنا وضع اليد على رؤية العربي للأمريكي بشكل خاص ، والغربي بشكل عام ، على أرض الواقع .
ولكن قبل أن ننتقل إلى تفصيل الكلام في أشكال صور أمريكا وبشكل أكثر تفصيلاً الشخصية الأمريكية كما ظهرت في نماذج من الروايات العربية المعاصرة ، نعود عبر وقفة قصيرة إلى ما رأيناه من خصوصية للفن الروائي تعلقاً بتعددية الأشكال التي قدمتها لهذه الشخصية ، خصوصاً في ظل واقع المواقف الأمريكية المنحازة ، ولا نريد أن نستبق الأمر عاطفياً في تعاملنا مع هذا الموضوع في العمل الإبداعي الذي نعنى به فنقول المعادية ، مع حقيقة تلمس الفرد العربي لها كل يوم . وعلى أية حال كان من الطبيعي في ظل هذا الواقع أن ترتسم الصورة السلبية غالباً لأمريكا وللشخصية الأمريكية في ذهن العربي ، ولكن كيف يتمثل ذلك في وعي العربي وذهنه ، كما تعبر عنه الرواية العربية ؟ هذا ما نسعى إلى استقراؤه في الفصول التالية . نقول هذا ونحن نعي أنْ يكون في نظرة العربي إلى الآخر ، أمريكياً وغير أمريكي ، جانب حضاري إنساني يلعب دورة بهذه الدرجة أو تلك في رسم صورة هذا الآخر ، وهو ما نرى أن الفن الروائي أكثر الفنون قدرة على تمثُّله . إن هذا الجانب الحضاري الإنساني في نظرة العربي إلى الآخر ينحدر في الواقع ، أولاً ، من الأمة العربية في تجربتها التي أسهمت بشكل بناء في تكوين الحضارة العربية ، وثانياً من الدين الإسلامي الموجَّه لا إلى العرب فقط بل إلى البشرية جميعاً ، ولكن عبر العرب ، والذي من هنا ومن كون العرب هم حملة رسالته فإنه يحث دوماً على حسن التعامل مع الآخر وعلى روح التسامح معه ، وثالثاً من إنسانية العربي كما تمثلت دوماً عبر التاريخ ، خاصة خلال فترات هيمنة الحضارة العربية والإسلامية على العالم (19). ولعله من هنا كان هناك التنازع ما بين الرسم العاطفي ، أو حتى العقلي القائم على رؤية الحيف الذي يلحق بالعرب نتيجةً للمواقف الأمريكية من قضاياهم ، والذي يقدم الصور السلبية عادة لأمريكا والشخصية الأمريكية ، وإلى حد ما الغرب والشخصية الغربية عموماً ، وما بين الرسم الحضاري الإنساني ، خاصة حين ينبثق من التماس الحقيقي ، الممتد لفترة كافية ليكون بها فاعلاً ومؤثراً للعربي ، الذي هو هنا للروائي ، مع الآخر فرداً مجموعةً بشرية اجتماعية صغيرة عاش أو أقام علاقة معه أو معها . وهكذا إذ يكون الوجه السلبي للشخصية الأمريكية ترجمة لحقيقة أمريكا دولةً وسياسةً كما تتجسد عملياً للعرب في كل يوم أو مناسبة على أرض الواقع ، فإن الوجه الحيادي وغير السلبي ، ولا نريد أن نقول الإيجابي ولكن الحضاري الإنساني هو ترجمة لإيمان العرب وحضارتهم وإنسانيتهم ، خاصة في تجاوبه مع طبيعة الفن الروائي الذي ينفتح أكثر من غيره على النزعة الإنسانية . وإذا ما كان طبيعياً ومفهوماً غلبة الرسم الأول ، فإننا من الممكن وفي ظل هذا التنازع ودغدغة الروح الحضارية والإنسانية لدواخل الروائي أن نتلمس شيئاً من الرسم الثاني حتى ضمن هذا الرسم الأول ذاته . يبقى تعلقاً بهذا كله – نعني بنظرة العربي ورؤيته للأمريكي – وبطبيعة الفن الروائي الذي يعنينا هنا تمثله لذلك ، من المهم الإشارة إلى أن واقع المتحقق في الرواية العربية من ذلك هو كما نرى الأكثر توازناً إقناعاً كما نأمل أن نوضحه فيما سيأتي من كتابنا . ومرد ذلك يرجع إلى الأسباب الآتية :
هنا غير مصحح هنا وفي الأصل أولاً : ما قلناه من إنسانية العربي تربية وحضارياً وديناً ، الأمر الذي كان لا بد للرواية ، كما هو الحال لكل الفنون ، أن تتمثله أو تعبر عنه ، أو على الأقل تتأثر به في معالجاتها للقضايا والموضوعات وفي رسمها للشخصيات ، وفي تعبيرها عن المواقف .
ثانياً : تلتقط الأجناس الأدبية وعموم الفنون من الحياة والإنسان الجوانب أو اللقطات أو الأجزاء ، وربما الجزيئات التي تتناسب مع طبيعتها من جهة ومع ما تريد التعبير عنه أو إيصاله ، وهي عادة جوانب صغيرة أو محدودة ، بمعزل عن كلية الحياة والتجربة الإنسانية ، كما هو حال القصة القصيرة مثلاً . أما الرواية فإنها ، إضافة إلى ذلك إذ تتعامل مع الحياة بكليتها ، مع نسبية هذه الكلية بالطبع ، لا يمكن لها أن تتجاوز جل هذا الذي تتعامل معه تلك الفنون الأخرى ، وعليه فكما يحضر فيها الموقف السلبي من شيء ما أو حياة ما أو شخصية ما ، يحضر جانب أو جوانب أخرى . وربما من هنا بشكل خاص ، وإضافة إلى الأسباب الأخرى نقول : إذا كان الأدباء في العصر الحديث قد تَمثّلوا اللقاء بين الشرق ممثَّلاً غالباً بالعرب ، والغرب ممثلاً بشكل خاص بأوروبا وإلى حد ما أمريكا ، فإن الروائيين كانوا أكثر هؤلاء الأدباء فعلاً لذلك رغم حداثة الفن الروائي بشكل خاص والقصصي بشكل عام في الأدب العربي مقارنة بالشعر مثلاً . ويبدو أن مرد ذلك هو طبيعة الجنس الروائي نفسه المتعامل مع الحياة والواقع والناس والتجربة أكثر من أي جنس آخر .
ثالثاً : تعددية الرواية وحواريتها ، فإذ تعبر الفنون الأدبية ، عدا الرواية ، مثل القصة القصيرة عن تلك اللقطات والجزئيات فإنها تمثل في تعبيرها ذاك عن وجهة نظر واحدة هي عادة وجهة نظر المؤلف ، فإن الرواية تعبر عن كلية الحياة بما فيها من تباين في الأحداث والأجواء والناس بوجهات نظر مختلفة واحدة منها فقط هي وجهة نظر المؤلف . في ضوء هذا وفي إحدى دراساته يلمح جورج طرابيشي تجاه فرع أساسي في الرواية العربية نحو التعاطي الحصري مع ما يسميه بإشكالية الأنتروبولوجيا الحضارية ، أي إشكالية العلاقات ما بين الشرق والغرب التي تنزع وتلتبس بطابع جنسي صريح وذلك في إطار لعبة تجنيس العلاقات الحضارية . من وجهة نظر طرابيشي أن رواية الأنتروبولوجيا الحضارية ، وذلك انطلاقاً من أن الرواية هي بالتعريف “فن الآخر” قد أعطت ثمارها في كل حين”(20) .
وفي الكلام عن أنواع أو أنماط صور الشخصية الأمريكية في الرواية العربية وإلى حد ما أمريكا ذاتها ، نجد أنها في مقابل توزّع صور الشخصية الغربية وأنماطها على الشخصيات المتحضرة ، والمتحللة ، والطيبة ، والإنسانية ، واللاإنسانية ، والمريبة ، وغيرها ، تتوزّع الشخصيات الأمريكية على : أولاً – شخصية الأمريكي القبيح ، كما قدمتها رواية بشكل أساس العراقي مهدي عيسى الصقر “الشاهدة والزنجي” ؛ وثانياً – شخصية المرأة الأمريكية ، والتي تنطوي هي نفسها على عدة صور ضمنية (21) ، كما قدمتها رواية الأردني محمد أزوقة “الثلج الأسود” ؛ وثالثاً – الشخصية المريبة ، وقد ظهرت ضمن مساحة محدودة ولكن لم تُفقدها برأينا أهميتها ، في رواية الأردنية الفلسطينية ليلى الأطرش “وتشرق غرباً” وإلى حد ما رواية العراقية ميسلون هادي ؛ ورابعاً شخصية الأمريكي الإنسان ، وكما ظهرت في روايات محدودة ولكن بمساحات محدودة ، مثل رواية محمد أزوقة السابقة ، والفلسطينية سحر خليفة “الميراث” إلى جانب أنماط وصور نستطيع أن نقول هامشية في ظهورها ، وعليه سنتوقف تفصيلياً عند ما كان ظهوره هو في الروايات تفصيلياً ، لنتوقف بشكل أقل تفصيلاً أو قصيراً عند ما هو عدا ذلك .


الهوامش :
(1) هنا نستغرب إشارة أحد الباحثين ، هو الدكتور معجب الزهراني حين يقول وهو يقدم لتناوله صورة الغرب في الرواية العربية : “رأيت التركيز في هذه المقاربة على صورة الآخر الغربي من منظور جديد ومختلف عما تعودنا عليه ونحن نقرأ ونعمل ، بوعي أو بدون وعي ، على محو الاختلافات والخصوصيات لصالح التشابهات والعموميات . وسيكون الهدف الأهم والأعم لقراءتنا الراهنة هو إعادة طرح إشكالية علاقات المرأة بالكتابة والرحلة والهوية” .
مجموعة : أفق التحولات في الرواية العربية .. دراسات وشهادات ، دار الفنون / مؤسسة عبدالحميد شومان ، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ، عمّان ، 1999 ، ص 58 – 59 . إن واقع الكتابة والتناول والجدل هو على عكس ما يراة الناقد تماماً ، إذ هو على اختلاف أشكاله إنما يُبرز الاختلافات ويحجم التشابهات والمقاربات مع الآخر إن لم نقل إنه لا يراها .
ومن الطريف هنا أن نأخذ على الزهراني فيما يتعلق بموضوعة العرب والغرب في هذه الدراسة أمرين رئيسين ، أولهما السرعة في تناول الموضوع وعدم بذل ما يجب في جوانب كثيرة منها ، من ذلك نقص الجدية في الإحاطة بالأعمال الروائية التي تدخل في دراسته ، بل أن بعضها ما كان إلا بطريق الصدفة ، وبعض آخر منها كانت إحاطته بها بمبادرة من طلبة له . الأمر الثاني الذي نأخذه على الباحث هو قيامه بعكس البديهيات تماماً ، بل أكثر من ذلك أنه في عرضه للأمرأو للصورة المعاكسة لما نفترض أنه الصحيح يعرضه وكأنه طبيعي وبديهي ومسلَّمة في حين أن المسلمة إنما هي ما يعاكس ذلك . فإضافة إلى ما عرضنا بخصوص الاتفاق والاختلاف ما بين العرب والغرب ، يأتي رأيه في مفهوم الغرب الذي صار عند الناس ، ناهيك عن الباحثين ، أوضح من الواضح كم يقولون ، حتى إذا ما سلمنا جزئياً بوجود أكثر من دلالة له ، فيقول : “نعلم جيداً أن مفهوم الغرب “قد يشبه الآن مفهوم “الزمن”عند بورخيس” إذ نعتقد أننا نعرف جيداً وبالبداهة وما أن نسأل عنه حتى ندرك أن معانيه تنسرب من أذهاننا انسراب الماء من بين فروج الأصابع” .
(1) المصدر السابق ، ص 55 .
(2) نزيه أبو نضال : المثقفون العرب والغرب ،1- صدمة (العصفور الشرقي) توفيق الحكيم، جريدة الدستور ، عمان ، 1/10/1999 ، ص 25. وانظر : رجاء عيد : لقاء الحضارات في الرواية العربية ، مجلة (فصول) ، القاهرة ، م16 ، ع4 ، ربيع1998 ، ص57-76 .
(3) عيسى العبادي : مصدر سابق ،ص 34.
(4) نزيه أبو نضال : مصدر سابق .
(5) عيسى العبادي : مصدر سابق .
(6) مجموعة : أفق التحولات ، ص 59-60 .
(7) رجاء عيد : مصدر سابق ، 57 .
(8) د. بثينة شعبان : مئة عام من الرواية النسائية العربية 1899-1999 ، تقديم محيي الدين صبحي ، دار الآداب ، بيروت ، 1999 ، ص 55.
(9) مجموعة : مصدر سابق ، ص 61 .
(10) المصدر السابق .
(11) المصدر السابق ، ص 62 .
(12) المصدر السابق ، ص 40 .
(13) جورج طرابيشي : شرق وغرب .. دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية ، دار الطليعة ، بيروت ، 1979 ، ص 71 .
(14) John Peck and Martin Coyle: Literary Terms and Criticism, Macmillan Education LTD, London, 1991, p115.
(15) رجاء عيد : مرجع سابق ، ص 57 .
(16) E. Muir: The Structure of the Novel, London, 1979, P17.
(17) J. Peck and M.Coyle: Op.Cit. P116.
(18) عيسى العبادي : مصدر سابق ،ص 82 .
(19) انظر : الفصل الأول من هذا الكتاب .
(20) تركي علي الربيعي : في التجنيس الفاشل بين الشرق والغرب : كم بدت السماء بعيدة ، القبس ، 6/ 3 / 2000 .
(21) يقول الدكتور إبراهيم خليل : ” في مثل هذه الأعمال الروائية تجتمع في المرأة طبيعتان : طبيعتها الإنسانية المجردة ، أي باعتبارها إنساناً له اهتماماته ومشاكله ، وله ضعفه وقدراته ، وله آماله وآلامة ، ثم طبيعتها الثانية باعتبارها امرأة أنثى تختلف عن الرجل”.
إبراهيم خليل : تحولات النص ، بحوث ومقالات في النقد الأدبي ، منشورات وزارة الثقافة ، عمان 1999، ص 159 .

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *