ذو النون أيوب: اليد والأرض والماء
نص دراستي في كتاب “التجربة الروائية في العراق في نصف قرن”
ينطلق ذو النون أيوب في روايته الجديدة- كما هو في أغلب أعماله- من رصده لسلبيات معينة في واقع عراق فترته، ومن مرارة تجربة له مع قيود ذلك الواقع السياسي والاجتماعي، “فهي تجربة عاشها المؤلف واكتوى بشواظها، وخرج منها لا بخسران مادي فحسب، بل بانهيار المشروع كله، ذلك الانهيار الذي جرف معه الصديق والقريب في تيارها العاتي. وأفاق صاحبنا مشدوهاً من هول الكارثة، فكانت صيحته هذه الملحمة التي عاشها عقلاً وأعصاباً”()، على حد تعبير الدكتور أكرم فاضل. غير أن الذي يختلف في هذا الجانب هو أن هذه التجربة وقعت للكاتب في الريف، وبالتالي فقد انطلقت الرواية من هنا. فهي تبدأ بمعركة فيما بين الفلاحين حول قطعة أرض صغيرة، ويؤدي الحادث إلى أن يسهم (الدكتور حسام الدين) وخطيبته (الدكتورة هيفاء) في معالجة الفلاح (سليم) من جروحه فيدعوهما هذا وصديقهما المحامي (ماجد) إلى مضارب عشيرته تعبيراً عن امتنانه لهم. وهناك تُطرح فكرة الاشتراك في مشروع زراعي، فيتحمس (ماجد) لذلك ويدخل الجميع في المشروع الذي تدخله بعد فترة قصيرة (سنية) بمبلغ من المال وبخبرتها الاقتصادية. وسرعان ما تقوى العلاقة بين (ماجد) و(سنية) ليخطبها بعد ذلك. ويتضمن المشروع شراء أرض أميرية وزراعتها. وبعكس ما تتوقّعتْه المجموعة، يبدأ المشروع بالاصطدام بمشاكل تتمثل بالآفات الزراعية، والفساد الإداري المستشري في الدوائر الزراعية، وانتشار الرشوة، وبمحاربة الإقطاع لهم. وبعد مسيرة صعبة ومعاناة متواصلة يفشل المشروع ويخرج الأصدقاء محبطين، خصوصاً بعد أن يتركهم الفلاحون الذين تحمس (ماجد) للعمل معم ومن أجلهم، دون أن يدفعوا ما بذمتهم من ديون. مع ذلك لا يخرج (ماجد) خاسراً خسارة تامة، إذ هو يخرج بخطيبته وبصديق وفيّ هو (سليم) الذي يبقى إلى جانب الأصدقاء.
وفي الفصول الأخيرة من الرواية، يتحول الكاتب بالأحداث إلى بيئة مختلفة، فنجد أنفسنا وسط مظاهرة ضد (معاهدة بورتسموث) التي تتطور إلى مصادمات مع قوى الشرطة تدفع (الدكتور حسام) و(ماجد) إلى الإسهام في إخلاء الجرحى الذي يسقطون أو يُصابون فيها. وهنا يجدان (سليم) بين هؤلاء الجرحى، فيأخذانه إلى المستشفى حيث يسعفانه بما يتبرع به (ماجد) من دم يكون بأمس الحاجة إليه. وتنتهي الرواية بما يشبه الدرس التقليدي الذي يلخص فلسفة الكاتب، وإن كن أقل مباشرة وأفضل إيصالاً مما فعله في أعماله السابقة.:
“وتبادل الأصدقاء النظرات، وقال الدكتور حسام: قد يسبب الإجهاد ضعفاً في الذاكرة بعض الأحيان لمدة وجيزة، وأرجو أن تكون حالة صاحبنا من هذه الحالات.
“فقالت هيفاء وهي تبتسم: لعله بحاجة إلى دماء أكثر مما أخذ ليستعيد نشاطه وذاكرته وليستطيع أن يفرّق بين أعدائه وأصدقائه”.()
والواقع أن الرواية تضم الكثير مما يدخل ضمن مثل هذه الدروس والوعظ التي تقود بدورها إلى أسلوب خطابي لا يتناسب والتجاوز الفني الذي حققه الكاتب في هذا العمل عن أعماله السابقة. فنحن نستبشر بالكثير من هذا التجاوز من خلال ما تعكسه الأسطر الأولى غير الاعتيادية في كتابات أيوب: “توهجت الشمس محمرة عند الأفق فصبغت مياه النهر تحتها بلون ذهبي براق يخطف الأبصار، وأخذتْ تغوص وكأنها تغطس في مياه النهر الهادئة لتبترد. وانحدر من الجرف المشرف على النهر أعرابي حافي القدمين مغبر الوجه…”(). لكن الكاتب يعود ليميل من جديد إلى تقريريته التي زاد من سلبيتها الوعظ والخطابية اللذين لوّنتا الحوار بشك خاص باللاواقعية غير المقنعة. فإنك لواجد الكثير من أمثال الخطاب الرومانسي لـ(ماجد) الذي يقول فيه للفلاحين:
“إنكم حجر الأساس في بنائنا الاقتصادي، فما دمتم تعملون كل عمركم لتغذيتنا،فمن الواجب علينا أن نسدد لكم بعض هذا الدين. إني أحب ريفكم، وكم أتمنى لو أكون مزارعاً مثلكم”().
وقد أدى هذا بالكاتب إلى تعامل واحد مع شخصياته، متناسياً الطبيعة والثقافة والمستوى الفكري لك منها، فجاءت الحوارات واحدة في لغتها ومستواها وطبيعة محتوياتها، مهما اختلفت الشخصيات المتكلمة. وهكذا لم يعد غريباً أن تجد الفلاح (سليم) مثلاً وهو يقول:
“… فقد رأى المستعمر الجديد أنّ الاستقرار يسود هذه المنطقة القريبة من بغداد حتماً إذا ما أخلد الفلاحون إلى السكينة، ولا شيء يجبرهم على ذلك أكثر من الاشتغال بالزراعة…”().
ويبدو الكاتب واعياً، أو لنقل متعمداً ما يفعله انطلاقاً، على ما يبدو، من فهمه غير الناضج للفنون القصية، وربما للأدب بشكل عام، التي يقدم فيها الوظيفة والأهداف السياسية والاجتماعية الإصلاحية والانتقادية على أي هدف أو عنصر آخر. ولذا فهو، حتى في أفضل أعماله كهذه الرواية، يعمد بشتى السبل إلى حشر مثل هذه الخطابيات الرومانسية والوعظية والمقالية، خصوصاً على لسان بطله، بل هو لم يكتف بذلك، فأقحم حتى سنية الأستاذة لتقوم بهذا الدور. ولكن مع كل ما يؤخذ على الكاتب من هذه الناحية، ومع الإقرار بواقع الافتعال في بعض ثنايا الرواية، فإننا لا نذهب، مرة أخرى، مذهب الدكتور عبد الإله أحمد حين كاد أن يرمي جل العمل بالافتعال وبغلبة النزعة التعليمية()، إذ لا يمكن إلا أن نقر بأن “اليد والأرض والماء” تحقق الكثير من الإيجابيات، خصوصاً في انخفاض تأثير هذه المآخذ قياساً بجل الأعمال السابقة، فامتلكت حبكة لا يمكن أن نسمها بالضعف، كانت نتيجة توفيق الكاتب في اعتماد خط روائي- حدثي حقيقي، وهو ما مكّنه من منح عمله عنصراً افتقدته الغالبية العظمى من أعمال العقود الأربعة الأولى من عمر الرواية العراقية، ذلك هو (الشدّ) الذي يكبّل القارئ بالرواية ويدفعه إلى مواصلة القراءة باستئناس، في ظل خفوت التقريرية والأسلوب البحثي عمّا وجدناه في رواية أيوب السابقة. هذه المزايا وغيرها وتجاوز المآخذ التي برزت في أعمال ذي النون السابقة وفي الكثير من أعمال الكُتّاب الآخرين تجعلنا نعتبر “اليد والأرض والماء” واحدة من أفضل الأعمال التي ظهرت خلال الأربعين سنة من مسيرة الرواية العراقية. لقد كانت وراء مثل هذا الإنجاز الذي حقّقه ذو النون أيوب تجربته غير القصيرة في الكتابة القصصية أولاً، وقراءاته المستمرة للآداب القصصية العربية الحديثة والأجنبية. وقد أكدت الجانب الثاني من ذلك، نعني إطلاعه على الأعمال العربية والأجنبية، الرواية الثالثة للكاتب، “الرسائل المنسية”- 1955- التي عكست تجريباً لشكل جديد، ذلك هو رواية الرسائل الذي شاع، كما هو معروف، في الغرب في القرن التاسع عشر، كما عُرف في الوطن العربي، من خلال أعمال انتشرت في النصف الأول من القرن العشرين، مثل “آلام فرتر”، و”ماجدولين”.
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …