ذو النون أيوب: الدكتور إبراهيم
نص دراستي للرواية في كتاب “التجربة الروائية في العراق في نصف قرن”
“الدكتور إبراهيم” أول عمل يتجاوز فيه ذو النون أيوب النَّفس القصير والسرعة في السرد اللذين عرف بهما في قصصه القصيرة، حين جنح فيها، سعياً وراء الأهداف السياسية والاجتماعية، نحو ذلك النفَس وتلك السرعة، مع أن عمله الجديد نفسه لا يخرج عن تلك الأهداف التي وظّف الكاتب أعماله كلها لها. في الواقع أن رواية “الدكتور إبراهيم” نبعث أصلاً من قصة قصيرة بعنوان “نحو القمة” كان الكاتب قد كتبها من قبل ونشرها ضمن مجموعته “برج بابل”- 1939- بعد أن أثارت، كما يشير هو في مقدمة الرواية، ردود فعل معينة لدى شخصيات وجدت أنفسها في بطل أبوب، فعمل الكاتب على كتابة “الدكتور إبراهيم” ليحدد موقفه خلالها من كل ذلك. إن مثل هذه الإشكالات والحوادث المصاحبة للكتابة التي أوردها الكاتب في الرواية نفسها تركت تأثيرها في الكتاب فصبغته بالتقريرية وبالأسلوب المقالي بشكل خاص. ولكن ما كان لمثل هذا التأثير السلبي أن يسلب كل إيجابياته، والاعتراف بأنه استطاع أن يكتب عملاً روائياً له ما يميزه إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ كتابته.
الرواية تأتي في تمهيد وأربعة أقسام وخاتمة. نتعرف في الفصل الأول من التمهيد، الذي هو قصة “نحو القمة” على بطلها الذي يعمل الكثير في سبيل ارتقاء أعلى المناصب، لنجد في الفصول التالية هذا البطل وهو يُبعث إنساناً حقيقياً يقابل المؤلف ويعرض عليه اقتراحاً بكتابة عمل يصور حياته في مقابل أن يقدم له كل المعلومات التي يحتاجها عن من أجل كتابة العمل. وحين يسأله الكاتب عن غايته من ذلك يجيبه (الدكتور إبراهيم) قائلاً:
“لم تُبقِ شيئاً مستوراً منها في أقصوصتك. لكن هذا الاقتضاب في الأقصوصة ليس من صالحي، فقد يكون في التفاصيل ما يقلب أقصوصتك أو يكون فيها مجال للدفاع عني، وما دمت مجنوناً بتتبع الحقائق، فإني واثق بأنك لن تتحزب ضدي، وقد تكون في النتيجة في صفي. سأسرد لك الحوادث ولك أن تستعمل قلمك في ترتيبها وتنسيقها ومزجها بالفن”().
وعند ذاك يتفقان ويبدآن في التنفيذ بأن يقوم الكاتب بزيارة البطل في بيته الاطلاع على حياته البيتية واليومية، وليتعرف على مجرى حياته، تأتينا من خلال الأقسام التالية (عهد الطفولة)، و(عهد الشباب)، و(كفاح الدكتور إبراهيم)، و(جرائم الدكتور إبراهيم)، وهي الأقسام التي يعمل الكاتب فيها على كشف طرق بطله غير البريئة التي استطاع بها تحقيق كل أهدافه ومآربه مسافراً إلى أوربا وحاصلاً على أعلى الشهادات ومتزوجاً أفضل زيجة ومتسلقاً أعلى المناصب..إلخ. وتأتي (الخاتمة) أخيراً ليخاطب فيها الكاتب، وبشكل مباشر، بطله الذي يترك العراق بعد أن تسوء الأحوال بالنسبة له، وتتهدد مكانته ومكاسبه التي قضى حياته لتحقيقها، فيقول له في آخر فقرة من الرواية:
“آخر ما أريد أن أقوله لك هو أن خططك إن انطلت على شعب ساذج في أول حياته السياسية، فسوف لا تنطلي على أمة راقية كالأمم الأوربية والأمريكية، فحذار أيها الرجل، وإلا كان السجن مأواك، والاحتقار نصيبك، والسلام”().
إن هذه الفقرة تحمل الكثير مما يمكن أن تعكسه الرواية كلها أسلوباً ومضموناً. لقد أراد الكاتب أن يكشف للقارئ عن خبايا الواقع السياسي والاجتماعي في الثلاثينات، من خلال بطله الذي يعتقد أن أمثاله موجودون في ذلك الواقع. إن اهتمام الكاتب بذلك قد حال، كما في أغلب قصصه القصيرة، دون الاهتمام الكافي بالحوادث والخط الدرامي الذي بدونه تفقد الرواية الكثير من حيويتها وفنيتها. ومع ذلك فنحن لا نذهب بشكل كلي مذهب الدكتور عبد الإله أحمد في موقفه السلبي من الرواية، وكأنه يتناسى تاريخ كتابتها وينسى الشوط القصير الذي كانت قد قطعته آنذاك الرواية العراقية، ويقول: “والواقع أن المؤلف لم يقدم (الدكتور إبراهيم) رواية بالمعنى المفهوم للرواية الفنية، وإنما قدم بحثاً موضوعياً، اتخذ الشكل القصصي إطاراً له كدأبه”(). وحين نقول نحن لا نذهب بشكل كلي مذهب الدكتور عبد الإله، فإنما نشير ضمناً إلى ما في مذهبه من صحة، خصوصاً وأن أيوب كثيراً ما يركز في بعض الفصول على الموضوع الذي يريد أن يقدمه لقارئ فيتناسى الجوانب الفنية، كما أن التأثير الأساسي لاعتماد مثل ذلك الهدف قد وقع على بناء الرواية، فجاء بحثياً في سير مفردات الموضوع وفي تقسيم الرواية، وفي ضعف العلاقة السردية ما بين فصولها وبعض فقراتها. وعموماً، وبأخذ طبيعة الأعمال الصادرة خلال عقدين من السنين، يبقى (الدكتور إبراهيم) واحداً من أفضل ثلاثة أعمال، والعملان الآخران هما: (جلال خالد)، و(مجنونان).
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …