دلال خليفة، أشجار البراري البعيدة

قراءة في رواية قطرية رائدة
“أشجار البراري البعيدة” لدلال خليفة
الآخر حين لا يكون خياراً
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
بعد قراءة بضع روايات قطرية أصابتني بإحباط لافتقادها الفن والوعي الفني، خصوصاً وهي من إصدارات السنوات الثلاث الأخيرة، بدأتُ بتراخ وقلّة حماس بقراءة رواية دلال خليفة “أشجار البراري البعيدة”(*)، لتكون المفاجأة التي جاءت مثل رشاش ماء أنعش فيَ الأمل وأنا استشعر، ومن خلال ملامح منه في الصفحات الأولى منها، ما سيأتي. فأنا لم أجد، في تاريخ الرواية العربية المسجّل، شيئاً عن الرواية القطرية، كما لم أجد، بين الروايات المشاركة في جائزة البوكر للعام الفائت، رواية قطرية واحدة. أما في كتابي “نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة”، فقد أعددتُ ملحقاً بمئتي رواية عربية تتعامل مع الآخر الغربي، فحضرت فيه روايات من جميع الأقطار العربية عدا قطرين أو ثلاثة ومنها قطر. واليوم تقع بين يديّ هذه الرواية القطرية التي نُفاجأ بأنها صادرة في طبعتها الأولى عام 1994، وهي تعكس نضجاً غير عادي، كما أنها لكاتبة، ونحن نعرف قلة عدد الروائيات العربيات اللائي لم يزدن بشكل ملحوظ إلا خلال العقدين الأخيرين، وفوق ذلك هي تعالج (لقاء الشرق والغرب)، وموضوعة (الآخر) وتحديداً الغربي، وتُظهر وعياً بهذا الموضوع أكثر وأنضج من الكثير ممن تناولوه في رواياتهم، كما سنأتي إلى هذا بعد قليل.
فأين كانت هذه الرواية مختبئة؟، ولماذا لم ينتبه إليها النقاد العرب؟، وقبلهم القطريون دارسين ونقاداً ورسميين؟. بل هل لي أن أتساءل: لماذا غُيّبت هذه الروائية؟ هل معقول أن يحضر روائيون خليجيون مثل إسماعيل فهد إسماعيل وعبده خال وعلي أبو الريش وسعود المظفر وفوزية رشيد، وكلهم يستحقون ذلك بالطبع، ولا تحضر معهم دلال خليفة؟ وهل معقول أن تحضر روائيات عربيات مثل أحلام مستغانمي وسلوى بكر وليلى العثمان وهيفاء البيطار ورجاء العالم وميسلون هادي وحنان الشيخ، وكلهن يستحقن ذلك، ولا تحضر معهن دلال خليفة؟.. أمر غريب أن تغيب هذه الروائية وهي عندي تتقدم على الكثير من هؤلاء الروائيين وأولئك الروائيات. وهذا في الحقيقة بعض مبررات هذه الوقفة عند روايتها “أشجار البراري البعيدة”.

( 2 )
تبدأ الرواية بـ(نورة) تجري مبتعدة عن (خالد) باكية لتلجأ إلى غرفة الكومبيوتر، وسريعاً تقول: “أنا المرأة التي تقف برجاً عالياً متيناً أمام كل شيء، برجاً كانت له صور مختلفة في خيالي والآن عرفت أنه أشبه ببرج بيزا المائل. نعم، وبعد كل هذه السنين عرفت ما أنا حقّاً”- ص12. ماذا تعني؟ وما الذي حدث بينها وبين خالد، الذي سنعرف بعد حين أنه زوجها، لتنسحب باكية؟. للإجابة على ذلك يبدأ خط الرواية باسترجاع مسيرة حياة البطلة، وفق البناء الدائري، إذ ستنتهي بوصول خطها إلى لحظة البدء. ووفقاً لمسيرة حياة البطلة هذه تتوزع الرواية على ثلاثة أقسام، وإن لم تقسّمها الكاتبة شكلياً، هي: مرحلة الطفولة والصبا والمدرسة قبل السفر، ثم مرحلة الدراسة في بريطانيا، وأخيراً مرحلة ما بعد بريطانيا والعودة إلى الأهل والوطن. ولأن مرحلة بريطانيا تؤسس المحور الوحيد، بين محاور عديدة في الرواية، الذي يكتفي بنفسه مع استكمال بعض متطلباته من المرحلة السابقة والمرحلة اللاحقة، نعتقد أن الرواية كانت ستكون أكثر تماسكاً وإقناعاً من الناحية الفنية لو أن الكاتبة بنتها عليها.
الواقع أن الرواية معيارياً كان من الممكن أن تكون متكاملة لولا أحداث وشخصيات وتفرعات لا تعني الكثير لخطها الرئيس، كما تفعل مع رحلة بطلتها مع مجموعة من الطلبة، وحادثة تقدّم (جاسم)، الطالب الفاسد أيام بريطانيا، إلى (نورة) للزواج بعد العودة إلى الوطن، وبعض أحداث العائلة وأفرادها. لكن مثل هذا كله لم يُخل بالرواية وخطها، باستثناء خط (هيا) أخت (نورة) وعائلتها الذي كاد يُفسد الرواية لولا أمرين خفّفا من وقعه عليها: الأول حاجة الرواية لا إلى الخط الحالي بل إلى محتواه، وبما يعني أن صفحة واحدة أو نحوها منه كانت ستكفي. والأمر الثاني أن الكاتبة تنتهي من هذا الخط وتعود إلى الامتداد الطبيعي لخط الرواية الرئيس.
عدا هذا (الإقحام)، لا تأتي الكاتبة على أي شيء آخر بشكل مفاجئ أو صادم أو مقحم، بل عادة ما تنخرط المرأة والعائلة والفكر وبعض تجارب الغربة، إلى السرد بشكل مقنع وسلس ومتوائم مع المحيط والسياق والشخصيات، لتجد نفسك، قارئاً، مع ذلك كله على ألفة واقتناع ورضا، وهو يأتي متوائماً مع البوح والنفس الإنساني والأسلوب الجميل، إضافة إلى اللغة السردية الرصينة والمعبرة دائماً، والإيحائية في كثير من الأحيان. بل إننا لنحس بحميمية في تعامل الكاتبة مع كل شيء في الرواية، عالماً وشخصيات وأفكاراً وأحداثاً، مما يجعلك قارئاً تحس وكأن الروائية جزء من الرواية خصوصاً وأنها ترويها بضمير المتكلم. وتميل لغتها في ذلك كله إلى الشاعرية، ولكن الكاتبة حتى في هذا لا تسلّم نفسها وسردها لهذه الشاعرية، كما تفعل مستغانمي مثلاً، فتفقد بعض طاقاتها السردية.

( 3 )
في الانتقال إلى اللقاء بين الشرق والغرب وموضوعة (الآخر)، تعالج رواية دلال خليفة موضوعة الآخر، من خلال تجربة امرأة عربية مع الآخر الرجل. هنا نحن نعرف أن الرواية العربية قد تعاملت مع الآخر واللقاء ما بين الشرق والغرب منذ بدايات تاريخها ولحد الآن، وأن عدد الروايات العربية التي فعلت ذلك كثيرة نسبياً، ومن أشهرها: “عصفور من الشرق”- 1938- لتوفيق الحكيم، و”قنديل أم هاشم”- 1944- ليحيى حقي، و”الحي اللاتيني”- 1953- ليوسف إدريس، و”موسم الهجرة إلى الشمال”- 1966- للطيب صالح، و”ليلة في القطار”- 1974- لعيسى الناعوري، و”نيويورك 80″ ليوسف إدريس وغيرها. ولكن جل هذه الروايات وغيرها قدمت اللقاء ما بين الشرق والغرب من خلال تجربة رجل عربي ومتمثّلة عادةً في علاقتة بالمرأة الغربية.
وهناك قليل من الروايات، وغالباً ما تكون نسوية، قدمت علاقة الشرق والغرب من خلال تجربة امرأة عربية، ولكن غالباً بدون أن تكون مقرونة بعلاقة لها برجل غربي، كما فعلت مثلاً روايات: “السابقون واللاحقون”- 1972- و”الثنائية اللندنية”- 1979- وكلاهما لسميرة المانع، و”الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أمريكا”- 1983- لرضوى عاشور، و”من بجرؤ على الشوق”-1989- لحميدة نعنع، وغيرها قليل. أما عدد الروايات اللائي قدمن تجربة امرأة عربية مع رجل غربي وتحديداً من خلال علاقة حب أو زواج فلا يتجاوزن عدد أصابع اليد. وهنا تأتي “أشجار البراري البعيدة” إحدى هذه الروايات، بل لم يسبقها، بحدود علمنا، إلا روايتان أو ثلاث، وأولها “ليلة واحدة”- 1961- لكوليت خوري، و”الحياة في خطر”- 1977- لوفية خيري، و”الوطن في العينين”- 1979- لحميدة نعنع، ولا نظن قد فاتنا- إن فاتنا- أكثر من رواية أو اثنتين أخريين. ويبقى عدد ما صدر بعد رواية دلال خليفة، وقدم هكذا علاقة، محدوداً جداً، ومنه: “قبو العابسيين”- 1995- لهيفاء البيطار، و”كم بدت السماء قريبة”- 1999- لبتول الخضيري، و”إنها لندن يا عزيزي”- 2000، لحنان الشيخ.
وبطلة “أشجار البراري البعيدة”، كما الكاتبة، تتجاوز، القالب الخاطئ الذي عبّرت به الكثير من الروايات عن اللقاء ما بين الشرقي أو العربي والغربي، والمتمثّل في علاقة الرجل العربي الدون جوان والأمير والساحر من جهة والمرأة الغربية المسحورة بالعربي من جهة أخرى، حين عبّرت عن ذلك بما هو غير مسبوق من الصراحة فتقول على لسان بطلتها: “إن كثيراً من الإنكليزيات ينظرن إلى العربي أيّاً كان كفارس من فيلم لورنس العرب، مما يمثل لديهن رمزاً للرجولة من بعض النواحي، ولكن هذا لا يجتذب فتيات الأوساط الراقية قدر ما يجتذب المبتذلات اللواتي يستطعن إغماض أعينهن عن كل الحقائق المزرية في هذه الرموز المهلهلة من أجل تجربة خيالاتهن عن العربي”- ص52.
(نورة)، بطلة رواية دلال خليفة، شخصية تدرس الرياضيات وتعشق وترى أن الأرقام تتحكم بكل شيء في الحياة. لكنها كانت، من حيث تعلم أو لا تعلم، وكما ربما توحي به المقدمة التي مرّت بنا، تبحث عن نفسها وهويتها وجوهرها. ولأنها لم تكن لتفلح في هذا هي بنفسها، فقد كانت بحاجة إلى الآخر الذي يختلف معها أكبر اختلاف ممكن، فمعروف أنك لا تستطيع معرفة نفسك حق معرفة إلا من خلال الآخر.. فتمثّل هذا الآخر في الرواية بالإنكليزي (دونالد) الذي، كونه رجلاً وغير عربي وفوق ذلك يُعنى باللغة والشعر، يشكل أقصى الاختلاف، وعبّرت البطلة عن ذلك برمزية إشارتها في أول لقاء بينهما، “لفت نظري عيناه الرماديتان إذ لم أكن قد رأيت عينين رماديتين في حياتي قبلهما، لذلك فربما بدا على وجهي شيء من الاستغراب”- ص71. دونالد شخصية مرحة وممتلئة حياةً، مما يبدو كأن (نورة) كانت تحتاجه ليتفجر أو يتحرك فيها ما لا تعرف هي نفسها أنها تمتلكه. الواقع أن سلوك دونالد وتعامله “أشار إلى وجود جانب إنساني هش داخلي لم يره أحد قبل ذلك، فقد اعتدتُ أن أراعي ذلك الجانب الهش في كل إنسان مقرّب إليّ وأظن أني خالية منه لأني خُلقت بشكل مختلف صلب يعطي ولا يحتاج إلى العطاء… وبعد أن فكرت طويلاً قررت مؤقتاً قبول تلك الحقيقة ووجدتُ أنه من الممتع أن أكون مثل باقي البشر”- ص75. وفعلاً يبدأ يؤثر ويغير فيها شيئاً، ولاسيما حين تقرأ قصيدة لكيتس استجابة لطلبه، ولكن دون أن يعني هذا التأثّر من جانبها فقط، بل تأثّره بها، وهو ما يمكن أن نعبّر عنه بالتأثير والتأثر الإيجابيين، وهو ما تعبر عنه ملاحظتها التي تقولها له بعد قراءة القصيدة:
“- دونالد، لقد أصبحتُ أفهم لغتك ولا أعني الإنكليزية، فهل تفهم أنت لغتي؟ ولا أعني العربية طبعاً”- ص76.

( 4 )
ولأن اللقاء حباً وأكثر من ذلك زواجاً بين امرأة شرقية أو عربية ورجل غربي هو من النوادر، ولأن الرواية لم تستطع، على ما يبدو، تفادي هكذا لقاء يتطور إلى علاقة حب جميلة ما بين (نورة) و(دونالد)، فإنه لم يكن له أن يكون خياراً، ولهذا فالكاتبة تمهّد لعلاقة الحب نهاية حين تقول بطلتها: “… أما عندما عرفته أكثر فقد اكتشفت أنه مختلف عن الانطباع الذي يتركه في المرة الأولى، مثقف ومطّلع بطبيعة الحال ولكنه أيضاً حاد الطبع ساخر، وصعب المعشر أحياناً على الرغم من طيبته”- ص79، لتأتي النهاية من خلال الرمز نفسه الذي يدلّ على الاختلاف، حيث “كان واقفاً مطرق الرأس حتى أغلقت أبواب القطار، فرفعنا رؤوسنا وافتعلنا ابتسامة، ثم تحرك القطار وكان آخر ما رأيته في المحطة عينين رماديتين واسعتين يشوبهما الحزن”- ص102.
وستتأكد نهاية العلاقة تماماً بعد عودة (نورة) إلى الوطن بمدة، فإذا لم نفهم لماذا عمدتْ إلى حرق رسائل (دونالد)، فإنها ربما تجيب على تساؤلنا في المانع أو الموانع الواقعية بالآتي:
“تذكرت أنني في قرارة نفسي أعتبر زواج اثنين من سلالتين بشريتين مختلفتين زواجاً غير طبيعي وغير جاد، ولو تجاوزت هذه النقطة ما كنت لأستطيع أن أربي أطفالاً في تلك الديار التي نبذت كل ما نقد~سه والتي تختلف عنّا في كل شيء، وما كان دونالد سيطيق الحياة إلى الأبد هنا معي وإنْ غيّر دينه… وهذا ما جعلني أساساً أقاوم عاطفتي واتخلّى عن دونالد”- ص111.
وتداخلتْ، مع إشكالية علاقة امرأة عربية شرقية برجل غربي، إشكالية المرأة العربية عموماً، ولاسيما الخليجية، التي تريد أن تتعلم، وهو ما يُدخلها في ما يشبه المأزق ما بين ما تريده هي وما يريده المجتمع والموروث لها. وإذا ما تحقق الحسم بشأن العلاقة ما بين العربية والغربي، فإن إشكالية المرأة العربية بين ما يريد المجتمع والقيم لها أن تكون: امرأة وأن تتزوج وتُنجب وتنحني لكل القيم والعادات والتقاليد والموروث عموماً، وما تريده هي: الحرية والإرادة والحب والدراسة والعمل وامتلاك نفسها، تبقى بدون إجابة قاطعة بعد انتهاء الرواية، حتى وإن بدا أن هذه المرأة ممثّلة بـ(نورة) قد اقتنعت بالعودة إلى الواقع:
“حاولت أن أنهض لأبدأ الخطوة الأولى، فوجدتُ نفسي عاجزة تماماً عن القيام بها… تنهدتُ وأنا أعد نفسي لصراع آخر، لشن أضرى معاركي، محاولة تغيير نفسي”- ص190.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • دلال خليفة: أشجار البراري البعيدة، رواية، ط2، مكتبة حسن العصرية، بيروت، ط2، 2010.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *