عبد الرزاق المطلبي

عبد الرزاق المطلبي
دوره ومكانته في الريادة الفنية للرواية العراقية

د. نجم عبدالله كاظم
لا جدال في أن عبد الرزاق المطلبي، روائياً وقاصّاً، يمتلك الكثير مما يميزه عن الكثير من الروائيين العراقيين، شأنه في ذلك شأن كُتّابها الكبار، مما جعل أوجهَ تميّزه، صراحةً وضمناً، محط اهتمام الدارسين والنقاد في دراساتهم ونقودهم. وإذا كان هذا يقع ضمن اهتمام مقالنا، فإن محدودية المساحة المتاحة لنا في هذا المقال نجعلنا نكتفي بوقفة عند إحدى ميزات المطلبي التي لا تُدخلنا في تفاصيل التناول النقدي لأعماله. نتكلم هنا تحديداً عن دور الكاتب ومكانته في الريادة الفنية للرواية العراقية التي ارتبطت، وبما يقترب من إجماع النقاد والدارسين لهذه الرواية، بغائب طعمة فرمان وروايته الشهيرة “النخلة والجيران”.
معورف أن “النخلة والجيران” حين ظهرت عام 1966 قسّمت تاريخ الرواية في العراق إلى قسمين رئيسين: ما قبل “النخلة والجيران” وما بعدها. فبها أطلق فرمان مسيرة الرواية الفنية فعلاً، الأمر الذي توّجه رائداً لهذه الرواية. فحتى إن تجاوزنا الرأي، غير الدقيق، القائل بقيام الريادة في الأدب على السبق التاريخي المتحقّق لهذا الكاتب، واستحضرنا معايير تحديد الريادة والرواد فإننا سنجد تأكيداً لاستحقاقَه هو وعمله لريادة الرواية الفنية في العراق. ولكنّ هذه المعايير ذاتها، وهذا الذي يهمّنا هنا، تكشف عن أن هناك روائيين آخرين يحضرون إلى جانب فرمان، وروايات أخرى له ولغيره تحضر إلى جانب “النخلة والجيران”، لتشارك في هذه الريادة، أو على الأقل تعززها وتمنحها الشرعية النقدية. فأهم هذه المعايير التي يقول بها الكثير من النقاد والدارسين ومؤرّخي الأدب هي: السبق التأريخي، وأنْ لا يكون عمل الأديب فردياً ومعزولاً، بعبارة أخرى أنْ لا يقتصر نشاط الأديب في المجال المعني على العمل الذي يُصنّف على أنه رائد، بل يمتد إلى أعمال أخرى، وأنْ يتواصل نشاط الكاتب زمنياً، وأنْ تُصاحب النشاطَ الإبداعي الريادي حركة نقدية تتناوله وتنظّر له، وأنْ يثير النشاط (الريادي) هذا ردودَ أفعالٍ مؤيدة ومعارضة، وأخيراً أنْ يشارك الأديبَ (الرائد)، في نشاطه الريادي، أدباءُ آخرون.
فما يهمّنا هنا من هذه المعايير، التي تنطبق تماماً على غائب طعمة فرمان وروايته “النخلة والجيران”، هو المعيار الأخير. فمن المؤكد أن عمل فرمان الفني الأول لم يأتِ صدفة، بل إنّ أعمالاً أخرى مهمة، لكنها لم تحقق متطلبات الرواية الفنية تماماً، سبقته ومهدت للريادة الفنية، ولنا أن نذكر منها: “الأخطبوط”- 1958- و”السجين”- 1961- لأنيس زكي حسن، و”حياة قاسية”- 1959- لشاكر خصباك، و”الوجه الآخر”- 1960- لفؤاد التكرلي، و”الأيام المضيئة”- 1961- لشاكر جابر، و”الزقاق المسدود” و”كما يموت الآخرون”- 1965- لياسين حسين. والأهم، تعلقاً بريادة رواية فرمان، أنها تعزّزت بإصدار الروائي نفسه لروايته الرائدة الثانية “خمسة أصوات” عام 1967، وبصدور أعمال روائية أخرى لروائيين آخرين. وإذا لم يكن أكثر أصحاب تلك الأعمال قد اقتربوا فنّياً من إنجازه أو أنّ أعمالهم تأخرت زمنياً عنها، مثل برهان الخطيب في “ضباب في الظهيرة”- 1968- ومنير عبد الأمير في “رجلان على السلالم”- 1968- فإن رواية عبد الرزاق المطلبي الأولى “الظامئون” لم تتأخر كثيراً زمنياً عن رواية فرمان الأولى فصدرت متزامنة مع روايته الثانية “خمسة أصوات”، عام 1967، كما أنها اقتربت مما حققه فرمان، فاستجاب بذلك للمعيار الأخير للريادة، خصوصاً أنها قد أكّدت، في ذلك كله، أن الوعي الفني هو أكثر من أن يكون فردياً. وعليه فإنه لصحيح القول إن الرواية العراقية قد بدأت مسيرتها الفنية بأعمال فرمان والمطلبي، وإن السنوات التي شهدت صدور روايتي فرمان ورواية المطلبي وبعض الأعمال الأخرى التي أشرنا إليها قد شكل مرحلة الريادة بحق. كما أن مواصلة المطلبي في كتابة الرواية قد عزّز مشاركته لحركة الريادة الفنية وأغناها، ومن هنا تأتي وقفتنا عنده وعند روايته. بقي أن نقول إن “الظامئون” تكتسب أهميتها غير العادية التي لا يمكن للمؤرخ إلا أن يلتفت إليها من الآتي:
-كان مؤلفها شاباً لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وكانت روايته هي عملاً أول ضمن تجربة ستتواصل.
-إنها دعمت ريادة فرمان، كما قلنا، بل ما كانت ريادة فرمان، من خلال رواية “النخلة والجيران”، لتكتمل تماماً بدون الأعمال التي رافقتها وتلتها، وأولاها رواية فرمان الثانية “خمسة أصوات” ورواية المطلبي “الظامئون”.
-واضح أن المطلبي عمل على محاكاة الكتابة الغربية، وإنْ بدرجة، للرواية، وهي محاكاة اقترنت بوعي واضح منه.
-وتعلّقاً بذلك، هي غادرت أسلوب الحكي التقليدي الذي كان مهيمناً على جلّ المحاولات الروائية العراقية خلال العقود الخمسة السابقة، واعتمد فيها كاتبها أسلوب السرد الحديث، وهما الميزتان اللتان ميّزاها، إلى جانب روايتي فرمان، عن أكثر من خمس عشرة محاولة روائية عراقية صدرت سنتي 66 و67،
-بعد أن كانت المحاولات الروائية تقوم، موضوعاً ومضموناً، غالباً على الصراع التقليدي بين الخير والشر، وبين والأنا أو النحن والعدو، وبين المحب والمنافس على المحبوب، قامت “الظامئون” على الصراع غير التقليدي بين فكرين أو توجّهين تُمثّلهما مجموعتان بشريتان.
وتعلّقاً بالنقطة الأخيرة، قد يجد البعض أن “الظامئون” قامت على موضوع جديد في الرواية العراقية، حضر بشكل أقلّ فنية من قبل في رواية ذي النون أيوب “اليد والأرض والماء”- 1948، إذ هي تصور مجموعة من سكان الريف والبادية وهم يكافحون من أجل البقاء والثبات في أرضهم خلال فترة مجدية يمرّون بها. تنقسم هذه (المجموعة)، تبعاً لمواقفها المتباينة من الأزمة، إلى مجموعتين رئيستين، مع وجود آخرين غير محددين لمواقفهم بشكل قاطع أو حاسم. المجموعة الأولى تقاوم الطبيعة من خلال بحثها عن الماء في الأرض، بعد أن تحجب السماء عنها المطر. وتتمثل هذه المجموعة ومواقفها بشخصيتين رئيستين، الزاير راضي وابنه هاشم. أما المجموعة الثانية فهي لا تؤمن بعطاء الأرض ولا بالإنسان بشكل كاف ليجعلها تسعى لإيجاد بديل عن المطر، لذا فهي تنتظر– فقط– نزول المطر، وفي النهاية، حين تفقد الأمل في ذلك، تتخذ قرارها السبي بترك (البلدة). والمطلبي ينجح في هذه الرواية في أمرين رئيسين:
الأول: تصعيد الصراع الذي يبدأ بين الإنسان والطبيعة ليتحول إلى صراع بين الأمل والإصرار والإنسان الايجابي من جهة، واليأس والتخاذل والإنسان السلبي من جهة أخرى.
الأمر الثاني: تجسيد ارتباط الإنسان بشكل مصيري بالأرض.
والواقع أن الكاتب يربط بذكاء كل فرد من أهالي القرية بالأرض، فبقاء المجموعة الأولى نابع من إيمانها بهذه الأرض، بينما تهجر المجموعة الثانية القرية بحثاً عن أرض جديدة تكون معطاء بعد أن تفقد الأمل في أرضها. بقي أن نقول إن “الظامئون” إذ تحقق تميزاً، إذا ما أخذنا تاريخ نشرها وكونها البداية في مسيرة الكاتب، فإنها تبقى أيضاً إنجازاً فنياً.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

محي الدين زنكنة دراسات تطبيقية مقارنة

الكافكاويةفي روايات محي الدين زنكنه أ د. نجم عبدالله كاظمأستاذ النقد والأدب المقارن والحديثكلية الآداب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *